تميّزت صناعة الأثاث المنزلي بمنطقة حامّة بوزيان في ولاية قسنطينة خلال السنوات الأخيرة باستحداث النجارين لموديلات جديدة، جعلت من ورشاتهم قطبا وطنيا يقصده التجار من ولايات مختلفة بالإضافة إلى زبائن التجزئة، في حين يؤكد لنا المشتغلون بهذا المجال أن منافسة المادة المستوردة وتغيرات السوق خلال الأعوام الأخيرة، قد فرضت على نجاري الحامة الانفتاح على نماذج مختلفة عبر شبكة الانترنيت، بالإضافة إلى المسارعة للتكيف مع التطور السريع لسوق الأثاث بولايات الوسط كالعاصمة والبليدة ومناطق شرقية مثل سطيف والعلمة، فضلا عن أن التكامل بين المصنعين قد خلق مناخا اقتصاديا يسمح بتطور هذا النشاط.
روبورتاج: سامي حباطي
نطلقت جولتنا من حي عين سداري ببلدية حامة بوزيان، فقد تحول هذا الموقع إلى تجمع لعدد كبير من تجار الأثاث المنزلي بمختلف أنواعه، حيث يمثلون واجهة تطل على الطريق لتخفي خلفها العشرات من ورشات النجارة المستترة بين البنايات والمنازل. توقفنا عند المحل الأول، ولاحظنا أنه عامر بالأثاث المصنّع محليا، ليؤكد لنا صاحبه أن جميع السلع الموجودة في متجره من إنتاج ورشات الحامة، التي تملك أسرته واحدة منها.
وبيّن لنا التاجر عبد الرحيم التقنيات الجديدة التي طرأت على صناعة الخزائن الخشبية للملابس مقارنة بما كان منتهجا من طرف النجارين سابقا، ومن بين الأمور الظاهرة بحسبه، استعمال مفاصل أبواب مخفية، عوض المفاصل التقليدية التي كانت تظهر على الجهة الخارجية من الخزانة، حيث أشار محدثنا إلى أن صناعة الأثاث تخضع لمدى توفر المادة الأولية من القطع الصغيرة، التي يحتاج إليها النجار لإنجاز قطعة متكاملة.
قياسات الشقق الجديدة تفرض تعديل حجم الأثاث  
وأرانا نفس التاجر طاولات خشبية مصنعة في ورشة عائلته وهي خاصة بغرف الجلوس والمطابخ المنزلية، حيث أوضح أن عمال الورشة يصنعون سقف الطاولة والكراسي، بينما تتعامل الورشة مع مختص في صناعة الأرائك الجلدية، يقوم بإنجاز جزء جلدي من مسند الظهر الخاص بالكراسي، ليقوم عمال الورشة بتركيبه بمفردهم، في حين أكد لنا أن محله يضم عدة أصناف من الأثاث وبأسعار مختلفة لتلبية طلبات جميع الزبائن بحسب قدرتهم الشرائية وأذواقهم، كما نبه إلى أن أغلبها أنجزت بخشب الشمال، باستثناء بعض القطع المنزلية المصنّعة بأنواع أخرى من الخشب المعدّل.
واستغرقنا في تبادل أطراف الحديث مع عبد الرحيم، الذي أكد لنا أنه يعمل في بيع الأثاث منذ سنوات طويلة، حيث سألناه عن سبب صغر حجم خزائن الملابس التي يعرضها، فأوضح لنا أن القياسات الجديدة للشقق فرضت على النجارين تعديل أحجامها لتتناسب معها، بحسب ما يطلبه الزبائن، الذين باتوا ينفرون من الخزائن الكبيرة التي كانت رائجة في سنوات سابقة، كما أضاف أن ظروف أغلب الزبائن الذين يقيمون في الشقق قد دفعت بالنجارين إلى استحداث الأبواب ذات السكة من أجل توفير المساحة لفائدة أصحاب البيت، في حين استُبدلت الخزائن ذوات الأربعة أبواب ببابين يتحركان بسكة، لكن محدثنا نبه إلى أن انتشار التقليد بين نجاري حامة بوزيان يقوض المنافسة ويعرقل تسويق الموديلات المستحدثة بقوة، كما يؤدي إلى وقوع بعض الاختلال في الأسعار.  
التّرحيلات إلى السكنات الاجتماعية والزواج تنعش سوق الأثاث

وأضاف محدثنا أن نفس الأمر بات ينطبق على الطاولات ذات الأدراج المستعملة في تخزين الملابس أو أي أدوات منزلية، فبعد أن كانت تتحرك بمزلاج خشبي، أصبحت اليوم مزودة بسكك معدنية صغيرة وقطعة بلاستيكية تشبه العجلة، ما يجعلها تتحرك بسلاسة أكبر وسرعة. ولاحظنا على مستوى نفس المحل وجود عدد كبير من الموائد الدائرية الصغيرة، حيث قال محدثنا إن مبيعاتها ترتفع في فترة المناسبات الدينية كالأعياد ومع اقتراب شهر رمضان بسبب استعمالها من طرف ربات البيوت بكثرة، مشيرا إلى أنها متوفرة بأحجام مختلفة، فيما أكد أن المبيعات تراجعت كثيرا في الفترة الأخيرة بسبب موسم الشتاء الذي يقل فيه الزبائن عادة، على عكس فصل الربيع والصيف الذي تنتعش فيه سوق الأثاث بفضل كثرة حفلات الزفاف وفتح بيوت جديدة.
واصلنا طريقنا إلى محلات أخرى، حيث أكد لنا تاجر يعرض سلعا مصنعة على مستوى ورشات حامة بوزيان أن الترحيلات إلى سكنات اجتماعية جديدة تنعش تجارة الأثاث المنزلي، لأن الأسر المستفيدة تجدد في أغلب الأحيان جميع قطع البيت، رغم تأكيده هو الآخر بأن الفترة الأخيرة تعرف ركودا مقارنة بباقي المراحل من السنة، فيما علّق صاحب ورشة للنجارة على قول التجار بضعف الحركية في السوق بالتأكيد على أنه لا يمارس البيع بالتجزئة إلى الزبائن، لكنه يصنع منذ مدة طويلة كميات كبيرة من الأثاث دون أن تتوقف عن الخروج من ورشته إلى التجار الذين يعودون في كل مرة لشحن المزيد من السلع.
آلة رقمية للنقش على الخشب تحدث ثورة في التصاميم     
وخلال تفحّصنا لبعض قطع الأثاث الموجودة بمحلات حامّة بوزيّان، لاحظنا عليها نقوشا متقنة، حيث أجمع من تحدثنا إليهم من النجارين والتجار أنها منجزة بآلة النقش الرقمي، التي درج المصنعون على الاعتماد عليها في السنوات القليلة الماضية، فمن محدثينا من قال إن ذلك كان منذ سنتين فقط، فيما قال آخرون إنهم بدؤوا يستعملونها منذ حوالي خمس سنوات. وقد أكد لنا أحد التجار على مستوى حي عين سداري أن النجارين كانوا يقصدون في السابق أصحاب ورشات على مستوى سطيف والعلمة من أجل الحصول على نقوش متقنة بالآلة الرقمية قبل أن يقرر بعض من نجاري الحامة اقتناءها.
ويلاحظ أن الكثير من أبواب قطع الأثاث أصبحت تنجز بمادة شبيهة بالخشب المصنوع من الورق المضغوطـ، عوضا عن الألواح الخشبية الرقيقة التي كانت تستعمل في وقت سابق، فقد ظننا في البداية أن المشكلة مرتبطة بأزمة الخشب المترتبة عن تخفيض رخص الاستيراد منذ بدء إجراءات تخفيض النفقات، إلا أن التجار والنجارين أكدوا لنا أنه صار يُفضّل الاعتماد على المادة الشبيهة بالخشب لأن النقش عليها أسهل، كما أن مرور مسننات الآلة الرقمية عليها لا يترك آثارا جانبية ناشزة على الخطوط، لكن لم يصل نجارو الحامة إلى القدرة على النقش على الزجاج، حيث ما زالوا يتعاملون مع ورشات متخصصة في ولاية سطيف توفر لهم طلبيات جاهزة، بحسب ما علمناه منهم.
وأرشدنا التجار إلى نجار متخصص في النقش على الخشب باستعمال الآلة الرقمية في ورشته الواقعة بالمكان المسمى الزويتنة، حيث أوضح لنا عادل صاحب الورشة، أنه يتعامل مع مجموعة كبيرة من النجارين، وهو لا يقوم إلا بوضع الأشكال التي يطلبها زبائنه من مصنعي الأثاث، في حين أخبرنا أحد العمال في الورشة أن النشاط يستمر على مستواها على مدار الساعة، بما فيها الساعات الليلية، كما أنه لا يوجد في بلدية حامة بوزيان إلا أربعة نجارين يملكون هذه الآلة، التي صارت تختصر عمل أسبوع كامل في النقش على الخشب في يوم واحد فقط.
وكانت كميات معتبرة من الأخشاب ذات الأحجام المختلفة التي نقشت عليها أشكالٌ، مكدسةً في الورشة، بالإضافة إلى ألواح كبيرة لم تمرر على الآلة بعد، في حين كان مسنن الآلة يرسم نجوما على لوح خشبي كبير. وأرانا عمال الورشة قطعا منقوشة تستعمل في النوافذ، وأخرى في إطارات الأسرّة الخشبية الخاصة بالأطفال، بالإضافة إلى قطع صغيرة أخرى تمثل كل واحدة منها جزءا من قطعة كبيرة.
الأعطال ومشاكل الصيانة تثني النجارين عن تجديد الآلات

وصرح العمال أن سعر الآلة الرقمية للنقش على الخشب المستوردة من الصين يصل إلى حوالي 300 مليون سنتيم، بينما يقدر سعر شبيهتها المستوردة من ألمانيا بـ400 مليون سنتيم، كما أكدوا لنا أن قطع الغيار الخاصة بها أصبحت متوفرة، فضلا عن الأشخاص المتخصصين في تصليحها، لكننا تحدثنا إلى نجارين آخرين فأكدوا لنا أنهم عزفوا عن تجديد آلاتهم وما زالوا يعتمدون على آلاتهم القديمة المستوردة من إيطاليا، فهي «ذات فعالية كبيرة ومتماسكة رغم قدمها»، مثلما وصفها أصحابها.
ويستعمل النجارون آلات مستوردة من بلدان أخرى أيضا، مثل بلغاريا، لكن محدثينا أكدوا أن أكثر الآلات جودة هي المستوردة من البلدان الأوروبية، في وقت لا يتوقف التجديد في التصاميم على الآلات، فالمصنعون أصبحوا يعتمدون على مواد جديدة للطلاء، مثل مادة «جانز» التي تحتوي على مادة الدهن والبرنيق وبعض المكونات الأخرى التي كانت توضع كل منها على حدة، بالإضافة إلى نوع جديد من الخشب المركّب من عدة مواد ويسمى «هاي غلوس»، حيث يستورد من تركيا وهو في غاية الصلابة، رغم ملمسه السلس.
ويتطلب النقش على هذه النوعية من الخشب آلة تعمل بأشعة الليزر، وهي غير متوفرة على مستوى بلدية حامة بوزيان، ما يجعل النجارين ينقلون أخشابهم إلى العلمة ومدينة سطيف للقيام بالعملية، كما أن سعر الـ»هاي غلوس» مرتفع مقارنة بنوعيات أخرى من الخشب، حيث يبلغ ثمن اللوح الواحد منه بمساحة 3 أمتار على متر و80 سنتيمترا ما بين 11 إلى 13 ألف دينار، ويظهر هذا الأمر في أسعار الخزائن الخاصة بغرف النوم مع لواحقها، حيث يتجاوز بعضها 20 مليون سنتيم، مثلما وقفنا عليه لدى التجار.
والملاحظ على تصنيع الأثاث من طرف أصحاب الورشات في حامة بوزيان، بحسب ما لمسناه من الحديث إليهم، أنه أصبح يتم في إطار عملية تكاملية يشترك فيها العديد من المتدخلين من خلال إنتاج أجزاء مختلفة، فبعض النّجارين متخصّصون في صناعة القطع الصغيرة فقط، على غرار قوائم الطّاولات والموائد التقليدية، كما أن أحد العمال أكد لنا أن الورشة التي يزاول بها عمله مختصة في التركيب والتقطيع بالآلات، ويتم فيها تصنيع خزائن الكتب، بينما تجري عملية الطلاء في مكان آخر، حيث أوضح لنا أن الورشة تتعامل مع خرّاط لصناعة أجزاء التزيين.
الانترنيت نافذة النجارين على الموديلات الجديدة  
أما بخصوص مصادر الموديلات التي يعتمد عليها النجارون في تجديد منتجاتهم، فقد أفاد نجارون أن شبكة الانترنيت ومنصة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» قد فتحت آفاقا جديدة، حيث صار المصنعون يطلعون على نماذج في بلدان أخرى، بينما يبدع نجارون آخرون تصاميم بأنفسهم، مثلما قال أحد التجار ومالكي ورشة نجارة، مشيرا إلى أن هناك من يحوز خبرة ثلاثين سنة من العمل، فيصير إنتاج التصاميم أمرا بسيطا بالنسبة إليه.
وسرد لنا أحد قدماء التجار بالحامة بأن تصميم الأثاث المنزلي عرف عدة مراحل على مستوى منطقة حامة بوزيان، حيث كانت التصاميم بسيطة جدا في البداية، نظرا للخبرة القليلة للناشطين الأوائل في هذا المجال بداية سنوات ألفين، ثم أخذت النجارة تتوسع تدريجيا، لكن المنافسة مع أقطاب أخرى لتصنيع الأثاث على المستوى الوطني فرضت عليهم تحسين أسلوبهم ونوعية الأخشاب المستعملة، بالإضافة إلى أن المنتجات المنزلية المستوردة قد أغرقت السوق في وقت مضى بتصاميم خلاقة ومتنوعة، ما جعل نجاري الحامة يتكيفون مع المتغيرات الجديدة من أجل البقاء، خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة.  
ويضيف محدثنا أن التصاميم الجديدة تتحول إلى «موضة» أثاث بمجرد انتشارها وتعميم صناعتها على مستوى حامة بوزيان، التي يقصدها تجار من مناطق مختلفة، رغم تأكيده على أن بعض الموديلات لا تلقى قبولا في بعض الأحيان من طرف الزبائن، رغم أن أسعارها تبقى تنافسية، بحسبه.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى