هنـــا يُصنـع "الذهـــب" مــن الـملـح

بقرية فياليتشكا جنوب بولندا، يقع أحد أقدم المناجم الملحية في العالم، الذي تحوّل منذ إغلاقه قبل 11 عاما، إلى واحد من أبرز المعالم السياحية التي تجتذب سنويا مئات الآلاف من الزوار، ما جعله يدرّ على هذا البلد الأوروبي عائدات مالية كبيرة ترتفع كل سنة، وسط تزايد ملفت لأعداد السياح، الذين خاضت النصر معهم مغامرة مثيرة على عمق 130 مترا تحت سطح الأرض، لتنقل صورا ساحرة عن ممرات و دهاليز كان ملح الطعام يستخرج منها لتموين أوروبا، فكان سببا في ازدهار منطقة كراكوف، قبل أن يتحول اليوم إلى الدجاجة التي تبيض ذهبا لبولندا!
روبورتاج: ياسمين بوالجدري
منجم فياليتشكا الملحي الذي تم إنشاؤه في القرن الثالث عشرة، صنفته منظمة اليونسيكو سنة 1978، ضمن قائمة التراث العالمي القديم بالنظر لثرائه التاريخي و حتى الفني، حيث كان أغلب سكان كراكوف يعملون به على مر العقود، فتحول مع مرور السنوات إلى جزء من حياتهم اليومية و ثقافتهم، لكن إغلاقه سنة 2007 لم يكن حائلا أمام استمرار استغلاله، لكن هذه المرة بتحويله إلى معلم سياحي يزوره ما يزيد عن مليون شخص سنويا. النصر زارت هذا المعلم رفقة وفد جمعية الشعرى لعلم الفلك، الذي طار من قسنطينة إلى بولندا في رحلة لاستكشاف هذا البلد، كان منجم الملح الشهير أحد محطاتها.

قبل دخول المنجم، يمر الزائر على حدائق غناء و فضاءات استراحة كان يجلس بها أشخاص كثر، للاستمتاع بالمناظر الطبيعية تحت ظلال الأشجار و للمطالعة على كراس خشبية أنيقة صُفت في كل مكان، في حين بدأ مئات السياح في انتظار دورهم للدخول، بعد تسديد ثمن التذاكر و تقسيمهم حسب اللغات الست، التي يريدون الاستماع بها إلى شروحات المرشدين، الذين كانوا شبابا و شيوخا يرتدي جميعهم بدلات موحدة سوداء اللون.
ثمن الدخول يختلف بين البولنديين و الأجانب!

المغامرة بدأت بالنزول عبر سلالم خشبية لولبية الشكل، ظننا أنها لن تنتهي بسبب طولها، في حين كانت درجة الحرارة تنخفض شيئا فشيئا، ما جعل الأطفال و الشيوخ يرتدون سترات، لعلمهم المسبق بالإرشادات الخاصة بالزيارة، و بعد حوالي ربع ساعة من استعمال الدرج، وجدنا أنفسنا وسط قاعة كبيرة يتم تقسيم السياح فيها، إلى مجموعات يتكفل دليل بكل مجموعة منها، و ذلك حسب اللغة المستعلمة.
وسط جموع من السياح الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم، بدأنا السير داخل أنفاق شبه مظلمة، جدرانها من الصخور الملحية ذات اللون الرمادي و الأبيض اللامع، و أثناء ذلك كان دليلنا، يشرح لنا تاريخ المنجم و أبرز العوامل التي أثرت فيه، عن طريق ميكروفون متصل لاسلكيا بأجهزة قدمت لجميع الزوار، حيث ذكر المرشد الذي كان يحدث الزوار بمرح كبير رغم كبر سنه، أن المنجم كان ينتج كميات تصل إلى 50 ألف طن من الملح سنويا، قبل أن يتحول إلى معلم سياحي هام بمدينة كراكوف، يستقبل يوميا حوالي 9 آلاف زائر، ليعلق ساخرا “لم يعد ملحا بل ذهبا”، في إشارة منه إلى الأرباح المالية التي يتم جنيها من المرفق.
و قد وصل عدد الزوار هذا المعلم في العام الماضي فقط، إلى 1.7 مليون شخص، قرابة نصفهم بولنديون، فيما تتشكل فئة الأجانب بصفة أساسية من السياح البريطانيين و الألمان و الإيطاليين و الفرنسيين و النرويجيين و كذلك الأمريكيين، و المثير للاهتمام أن سعر الدخول إلى المنجم يختلف بين البولندي و الأجنبي، فالأول يدفع 59 زلوتي بالعملة المحلية، بينما على الثاني تسديد 89 زلوتي، فيما توجد تخفيضات لفائدة الطلبة و العائلات، أما إذا أردت التقاط صور خلال الزيارة، فعليك تسديد 10 زلوتي إضافية.  
هكذا تحوّل الـ «سالاريوم» إلى «سالت»!
خلال طريقنا داخل السراديب التي لا يتعدى ارتفاعها المترين، كنا ندخل في كل مرة إلى جزء جديد، عن طريق بوابات تفصل بين الأنفاق المتعرجة و الضيقة التي كان يستعملها العمال لنقل العربات المحملة بالصخور، و ذلك وسط ديكورات و تماثيل ملحية تجسد هؤلاء العمال بملامحهم الدالة على التعب، حتى و هم يقومون باستخراج الملح بحرق غاز الميتان تحت درجات حرارة جد عالية و تهوية منخفضة جدا، و هو ما كان أحد أسباب وفاة العديد منهم، لكن أعدادهم، وفقا لدليلنا، ما تزال غير معروفة على وجه الدقة.
و بطريقة فنية متقنة تحاكي الواقع، تم تجسيد عملية جر الأحصنة التي كانت تستغل في المنجم لجر العربات و تبقى به حتى تموت، فآخرها وُجد بالمكان سنة 2002، فيما يعود تاريخ استغلال المنجم، على الأرجح، إلى العصر الحجري حسب المرشد، مضيفا أنه و خلال العهد الروماني، كانت الأجور تدفع في شكل ملح و كانت تسمى “سالاريوم” باللاتينية، لذلك اشتقت منه كلمة «سالت» بالانجليزية.
نيكولاس كوبرنيكس موجود أيضا!

وجدنا أيضا داخل المنجم الذي تحول إلى ما يشبه المتحف، نصبا تذكاريا لرائد علم الفلك الحديث البولندي نيكولاس كوبرنيكس، حيث تم وضعه منذ سنة 1973 و يلقى اليوم اهتماما كبيرا من السياح، الذين التقطوا معه الكثير من الصور، فيما واصلنا الجولة مع مجموعات أخرى من السياح، التي تم تنظيم مسارها بشكل دقيق جعلها لا تتداخل، إلى أن بلغنا عند بحيرة ملحية كبيرة تأسر الناظرين باللون المميز لمياهها الممزوج بالخضرة و الزرقة، حيث يصل عمقها إلى 2000 متر.
بعد المشي قليلا، وصلنا إلى معبد كبير شيد سنة 1896 من طرف عمال المنجم لممارسة شعائرهم الدينية، و هو مكان يشعر الداخل إليه كأنه في أحد قصور القرون الوسطى بأوروبا، حيث يضم بهوا كبيرا و الكثير من التماثيل و المجسمات الفنية التي تجسد رجال الدين و المصنوعة من الملح، ما جعل أحد الفنانين البولنديين يختاره لتسجيل فيلم موسيقي سنة 1995.
شوكولاطة و حلي مصنوعة من الملح!
من هذه القاعة الساحرة، نزلنا أكثر عبر ممرات خاصة تطل مباشرة على البحيرات المالحة، المحاطة بأعمدة خشبية بيضاء اللون و المتراصة لتمتد إلى ارتفاع شاهق للحفاظ على توازن المنجم، حيث واصلنا على هذا الحال إلى أن بلغنا  بهوا  كبيرا تلتقي فيه مجموعات السياح، و هنا بدأت روائح القهوة و الأطعمة تداعب أنوفنا، بعد أن كنا قد ألِفنا رائحة الصخور الملحية خلال قرابة ساعة من المشي، حيث كانت هناك مطاعم توفر عدة خدمات و أماكن للجلوس و الراحة، إضافة إلى ما يشبه الأكشاك الصغيرة التي تعرض تذكارات صنع أغلبها من الملح، و منها مجسمات صغيرة للمنجم و أنواع من الصابون و مستحضرات التجميل و حتى الحلي و الشوكولاطة، و كل ذلك بمبالغ لا تقل عن 4.5 زلوتي.
اعتقدنا بهذا المكان أننا بلغنا المحطة الأخيرة بعد أن بدأنا نشعر بالتعب، لكن علمنا من الدليل أننا لا نزال في المستوى الثاني، و سننزل إلى المستوى الثالث، و هو ما قمنا به عبر سلالم خشبية تطل على بحيرات صغيرة، و تماثيل وضعت هنا و هناك، سُلطت عليها إضاءة خافتة تزيد من سحر المكان.
في مستوى 130 مترا تحت سطح الأرض!

في هذا المستوى بلغنا بهوا أضخم من الأول يحيل إلى غرفة كبيرة، كانت تضم العديد من الأجهزة الالكترونية في شكل منصات صغيرة، أثارت فضول الأطفال على وجه الخصوص، حيث تختلف مواضيع كل منها بين تاريخ تجارة الملح في كراكوف و بين المسائل العلمية المتعلقة بمكونات الصخور الملحية و حتى المياه، كما توجد شاشة سينما تعرض عبر تقنية ثلاثي الأبعاد وثائقيا صغيرا حول المنجم، و غير بعيد عنها هناك متحف و قاعة سينما و صالة للحفلات و المناسبات، و هي كلها أجواء تنسي من في المكان أنه على عمق 130 مترا تحت الأرض، فحتى الاتصال بشبكتي الأنترنت و الهاتف لم يتوقف.
2000 غرفة وجلسات استرخاء وعلاج بالملح
في نهاية الزيارة التي بدا لنا من خلالها أننا قد زرنا معظم زوايا المكان، أخبرنا الدليل أننا لم نستطع المرور على جميع الأنفاق، لأن ارتفاع بعضها لا يتجاوز نصف متر، قبل أن يفاجئنا بالقول إننا لم نزر سوى 1 بالمئة من المنجم، الذي يضم 2000 غرفة و لا يزال عمقه يمتد إلى 327 مترا تحت سطح الأرض.
عملية الخروج كانت منظمة أيضا، حيث يدخل الأشخاص وفق مجموعات إلى غرف صغيرة ننتظر فيها قبل الوصول إلى المصعد، و أثناء تواجدنا هناك، التقينا بـ 3 سياح عرب أخبرونا أنهم من الكويت، حيث قالوا إنهم معلمون و إداريون متقاعدون في قطاع التعليم أتوا لتمضية العطلة في بولندا، كما صادفنا أيضا سيدة سعودية كانت مع زوجها و أطفالها، حيث أخبرتنا أنها في رحلة سياحية وبأنها تزور هذا المعلم دائما، خاصة أن شقيقتيها يدرسان ببولندا منذ سنوات.
بعد بضع دقائق من الانتظار، وصل دورنا لركوب مصعد حديدي، أعادنا إلى سطح الأرض بسرعة و في بضع ثوان، كانت خلالها الرياح تخترقه وسط حماس السياح، الذين بدا أن التعب لم ينل من بعضهم بعد كل تلك الرحلة الطويلة.
بلغنا سطح الارض أخيرا، لكن يبدو أن المشرفين على المنجم مصرون على تحقيق أكبر عائدات من جيوب السياح المحبين للاستكشاف و المغامرة، فقد استقبلتنا من جديد التذكارات المعروضة للبيع
 و عروض للخضوع لجلسات الاسترخاء و العلاج بالملح.
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى