أنا من جيل كان فيه الأستاذ من الأعيان
• حان الوقت للحديث عن أولوية الإنجليزية على الفرنسية في مدارسنا
يسترجع الأستاذ عبد الحميد عبادة ابن مصطفى، وهو أحد أقدم المؤطرين التربويين في قسنطينة، ذكرياته في متوسطة عبد الرحمان ابن خلدون، عندما كان يستهل صباحه بتقليد مقدس و هو رفع العلم الوطني في ساحة المدرسة، على أنغام نشيد «قسما» بأجزائه الخمسة، تلك اللحظات كانت، حسبه، عبارة عن جرعة يومية من الوطنية، يضخها في قلوب تلاميذ و أساتذة المؤسسة التي سيرها طيلة 20 سنة كاملة، أخبرنا بأنه لا يتذكر خلالها يوما واحدا تخلى فيه عن مئزر المربي الفاضل.
كما حدثنا عن المرحلة الذهبية للمدرسة الجزائرية التي قال بأن، الأوان قد حان ليعاد النظر في أولوية تدريس الفرنسية على حساب الانجليزية كلغة أجنبية أولى فيها، خصوصا وأن الانجليزية أصبحت لغة التطور ما يفرض علينا، حسبه، التحكم فيها إذا أردنا مواكبته.
يصادف اليوم ذكرى عيد ميلاد الأستاذ عبادة  78سنة قضى 40 منها في مجال التربية و التعليم، إذ عمل كمعلم للأدب و للتاريخ و الجغرافيا في متوسطة ابن عبد المالك رمضان بقسنطينة، طيلة 20 سنة، قبل أن يسخر 20 سنة المتبقية لإدارة متوسطة عبد الرحمان ابن خلدون  بحي 5 جويلية، التي كانت محطته الأخيرة قبل تقاعده يوم 22 فيفري 2001، وهو صاحب 60 ربيعا، وقد تم ذلك، كما قال، خلال حفل بهيج نظمته على شرفه الأسرة التربوية بقسنطينة و حضرته إطارات محلية و مركزية، اعترافا منهم بمكانة المعلم و المربي و أهمية دوره في المجتمع.
 مع ذلك لم يخف محدثنا حسرته على واقع المعلم اليوم، وهو يسرد علينا جوانب من رحلته في قطاع التربية، فالأستاذ بالأمس كان، حسبه، ذا هيبة و ثقل اجتماعي، حتى أنه كان بمثابة واحد من أعيان حيه أو منطقته أو مدينته، يستشار في كل الأمور و لا يلقب بغير لقب « الأستاذ» لما لصفته كمرب للأجيال من وزن، حيث أخبرنا بأنه و لفرط احترامه لمهنته، اشتهر بارتدائه الدائم لمئزر الأستاذ ، حتى عندما تقلد منصب مسير، ناهيك عن أنه كان يحافظ على تقليد رفع العلم يوميا، و ترديد النشيد الوطني في ساحة المؤسسة ، إدراكا منه لأهمية ذلك في عملية تنشئة جيل محب للوطن و مقدس لقيمه.
و كان الأستاذ سابقا يدرك أهمية رسالته، لذلك كان يمارس عمله بأمانة و إخلاص، رغم ظروفه المادية التي لم تكن ترقى إلى المستوى المطلوب، أما اليوم فصورة الأستاذ تغيرت بتغير مظهره أولا ، فالمعلم الذي كان منضبطا وذا وقار، أصبح يقصد المدرسة بملابس لا تتناسب مع مكانته، كما عبر محدثنا، كما أنه نسي أو تناسى الطريقة المثالية لأداء مهمته، وذلك بسبب متغيرات اجتماعية عديدة أهمها تلاشي حاجز الاحترام بين التلميذ و أستاذه، فضلا عن تقلص فارق السن بين الطرفين.
غياب الرقابة الثلاثية وراء تراجع التلميذ تربويا
قال المتحدث، بأن هذه التغيرات لم تمس الأستاذ وحده، بل التلميذ كذلك، هذا الأخير الذي تراجع مستواه الأخلاقي بشكل مخيف في السنوات الأخيرة، حتى أننا أصبحنا نسمع ، كما ذكر، عن تلاميذ يعتدون على أساتذتهم و مدراء مؤسساتهم بالضرب.
 هذا دون الحديث عن بعض السلوكات التي يندى لها الجبين، حسبه، وهو تحول أفرزه انهيار سلم القيم و انعدام الرقابة الثلاثية للأسرة والمدرسة و المجتمع، ففي السابق، كما قال، كان التلميذ يشعر بأنه مراقب، الأمر الذي يمنعه من تخطي حدود السلوك السوي ويجعله يرضخ لسلطة الأسرة و المدرسة و المجتمع، لكن اليوم ، بتراجع دور هذا الثالوث التربوي، أصبحنا ، على حد تعبيره، نقف على واقع مؤسف، فأولياء التلاميذ غائبون بشكل شبه كلي ، والدليل هو أن العديد من مدراء المؤسسات، كثيرا ما يضطرون إلى إلغاء اجتماعات الأولياء أو تأجيلها لعدم اكتمال النصاب، و لا يزيد عدد من يلبون دعوات المشاركة في النشاط 20 وليا  من أصل ألف، تحصيهم إدارة المدرسة.
المطلوب تقييم خماسي للمناهج التعليمية
أمام هذه المتغيرات، يرى الأستاذ عبادة، بأن مدرستنا تعيش مرحلة كارثية، كما عبر، لا يمكن أن نجد لها علاجا، إلا من خلال تضافر الجهود و تكامل دور الأسرة و الجهاز التربوي، فضلا عن استغلال الوزارة الوصية لخبرة كل من سبق لهم العمل في مجال التربية، لضبط سياسيات تسيير تعتمد على تصورات أهل الاختصاص و درايتهم بأدق تفاصيل المدرسة و عناصرها، بداية من الأستاذ وصولا إلى التلميذ  و حتى وليه.
المتحدث اقترح بهذا الشأن، تنظيم ملتقيات وطنية متخصصة تضم كل الفاعلين في الحقل التربوي، بما في ذلك المتقاعدين وأصحاب الخبرة، لتسطير برنامج عمل يهدف إلى رسكلة الإطارات التربوية و تكوينها بشكل أفضل، بالإضافة إلى تحديد المناهج الدراسية و مناقشتها، على أن تتم هذه اللقاءات، حسبه، كل خمس سنوات، لتقييم هذه المناهج و التأكد من مردوديتها و نجاعتها.
و أضاف بأن أي استراتيجيات تربوية تعدها الوزارة، لابد وأن تتم على المدى المتوسط و الطويل، لكن من الضروري ، كما علق، أن تتم وفق سياسة تشاورية لا يستثنى فيها أي إطار قادر على العطاء و خدمة القطاع من باب حب الوطن و الصالح العام، حيث كشف محدثنا، بأنه أخذ على عاتقه زمام المبادرة الفردية، وبدأ العمل على كتاب سيكون، كما قال، عصارة 40 سنة خبرة في حقل التربية و التعليم، معلنا عن استعداده لتقديم محاضرات داخل المدارس للأساتذة و التلاميذ حول تجربته كإطار سابق في التربية.
الرسم والموسيقى لا يقلان أهمية عن الرياضيات
بالحديث عن المناهج و المقررات الدراسية، أشار المؤطر إلى أن البرامج الحديثة جد مكتظة ، و تتضمن، كما قال، أخطاء فادحة تعجب كيف يمكن أن تمر إلى الطبع دون تمحيص و مراجعة و مراقبة شديدة من أهل الاختصاص، مضيفا بأن أي مادة تعليمية أو برامج لا يجب أن تصل إلى المؤسسات، إلا بعد التأكد من صحتها و مستوى الدقة فيها، و أنها تخدم التلميذ فعليا علميا و تربويا.
 وقال محدثنا بذات الخصوص، بأن على الأساتذة أن يدركوا أهمية إحداث التوازن في كيفية تقديم المادة التعليمية للتلاميذ، حيث لا يتم إغفال بعض المواد التربوية كالموسيقى و الرسم و الرياضة، لأنها لا تقل أهمية، حسبه، عن الرياضة و اللغة و العلوم، لأنها تربي التلميذ و تهذب ذوقه و تصقل مواهبه و مهاراته ، كما تسمح له بتخفيف ضغط باقي مواد البرنامج الدراسي، ما يساعده على الاستيعاب ولا يترك له مجالا للتذمر من الدراسة.
من جهة ثانية، يؤكد محدثنا، بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في ترتيب تدريس اللغات في مدارسنا، فالعربية تعتبر، حسبه، اللغة الأم التي لابد من التحكم فيها، لكن الإنجليزية أيضا أصبحت لغة العالم و لغة التطور، ولذلك فمن الضروري أن تعوض الفرنسية كلغة ثانية في المدارس، و أن تعطى لها الأولية في التدريس، لأنها ضرورة يفرضها العالم من حولها.
تجربة المدارس الخاصة في الجزائر لا تزال فتية
 حسب الأستاذ، فإن هذه الإصلاحات و التعديلات في المناهج، من شأنها أن تعيد للمدرسة مكانتها و تعزز ثقة التلميذ فيها، خصوصا في ظل النزيف الذي نعيشه اليوم بسبب ظاهرة الدروس الخصوصية التي باتت مصدر ربح لأساتذة ، قال بأن، منهم من يزيد دخله منها عن مليار سنتيم، رغم أنها تتم داخل أقبية لا تتوفر على أدنى الشروط.
و أضاف بأن التحكم في هذه الظاهرة يلزم الوزارة بإضافة بعض البنود للأنظمة الداخلية للمدارس، على غرار إقرار تعهدات تلزم التلاميذ بالتواجد بشكل دائم في المدرسة  إلى غاية انتهاء الدوام، و حتى بداية العطلة الصيفية، يوقعها أولياؤهم مع بداية كل سنة دراسية الجديدة، على أن تترتب على من يخالفون مضمونها إجراءات عقابية صارمة.
 أما بخصوص تجربة المدارس الخاصة في بلادنا، فقد أوضح محدثنا بأنها لا تزال فتية، وبحاجة إلى سنوات أكثر، كي تتطور و تكون قادرة على تكوين إطارات المستقبل.
هكذا كونت «الحديقة الساحرة» و «بين الثانويات» جيلا مثقفا
خلال رحلته عبر الزمن وعودته بالذاكرة إلى المرحلة الذهبية لقطاع التربية في قسنطينة، قال الأستاذ عبادة بأنه يتمنى عودة المسابقات التربوية و التعليمية التي كانت تشهدها الولاية سابقا، على غرار المنافسات العملية بين الثانويات و بين المتوسطات و  المسابقات الفكرية التي لطالما شهدتها الإبتدائيات، وكانت مناسبة لتعزيز النشاط الثقافي في المدينة، مؤكدا بأن هذه المناسبات الفكرية، ساهمت في تكوين جيل مثقف و واع، حالها حال حصص تلفزيونية هامة مثل « بين الثانويات» و «الحديقة الساحرة».
 هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى