حتمية الارتقاء بالخطاب المنبري لمعالجة مشكلات المجتمع

أحيا أمس الأول أئمة المساجد يومهم الوطني الذي أقره رئيس الجمهورية بأنشطة علمية وثقافية وتربوية شملت ربوع الوطن شاركهم فيها عموم المواطنين، استحضروا من خلالها أهمية الرسالة الدعوية والحضارية الملقاة عليهم، ودورهم الرسالي تجاه المجتمع فيما يرتبط بالتعليم الشرعي والإصلاح الاجتماعي والتربية على أسس إسلامية سليمة، وهو دور هام وخطير لاسيما في هذه الظروف؛ لأن المسجد يؤدي رسالته جنبا إلى جنب مع مختلف مؤسسات الدولة في إصلاح المجتمع ونشر السلم والمودة والرحمة والطمأنينة بين أبنائه، ونشر الوعي في صفوفه، ورسالته لم تعد قاصرة على مجرد أداء الصلوات وإلقاء الخطب الوعظية؛ بل تتعدى إلى التربية والتعليم، والتعليم القرآني، وجلسات الصلح
 وعقود الزواج.

وفي طل هذا الواقع المحلي والإقليمي، وما يفرضه من تحديات اجتماعية وحضارية،  فإن الإمام مطالب بتقديم خطاب مسجدي راق ومعتدل يعكس رقي هذا الدين واعتداله وسماحته؛ بعيدا عن كل أنماط التشنج والغلو، خطاب يعكس المرجعية العقدية والمذهبية للأمة الجزائرية التي اختارتها لنفسها وجاهدت من أجلها منذ وطئت أقدام الفاتحين هذه الديار، دون تعصب أو انغلاق، خطاب يعزز وحدة الأمة وينبذ الفرقة والانقسام، ولا يدعي لنفسه احتكار الحقيقة أو مصادرة الآراء، خطاب واقعي غير محلق في عالم المثل؛ حيث يبدو ضربا من ضرورب عوالم المدن الفاضلة؛ مما يسبب الإحباط عند المستمع بعجزه عن محاكاة ما يطرح والارتقاء إليه، لأن تقديم خطاب منبري استعلائي غير واقعي؛ سواء من خلال نماذج تاريخية مثالية أو من خلال عرض مقولات أخلاقية كاملة تحث المستمع على أن يكون ملاكا لا إنسانا، لا يزيد مشكلات الناس إلا تعقيدا ولا يقربهم من الفهم الحقيقي لهذا الدين، والتطبيق السليم لأحكامه وآدابه، لذلك ينبغي أن يكون خطابا عمليا مباشرا مقولاته قابلة للتجسيد في الواقع المعيش؛ لاسيما إن قرنها بترغيب في أجر  عاجل وآجل، ومشروع عملي يسهم فيه الإمام مع مستمعيه.
خطاب ينأى بنفسه عن القضايا الهامشية والجزئيات التي تقدم الالتزام بالدين كشكليات ومظاهر بعيدا عن الجوهر والأدب وإصلاح النفس وتطهير القلب الذي يعد أساس كل عملية إصلاح للفرد، خطاب يرتبط أكثر بالقرآن الكريم أكثر من ارتباطه بالآثار وأقوال الرجال؛ لأن القرآن هو النور الذي يحيي النفوس، وله مفعول عظيم في مستمعيه، وله نظم خاص معجز يربي النفوس تدريجيا بيسر واعتدال  وحكمة ربانية بالغة؛ لأن الله تعالى خالق البشر وهو الذي يعلم ما يصلحهم، قال الله تعالى: ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) ولذلك كانت جل خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى فوق منبره، فإن أعطيت الأولوية في الخطاب المنبري لغير القرآن فقد ضلت بنا سبل الهداية والإصلاح، خطاب عصري غير ماضوي، يعيش عصره ويخاطب أبناءه فلا يغرق في الماضي ويقدمه الأنموذج الأحد للالتزام؛ لأن لكل فترة تاريخية ظروفها ومعطياتها الاجتماعية والسياسية والنفسية والحضارية، ومحاولة جعل الماضي دوما هو الأفضل يعد تشويها للدين وتعسيرا على التمكين له؛ فالقرآن يخاطب البشر في مختلف الحقب، وهم يطبقون أحكامه في عصرهم وليس في عصور غيرهم، والأيام دول ومنحنياته صاعدة ونازلة، وفي كل عصر فضائل ورذائل وصالحون وفاسدون، ولعل تاريخ الجزائر يبين هذه الحقيقة لمن كان مطلعا عليه، فحاضرنا أفضل بكثير من ماضينا القريب؛ حين كان الاستعمار، وكانت المساجد تهدم والكنائس ترفع، واليوم بفضل الله تعالى تحصي الجزائر أزيد من عشرين ألف مسجد وربما بضع كنائس، بعد أن عدد المساجد يوم الاستقلال يربو على المائة بقليل فقط !
ولئن كان احترام الإمام مهنيا واجتماعيا واجب فإنه مطالب لتحقيق ما قلناه بالازدياد من العلم وجعله ديدنه مدى الحياة، وأن يمثل القدوة في المجتمع، وأن يعيش في واقع المجتمع حتى يكون خطابه منسجما ومصلحا، وأن يخاطب الناس بقدر ما يفهمون وبقدر ما يستطيعون تطبيقه والالتزام به.
ع/خ

الدور المنوط بالإمام في زمن التقنية
لا شك أن الأئمة هم حراس الدين والمبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة الحق والهدى .فقد امتدح الله عز وجل عملهم بقوله : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت كما دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرشد فقال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين ) ولعظم الإمامة ورد التوجيه بتقديم الأصلح والأعلم لها فعن أبن مسعود رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللهِ وأقدمُهم قراءةً. فإن كانت قراءتُهم سواءً فلْيَؤُمَّهم أقدمُهم هجرةً. فإن كانوا في الهجرةِ سواءً فليؤمَّهم أكبرُهم سِنًّا. ولا تُؤمَّنَّ الرجلَ في أهلِه ولا في سلطانِه. ولا تجلسْ على تكرِمَتِه، في بيتِه، إلا أن يأذنَ لك. أو بإذنِه) [صحيح مسلم: 673]،
قال الإمام أحمد في رسالته: ومن الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين، والأفضل منهم أهل العلم بالله تعالى الذين يخافون الله ويراقبونه». و من واجبنا في يومهم المبارك تنبيههم إلى بعض المهارات التي يجب أن يتسلحوا بها في زمن كثـر فيه الخلاف وتوسعت المعرفة وسهل الحصول عليها وتعددت الفتن وظهرت العديد من التحديات فرضها التطور التقني والإعلامي . والتي منها:
(أولا) الحرص على الخطاب الوسطي الجامع المعتدل الذي يجمع ولا يفرقن ويبث اليسر لا العسر، والتبشير لا التنفير، والعفو والصفح لا البغي والانتقام، والرفق واللين لا العنف والغلو.
(ثانيا) ضرورة أن يكون الإمام مطلعا على اهتمامات الجمهور من العامة أو الخاصة وأن يقدم خطابا يناسب الفئة التي يخاطب والوسيلة التي يستعملها
(ثالثا) الحذر عند استعمال وسائل التواصل الاجتماعي خاصة بعدم التعريض بالكلام أو استخدامها للانتصار للنفس أو بث الكراهية بين الجمهور عن قصد أو غير قصد .
(رابعا) عدم التسرع في التعليق على الأحداث الوطنية والدولية فكما يقال زلة الإمام لا تغتفر
(خامسا) الوعي بأهمية هذه الوسائل عند الشباب بتوجيههم بما يفيد أمتهم وما يعلي به شأن وطننا الحبيب.
و(أخيرا) فليتذكر الأئمة أنهم من ورثة الأنبياء وأن أول إمام هو محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تحدث أطرقت الآذان له وانحنت الرؤوس إجلالا له ولله در القائل حين قال: إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا وإن نحن أضللن الطريق ولم نجد ... دليلا كفانا نور وجهك هاديا.
 فانتبهوا فأنتم قدوة ونحن في زمن انهارت فيه القدوات ولم يعد للشباب إلا السفهاء ليقتدوا بهم فكونوا في مستوى الأمانة يرحمكم الله، والقدوة تصنعونها أنتم أولا بفقهكم وأخلاقكم وحكمتكم ثم يثمنها المجتمع.

هذا اليوم يومك يا همــــــــــــام
تقدَّمْ لَا أبا لك يا إمامُ               فهذا الْيوم يومُك يا هُمامُ
تقدَّمْ شامخًا بين الْبرايا       كما كان الْجهابِذةُ الْكرامُ
فأنت خليفةُ الْمختار فِينا       وتاجُ الْعزِّ لاتعْلوهُ هَامُ
معاذ اللَّه أنْ ألقَى شبيهًا     فأنت الْفخرُ دومًا والْوِسامُ
فأهلُ اللَّه للدُّنيا شموسُُ  وَلوْلا الشَّمس ما عاشَ الْأَنامُ
كتابُ اللَّه يُعلِي كلَّ عبدِِ      ويكْرمُهُ إذا حَانَ الْختامُ
مقامُك في نُفوسِ النَّاس عالِِ   مَقامُ لا يُنَازَعُ أو يُضَامُ
فأنت الرِّفد إنْ ساءتْ ظروفُُ وأنت النُّور إنْ حَلَّ الظَّلامُ
فكم داوَيْتَ من جرحِ عميقِِ تَدَاعى   دونَه الْموْت الزُّؤامُ
و كم أصْلحتَ من فَتْقِ بِبَيْتِِ فعَادَ الدّفِءُ يَسْرِي والسَّلامُ
و كم آوَيْتَ من ظَهْرِ مَهِيضِِ  أصابَتْه الْأَعاصير الْجسَامُ
وكم حاربتَ من جهلِ تفَشّى  وغَطّى مِثلمَا غَطّى السُّخَامُ
و كم أحْيَيْتَ من نفسِ بوَعْظِِ     رقيقِِ لا يُجارِيهِ كلامُ
وكم نافَحْت عن عرْضِ وأرضِِ  وتاريخِ كسَاهُ الْإِحترامُ
فلولا سعيُكُم ما سادَ دينُُ     ولا عُلِمَ الْحلالُ أو الْحرامُ
سِلاحُك أيُّها الْغالِي علومُُ     وأخلاقُُ وفهمُُ والْتِزامُ
و غاياتُُ تسَطِّرها تِباعًا وحرْصُُ و اجْتهادُُ وانْتِظامُ
صلاحُك فيه إصْلاحُ وخيْرُُ فأنت الْقلبُ فينَا والْعِظَامُ
أُعِيذُكَ أنْ تصِيرَ إلى حضِيضِِ وتَلْهُو مثْلما يَلهُو الْعَوامُ
أعِيذكَ أن تسِير بلا قُيُودِِ فَيَشْقى من تَخبُّطِكَ الْأَنامُ
رعاك اللَّه في الْأُولى وَآوَاكَ فِي الْأُخْرى إذا حُمَّ الزِّحامُ
سلامِي؛ ما سَرى بدرُ بليلِِ لَكُمْ كُلَّ التَّحَايَا يَا عِظَامُ

احتفاء بيوم الإمام في مواقع التواصل الاجتماعي
فضلت الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي الاحتفاء بطريقتها بالإمام في يومه الوطني ، ومن خلالنا تصفحنا لبعض المواقع والصفحات فقد تعددت أشكال هذا الاحتفاء وتباينت أنماطه؛ الذي شمل أرجاء الوطن.
وفي هذا الصدد عمد البعض من النخب الجامعية إلى كتابة مقالات مطولة تبرز رسالة الإمام ودوره في حياة الناس، مقدمين مقترحات عملية لترقية الخطاب المسجدي والارتقاء بالمكانة الاجتماعية والمهنية للإمام، كما قام آخرون بالتعريف ببعض الأئمة الذي صلى خلفهم وتتلمذ على  أيديهم، مبرزا فضلهم سواء كانوا من الأحياء أم من الموتى.
بينما نشر الكثيرون صورا جماعية لأئمة رحلوا منذ سنوات بعد أن تركوا بصماتهم على أجيال كثيرة، وظل صدى صوتهم المنبري يتردد على المسامع، وصدى تلاوتهم للقرآن في الصلوات يترد في المحراب، لاسيما أولئك الذين عايشوا مرحلة الصحوة الإسلامية ثم ابتلوا بعشرية الأزمة الوطنية واجهوا تلك المرحلة بحكمة ورزانة وثبات.
ونقلت صفحات مختلف الأنشطة والفعاليات المنظمة بمناسبة الذكرى؛ التي أشرفت عليها السلطات المحلية، وقد أبرزت ندوات علمية ومحاضرات قدمها أئمة وأساتذة جامعيون، ومدراء تنفيذيون، ومسابقات علمية وثقافية وابتهالات، وتكريمات مختلفة لأئمة تركوا آثارا طيبة   وأئمة أحيلوا على التقاعد، كما أبرزت بعض الصفحات صرا لمساجد عتيقة أو مساجد حديثة متميزة تمت زيارتها، كما لم تنس صفحات أخرى التعريف بالشيخ العلامة بالكبير الذي رسم هذا اليوم يوما وطنيا للإمام تخليدا لذكرى وفاته، وقد عقد ملتقى وطنيا حول الشيخ محمد بلكبير بإدرار للتعريف به وبآثاره وطنيا وعالميا وعربيا، وهو العامة الذي تتلمذ على يديه الآلاف وذاع صيته في ربوع  العالم لاسيما بإفريقيا، . وقد ألح البعض من رواد مواقع التواصل الاجتماعي على ضرورة العمل على مرجعيات وطنية ذات بعد عالمي من الفقهاء والمفكرين المسلمين.

الرجوع إلى الأعلى