تشكل الهواتف الذكية قفزة نوعية في مجال التكنولوجيا، في عالم التواصل، بعد أن اختصرت الزمن، و اختزلت المسافات و خلقت ما يسمى بعالم افتراضي، بات اليوم أفضل بكثير من الواقعي في نظر الملايين، لينجح في تغيير مفاهيم المجتمع، و الحد من العلاقات بين الأشخاص أو حصرها في حركة إصبع، وسط تحذير من أهل الإختصاص من اتساع ما بات يعرف بظاهرة القرن، التي تهدد الصغير قبل الكبير، بسبب خلق أمراض المجتمع الجديدة، و تمكنها من إلغاء العلاقات و الجلسات  الأسرية الحميمة، و استبدالها بـ"الخرس الأسري".
تحوّلت الهواتف الذكية في السنوات الأخيرة، إلى جزء لا يتجزء من حياتنا اليومية، حيث لم يعد ذلك الجهاز باهظ الثمن، الذي لا تجده في يد غير الأثرياء أو من يمتلكون راتبا كبيرا، بعد أن أصبح جهازا في متناول الجميع، فحتى الصغار و الكبار السن يمتلكونه، وأصبح اليوم بالنسبة إليهم قرينا يأبون التخلي عنه، فيما يقبلون التخلي عن الأشخاص الحقيقيين.
الهواتف الذكية ...علاقة عكسية
ربما لم يكن من اخترع الهاتف الذكي على يقين بما سيخلفه اختراعه من تغيرات و ثورة في العلاقات الإجتماعية، قبل الحديث عن التطور التكنولوجي، فبعيدا عن استعماله في المجال الذي اخترع لأجله ، كالإطلاع على أخبار العالم في ثوان، و التواصل مع الأقارب و الأصدقاء بطريقة جد متطورة دون تكاليف عالية،  أفرز الاستعمال الدائم للجهاز، معطيات جديدة، و تغيرات قلبت الأوضاع رأسا على عقب، إذ تحول جهاز بحجم كف اليد أو أصغر قليلا، إلى متحكم بامتياز، وضع من يدمنوه تحت سيطرته، و كأنه يفرز مادة مخدرة تجعلهم رهن إشارته، عوض أن يحدث العكس.
و بينما تحرص فئة قليلة من مستعملي الهواتف الذكية على الاستفادة منها في المجال المعرفي، و مسايرة التكنولوجيا، أو من أجل العمل و جعل الاستعمال ينحصر في وقت محدد، سقطت الغالبية الساحقة في مطب الإدمان، و هوس الهواتف الذكية من السعي خلف الجديد في مجال الأجهزة من جهة، و الاستعمال المفرط من جهة ثانية، إلى درجة تلازم فيها الفرد في أي مكان يحل فيه، و في أي وقت، دون قيد أو شرط، بحسب ما نشاهده اليوم في مجتمعنا.
الخرس الأسري مرض مجتمعي جديد
تشهد العلاقات الأسرية باستمرار تغيرات كثيرة، ألغت معها كل مميزات الأسرة الجزائرية القديمة، و محت من الذاكرة صورة تجمع أفراد العائلة بعد تناول وجبة العشاء في مكان واحد، و الجميع مجتمع حول دائرة تكون مركزها الجدة أو الأب، للاستماع إلى قصة ما، أو مشاهدة برنامج مفيد في التلفاز، أو ممارسة أي شئ بات اليوم لا يواكب موضة العصر في نظر من يدعون التطور، و الذين غيروا مفاهيم الأسرة، و حولوا الديكور البسيط الذي يجمعها، إلى عالم تحكمه التكنولوجيا.
حتى و إن اجتمع أفراد الأسرة في مكان واحد اليوم، و أمام شاشة التلفاز، فالكل مشغول في عالمه الخاص، حاملا جهازه الصغير، يرسم ابتسامة عريضة على ثغره، و هو يتلقى أو يرد على رسائل و تعليقات أقارب و أصدقاء العالم الافتراضي، مخلفين مجالا لصمت رهيب يخيم على المكان، لا يشعر به إلا من يداه خاليتين، و العدوى ذاتها تنتقل حتى إلى لمة الأصدقاء  في أي مكان كانوا، فكثيرا ما يجلسون معا، غير أن كل واحد منهم مشغول بهاتفه، فحتى حفلات الأعراس لم تخل من هذه السلوكات، إذ تعيش كل امرأة أو شابة، و حتى الرجال في عالمهم، غير مبالين بما تصنعه ضجة ال”ديجي” و رقصات المدعويين على موسيقاها، مركزين على القاط صور و إرسالها آنيا، و تبادل الرسائل في عالمهم الإلكتروني.
أرق و شك و إهمال و انطواء
عينات كثيرة صادفتنا خلال محاولتنا تسليط الضوء على هذا الإشكال، أين التقينا بأشخاص كثر، و كل تأثر من جانب معين، حيث تقول حياة أم لـ3 أطفال، بأنها تعاني من إدمان زوجها على الهاتف النقال، ما خلق صمتا داخل أسرتها، و جعل حديثهما قليل جدا، ما عدا في ما يتعلق بطلب وضع الطعام أو إحضار غرض ما، الأمر الذي نغص كما تقول معيشتها، و جعلها تسأم من هذا الوضع، الذي أوصلها إلى مشاكل عديد المرات.
أما دلال، الموظفة، فتروي قصتها و معاناتها مع استعمال زوجها المفرط للهاتف الذي يشغل كل وقته ، عوض اهتمامه بها و بطفليها ، مثلما تقول، فهو يعود من العمل، ليغلق على نفسه باب غرفته، و يعيش في عالمه الخاص، من خلال التواصل مع “عائلته الجديدة”، كما عبرت، بدلا من العيش معهم، و التحدث إليهم، و تضيف منال الماكثة بالبيت بأنها لا تستعمل الهاتف كثيرا ما عدا عند الحاجة من أجل البحث عن بعض الوصفات للطبخ، أو التواصل مع أفراد عائلتها أو أصدقائها الذين كانت قد فارقتهم بسبب الإنتقال للعيش بولاية أخرى، لتتمكن من التواصل معهم عبر فايسبوك، و على العكس من ذلك، فإن زوجها دائم الانشغال بهاتفه، مهملا بذلك كل متطلبات الأسرة و البيت، ما أثر سلبا على حياتها و جعل كلامها بينها و بين أطفالها فقط، بينما يكتفي زوجها بالصمت و الرد عند السؤال فقط، إلى درجة تنسى أحيانا أنه موجود في البيت.
و يحكي عادل قصته مع إدمانه الهاتف، مؤكدا بأنه يخاف من مفارقته، و قد يخرج في أي وقت من أجل شحن الرصيد، كما أنه دائم التواصل مع أصدقاء فايسبوك، و قليل الحديث مع زوجته و طفليه، فضلا عن أنه يحمل هاتفه لساعات طويلة، تصل أحيانا إلى 8 ساعات، و هاتفه أول شيء يلقي عليه نظرة فور استيقاظه من النوم، و آخر شيء يراه قبل النوم أيضا، ما أصابه بالأرق و نقص في النظر، و انطوائية تجعله يفضل الخلوة على الجلوس وسط جماعة، مما دفعه لمراجعة حساباته من خلال تقليص مدة استعماله، غير أنه يعود إلى عادته فورا.
أما رضوان، فيحدثنا عن المشاكل التي سببها له هذا الجهاز، أين يعيش في خلافات دائمة مع زوجته، بسبب أصوات اشعارات وصول الرسائل على فايسبوك أو انستغرام، حيث تنتاب زوجته غيرة تصل أحيانا إلى الشك حينما يبتسم لدى قراءته لتعليقات أو ردود على رسائله من طرف أصدقائه، ما دفعها إلى محاولة التجسس على رصيده،  شكا في وجود علاقة بامرأة.
“التزمهر” مرض الكبار الذي يهدد الصغار
تشير التقارير و البحوث العلمية و الطبية، إلى أن التأثير السلبي للهواتف الذكية لا ينعكس على الراشدين فقط، بل يصل تأثيره إلى الأطفال، خاصة مع الإنتشار الواسع للألعاب الإلكترونية، التي يدمنها الكثير من الأطفال، و وجد فيها الأهل منفذا للتخلص من بكائهم و صراخهم، حيث كثيرا ما تستعين الأم أو الأب بهذا الجهاز لتكميم أفواه أطفالهم، غير منتبهين لما قد يخلفه من إنكباب أبنائهم لوقت طويل عليه.
حيث تقول الدكتور سراح لعيور ، بأن الهواتف الذكية تخلق جيلا كسولا من الأطفال، حيث تجذب الأطفال إلى عدم الحركة، كما تؤكد الدراسات بأنها تصيب الأطفال بما يعرف بمرض “التزمهر” في شكل اضطرابات شبيهة بالألزهايمر عند الكبار، ينتج عنه توقف نمو المهارات بأقسام معينة من خلايا الدماغ، بينما يستمر هذا الأخير في النمو، فضلا عن الإنطوائية التي يتسم بها الأطفال المدمنون، و الذين يعاني الأهل لدى محاولتهم إخراجهم من القوقعة التي وضعوهم هم أنفسهم بداخلها.

أخصائية علم الاجتماع فاطمة الزهراء بلفطار
الهواتف الذكية أخرجت الأسرة الجزائرية عن طبيعتها و غيّرت معاييرها
ترى أخصائية علم الإجتماع، بلفطار فاطمة الزهراء، بأن التمادي في استخدام التكنولوجيا بشكل عام، و الهواتف الذكية بشكل خاص، غيّر معايير الأسرة الجزائرية، خاصة بعد إلغاء العائلة الكبيرة التي كانت تعيش في اتصال دائم، في ظل غياب التلفاز و الهواتف الذكية، ما عدا قصص الجد و الجدة.
و أوضحت المختصة بأن التمادي في استخدام التكنولوجيا، أنتج إدمانا لا يمكن توقيفه لدى الكثير من أفراد المجتمع، و أصبحت الهواتف الذكية هي التي تتحكم في من يستخدمها و ليس العكس، داعية إلى التعقل و الوعي في استخدام هذه الأجهزة، خاصة و أن التأثير يختلف من شخص لآخر باختلاف شخصيات الأفراد، مؤكدة أنه ما إن توفر ذلك يمكن للفرد أن يقرر متى يبدأ الاستعمال و متى يتوقف.
و عن تأثير الهواتف على الأسرة، قالت المختصة بأن ذلك قضى على الجلسات الأسرية، خاصة الجزائرية التي أخرجها عن طبيعتها المحافظة، و قضى معها على القيم المعنوية و الروحية، معتبرة التحسيس و التوعية الحل الأنسب للتخلص من هذه القيود التي فرضتها أجهزة صغيرة على مجتمعات بأكملها، من خلال الدورات و اللقاءات، مع التركيز على المرأة و الأم بشكل خاص، باعتبارها عماد المجتمع، و الحرص على العودة إلى أصول التربية القديمة لإنقاذ عقول أبنائنا و الحفاظ على عنصر الإبداع فيها.

الأخصائية النفسانية دلال حمادة
التوتر النفسي و الخرس الاجتماعي مخلفات إدمان الهاتف الذكي
حذرت الأخصائية النفسانية، دلال حمادة ، من خطر إدمان الهواتف الذكية، و قالت بأنها عرضت المجتمع بأكمله لحالة من الخرس، بداية من الأسرة النووية المكونة من الأب، الأم و الأبناء، فضلا عن الخمول الجسماني، الضغط، التوتر النفسي الذي أضيف إلى قائمة الأمراض التي أصحبت تخضع للعلاج في الدول الأوروبية ، مع فوبيا الإنفصال عن الهاتف الذكي.
و قالت الأخصائية بأن كل ذلك جعل الفرد يتصل و يحاور في العالم الإفتراضي، على الهاتف، بينما يلتزم الصمت و كأنه أخرس في الواقع، مما يؤدي إلى التفكك الأسري، خاصة و أن ذلك يخرج الأب من صورة القدوة للأبناء.
و دعت السيدة حمادة، الأسرة إلى احترام الوقت و عدم هدره بما لا ينفع، من خلال تنظيمه، و إبقاء أبواب الحوار مفتوحة داخل الأسرة، عبر تخصيص فترات محددة للهاتف، قصد تقليص تأثيره السلبي، كما يمكن ذلك من خلال تنظيم دورات لتوعية الأفراد باستخدامه و استثماره في ما ينفع، كما ترى بأن إنشاء مجموعات شبانية هادفة ناشطة ميدانيا ، عبر مختلف المواقع،  قصد التكفل بمختلف القضايا الإجتماعية و الثقافية، فعال في مثل هذه الحالات.
و شددت المختصة على ضرورة اعتماد التكنولوجيا في العملية التعليمية و البحث العلمي، و ضرورة التوعية بأهمية التماسك الأسري و الحرص على الجلوس و الحوار بين أفراد الأسرة، مع ترشيد استخدام التكنولوجيا بشكل عام و الهواتف الذكية بشكل خاص، لأن الفراغ داخل الأسرة قد يدفع الأبناء للإنحراف.
إ.زياري

الرجوع إلى الأعلى