العقاد انبهر بي و عميروش كان متخوّفا من سوء فهم الجزائريين للحرية

عاد المجاهد و المفكر محمد الصالح الصديق بذاكرته إلى محطات بارزة من حياته  بداية من قصة تعلمه السريع للقرآن، والتي جعلت والده يرافقه في زيارة للعاصمة توقف خلالها عند بيت بالقصبة أثار اعجابه أصبح فيما بعد مسكنه بالعاصمة ، كما سرد تفاصيل لقائه بابن باديس وكيف انبهر عباس محمود العقاد بشخصيته ، و عاد إلى ظروف   تعارفه بالشهيد عميروش وكيف كان يعبر له عن مخاوفه من خطورة عدم الفهم الصحيح للحرية.المؤرخ روى أيضا كيف اضطر إلى تغيير اسمه في الزيتونة وماذا  حصل عند إلقائه لمحاضرة تحفيزية أمام المجاهدين.        
   هي تفاصيل سردها  محمد الصالح الصديق  الذي يعتبر من أكثر المؤلفين الجزائريين غزارة في الإنتاج، على هامش حفل تكريم  نظمته مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية قسنطينة والجمعية الدينية لمسجد الأمير عبد القادر للشيخ الأستاذ.   
حفظ القرآن وقصة بيت القصبة
بدأ  المؤرخ محمد الصالح سرد أبرز ما بقي راسخا في ذاكرته، وعاد بالحاضرين لسنوات طفولته، وأكد أنه حفظ القرآن    في عمر 8 سنوات و 4 أشهر، وعرض على والده أن يقرأ له كل القرآن دفعة واحدة، وبالفعل فعل ذلك خلال أكثر من 24 ساعة، وهو يقرأ كتاب الله دون أن يقع في أي خطأ، وقال: «يعتبر أبي غيورا جدا على والدتي وكان لا يسمح لها حتى برفع صوتها، ولكن بعد أن حفظت القرآن، طلب منها ان تزغرد، وهو ما فاجأنا كثيرا»، وذلك من شدة فرح والده، وأضاف أن والده الشيخ البشير خيره بين مكافأتين، إحداها شراء لعبة وهي عبارة عن سيارة صغيرة، والثانية هي مرافقته في زيارته إلى العاصمة، وقال: «كأي طفل صغير كنت أفضل اللعبة، ولكن كنت أدرك أن أبي يريد أخذي معه إلى العاصمة من أجل التباهي بي أمام أصدقائه، فقلت له أريد الذهاب معك، وفرح كثيرا باختياري هذا».
  ابن باديس أنساه انبهاره بالعاصمة
واصل الشيخ سرد ذكرياته المثيرة، وأوضح أنه لم يكن يعلم أن تلبية رغبة والده ستجعله يقابل أحد أعظم العلماء في الوطن العربي، وفي أحد الأيام التي كان يتمشى فيها المتحدث مع والده في شوارع العاصمة، إلتقيا بالشيخ بن باديس وهو يهم بالخروج من مكتبة، وتوجه نحوهما للحديث مع والده، وبعد برهة من الزمن تفطن بن باديس لذلك الطفل وسأل عن هويته، وبعد أن عرف من يكون ،  توجه نحوه ووضع يده على رأسه وقرأ آية قرآنية ، لتنزل السكينة على رأس محمد الصالح، وقال: «لما وضع يده على رأسي وقرأ  القرآن، شعرت بالسكينة وراحة نفسية كبيرة، جعلتني أنسى كل المشاهد التي شدتني في العاصمة».
وأوضح المتحدث أنه عند زيارته للعاصمة اندهش من عمرانها من خلال المنازل الكبيرة والفخمة التي تميز شوارعها، ليعجب بأحد البيوت هناك، واستفسر والده عن هوية صاحبه، ثم وعد والده بأنه سيسكن بهذا المنزل في يوم من الأيام، وهو ما كان له بعد مدة من الزمن، وهو اليوم يقطن في هذا البيت المتواجد في حي القبة بالعاصمة.
بهذه الطريقة أبهر العقاد وجعله يحضنه

كما استذكر الشيخ لحظات التقائه بالشاعر والكاتب المصري الشهير عباس محمود العقاد، وذلك أثناء زيارته لمصر الجديدة، موضحا أنه بحث عن الشاعر مطولا، ولم يكن أحدا يعرفه، وفجأة تفطن لأحد الأشخاص يخرجون من مكتبة هناك، وسأله عن مكان العقاد، ودله على بيته، وعند وصوله للبيت قال: «ظننت أني سأجده لوحده،  وإذا بي وجدته مع جمع من الأشخاص، وبعد إلقائي للسلام، رد بأن يقوموا ويسلموا على الجزائري، حيث عرف هويتي بعد سماعه لكلمة واحدة مني»، وأضاف أنه تبادل أطراف الحديث معه، ثم سأله أسئلة محرجة عن الثورة الجزائرية رفض الإفصاح عنها، كما سأله عن أحوال الشعر في الجزائر، ولكن رد الجزائري كان صادما، وقال: «الجزائريون لا يهتمون بالشعر وأحواله، لأنهم ينتظرون مولودا جديد سيولد عن قريب، وهو الاستقلال»، وهنا قام العقاد باحتضانه من روعة الرد وشدة حب الوطن.
« كلمة واحدة من أحد المجاهدين جعلتني أؤمن بالاستقلال»  
انتقل الشيخ للحديث عن فترة الاستعمار، وأوضح أنه في عام 1955 التقى بقائد ثوري اسمه «إيعزوغن» لكنه يلقب ب «بريغوش»، وطلب منه هذا الأخير أن يقوم بإلقاء محاضرة على مجموعة من المجاهدين وعددهم 50 ، من أجل تحفيزهم أكثر قبل إحدى العمليات، وكان ذلك في أحد المنازل بقرية في تيزي وزو، و بعد رؤيته للمجاهدين أيقن أن لقبهم الحقيقي هو  «الانتحاريين» و ليس «المجاهدين»، وبأن مصيرهم الموت لا محالة، حيث استنتج ذلك من خلال عدة نقاط ، وقال: «أيقنت أنهم سيموتون جميعا، وذلك راجع لعدة نقاط، أهمها الملبس، حيث كان لباسهم مختلفا فهناك من يرتدي برنوسا، وآخر قميصا وآخر قشابة (قشابية) وهي ألبسة تعرقل وتحد من حركة المجاهدين، عكس جنود المستعمر الذي يلبسون لباسا عسكريا موحدا، ثاني نقطة أثارتني هي نوع الأسلحة التي يحملونها وكانت بسيطة جدا مقارنة بأسلحة المستعمر، ثالث نقطة هي نوعية الأكل الذي يتناوله المجاهدون وكان عبارة عن رغيف من الخبز والحشيش، نقطة أخرى وهي، طريقة تنقل أبطالنا إلى ساحة المعركة، حيث كانوا يسيرون لكيلومترات عديدة على الأقدام متجاوزين المنحدرات الصعبة والأنهار والوديان ويصلون إلى المعركة مرهقين، عكس جيش الاستعمار الذي يتنقل في السيارات والشاحنات والدبابات».
وأراد حينها أن يحاور البعض من الحاضرين، وعند سماعه لكلام أحد المجاهدين، تغير منطقه بل أيقن أن الجزائر ستستقل عاجلا أو آجلا، وبأن طرد فرنسا ما هو إلا قضية وقت وفقط، وذلك بعد أن أكد له أحد المجاهدين، أنهم لا يخشون الموت لأنهم سيستشهدون ويكونون بجانب رجال الجزائر مثل الأمير عبد القادر، وواصل حديثه  بأنه وبعد تلك الحادثة بسنوات عديدة، وفي 2014 جاءه أحد سكان تلك القرية طالبا منه إلقاء محاضرة في نفس المكان وذلك بطلب من السكان، ولبى طلبهم، وقال: «تواجدت في مسجد بني في نفس مكان إلقائي لتلك المحاضرات، وحاولت إلقاء نفس المحاضرة، وكان المسجد ممتلئا عن آخره، وكان الفرق بين المحاضرتين، أني في الأولى كنت خائفا وأخشى في كل برهة دخول جنود الاستعمار ولكن في الثانية كنت أتحدث بكل حرية، واعتزاز وكرامة».
واصل العالم الجزائري الكبير سرد  بعض   القصص التي  عاشها إبان الثورة التحريرية، وتذكر واقعة حدثت له مع أحد الجزائريين، حيث شد انتباهه أحد المكفوفين الذي يتسول طول النهار طلبا للمال، وجعله الفضول يرغب في معرفة مصير تلك الأموال، ولما قام بمتابعته في أحد المرات، تفاجأ   أنه يمنحها لأحد المجاهدين ويحتفظ بجزء قليل جدا من تلك الأموال التي كان يجمعها جراء التسول طول النهار.
«عميروش كان يخشى من مرحلة ما بعد الاستقلال»

درس محمد الصالح آيت الصديق في جامعة الزيتونة، وأثناء محاولة دخوله الأراضي التونسية خلسة ومن دون وثائق، تم القبض عليه من طرف جنود الاستعمار، ودخل السجن لمدة أسبوع  كامل في مدينة تبسة، وبعد خروجه التحق بالجامعة في تونس، واضطر حينها لتغيير لقبه من آيت الصديق إلى الصديق، وهذا بعد أن تعثر أحد أساتذته في الجامعة من نطق آيت في كل مرة، ونصحه حينها بحذفها، وهو ما تم بعد أن تحصل على شهادة باسم محمد الصالح الصديق، وحاول التعايش مع هذا اللقب طيلة مساره المهني.  وأضاف أنه التقى عميروش بتونس في عام 1957، وكانا يلتقيان عدة مرات، وفي إحدى المرات تناولا معا وجبة الغذاء، ولم يحدثه حينها أنه سيعود للجزائر في المساء، وأثناء تناول الوجبة، أهداه عميروش ساعة، وقال: «ترددت في قبولها وقلت له ما أفعل بها، وأكد لي أنها ساعة ليحتسب بها عدد الدقائق التي تبقت لتواجد فرنسا في الجزائر»، وأضاف استغربت من كلامه وقلت لما لم يقل سنوات أو شهورا أو أسابيع على الأقل، ورد عميروش  بأن  يقينه بأن  فرنسا ستطرد   و أن محاربته في سبيل تحرير وطنه  جعلا الشهور تعبر في شكل دقائق والأسابيع  و كأنها ثوان، والمثير في الأمر حسبه ، أن عميرش و لم يكن متخوفا من الاستعمار بل كان متأكدا من طرده، وإنما كان يتخوف من طريقة تعايش الشعب الجزائري مع الحرية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وتخوفه من عدم الفهم الحقيقي لكلمة حرية، وقال: «عميروش أكد لي أنه يخاف من مرحلة ما بعد الاستقلال أكثر من الاستعمار، لأن الحرية تعني فك القيود ولا تعني أن يعيش كل فرد كما يحلو  له»، وقال الصديق أنه تذكر كلام الشهيد عميروش بعد أن شاهد أحد المواطنين يدوس على حديقة أزهار ونبهه على ذلك، ليرد عليه بأنه حر ويقوم بما يحلو  له، وحدث ذلك في فترة الاستقلال.
حاتم بن كحول

الرجوع إلى الأعلى