عميـد الطـب الشرعــي الـذي فـــكّ خيــوط جرائم معقـدة
• تعاملنا مع قضايا اختطاف الأطفال بدقة وحكمة   
يعتبر البروفيسور عبد العزيز بن حركات عميد الطب الشرعي و مؤسسه بولاية قسنطينة، فقد درس هذا التخصص بفرنسا و أنشأ في سنة 1982 أول مصلحة للطب الشرعي بالولاية في المستشفى الجامعي بن باديس، و لا يزال إلى غاية اليوم المسؤول الأول عن المصلحة، و قد تمكن من تكوين  59  طبيبا في هذا التخصص،  إلى جانب نائبته و ذراعه الأيمن البروفيسور زهرة بوذراع، التي قال بأنه سيتنازل لها عن رئاسة الأطباء بالمصلحة في أول فرصة ممكنة، ليتفرغ للتكوين و تأليف الكتب، مشيرا إلى أنه سعيد لأنه تمكن من التخلص من صفة «طبيب الأموات» التي طالما نعت بها، و لا يزال يمارس عمله في القطاع العام، كما أوصاه والده، مؤكدا بأن الطب فن و حكمة  و أخلاقيات قبل كل شيء.
هذه الشخصية العامة الشهيرة و المهيبة، البالغة من العمر 67عاما، التي تحظى بالاحترام و التقدير في المجتمع، ارتبط اسمها لأكثر من 35 عاما، بالمساهمة الفعالة في الكشف عن خبايا و أسرار عدد كبير من القضايا المعقدة التي أثارت الرأي العام،  استقبلت النصر في مكتبها البسيط بمصلحة الطب الشرعي بمستشفى بن باديس، بوجه بشوش و ابتسامة عريضة و الكثير من الترحيب، لتميط اللثام، لأول مرة، عن محطات عديدة في مسارها الذي وصفته بالصعب المليء بالتحديات و الصعاب و أيضا الانجازات.
البروفيسور أكد لنا بأنه عمل و اجتهد طيلة حياته في الظل و لا يحب الحديث عن نفسه، لكنه وافق نظرا لإلحاحنا،  مشيرا إلى أنه تقلد إلى جانب عمله كرئيس أطباء في مصلحة الطب الشرعي، العديد من المناصب السامية، من بينها منصب مدير كليات الطب الخمس في الشرق الجزائري من 1989 إلى 1995 و رئيس الأكاديمية الجامعية بالشرق الجزائري من 1995 إلى 1997 ، ثم نائب في المجلس الشعبي الوطني من 1997 إلى 2002 ، و وصف هذه التجربة بالممتازة. و أضاف المتحدث بأنه بعد أن كان عضوا في الجمعية المتوسطية للطب الشرعي منذ 1984، تولى منذ سنة 2006 إلى غاية اليوم، مهام نائب رئيس الجمعية.  
الطب خطفه من حبه الأول الرياضيات
 الحب الأول و التخصص الأول بالنسبة للبروفيسور بن حركات هو الرياضيات و الفيزياء و كان سيواصل دراستهما بجامعة الجزائر العاصمة، كما قال لنا، لكن الطب خطفه من المعادلات الرياضية و الفيزيائية إلى تخصص اجتماعي يكمل عمل العدالة، هو الطب الشرعي الذي يستفز فيه عادة التفكير العلمي المنطقي و البحث عن عناصر معادلات أخرى، و من ثمة  بذل  قصارى جهده رفقة طاقمه المتخصص لفك خيوط الجرائم، عن طريق رصد و جمع الأدلة العلمية بدقة، و تقديمها إلى العدالة، لأنها أساسية في تسليط الضوء على أكثر القضايا تعقيدا، و من ثمة الفصل فيها.
و قد أشار البروفيسور ، إلى أن عمله في هذا المجال طيلة النهار و أحيانا في الليل لأكثر من 35 عاما، لم يسمح له بالاستمتاع حقا بمشاهدة أبنائه الثلاثة يكبرون و البقاء طويلا في البيت معهم و تلبية احتياجاتهم، فقد اهتمت بتعليمهم و رعايتهم زوجته الأستاذة الجامعية المتخصصة في علم الاجتماع، معربا عن فخره بهم ، رغم أن لا أحد منهم اختار تخصصه، فهو والد دكتورة  في علم النفس و دكتورة في الهندسة المعمارية و دكتور في طب الأطفال،و أكد بأن الفضل في نجاحه في مهنته يعود لأسرته الصغيرة و أيضا لوالديه اللذين حظي برضاهما .
و أضاف بأن رزنامته المليئة بالمهام و المسؤوليات ، لا تمنعه من عشق كرة القدم التي كان يمارسها و هو شاب ضمن فريق مستشفى بن باديس، و يحتفظ بصور فوتوغرافية للفريق في  مكتبه و كذا السينما، معربا عن أسفه لعدم توفر قاعة بمدينة قسنطينة، و بالتالي يغتنم فرصة مشاركاته في الملتقيات الدولية، ليخصص بعض الوقت للتوجه إلى السينما و الاستمتاع بمشاهدة أشهر و أحدث الأفلام العالمية، و كذا المسارح، فالبروفيسور لا يرى تعارضا بين حب الطب و الفن، فالطب، حسبه، فن يتطلب المرونة و حسن التعامل مع المرضى و مساعدتهم و توجيههم،  و كلاهما أخلاقيات لا بد من احترامها و الالتزام بها .
و عاد البروفيسور بن حركات بذاكرته إلى مدينة سوق أهراس، حيث رأى النور و نشأ و ترعرع في كنف أسرة بسيطة، شجعته على طلب العلم ، مشيرا إلى أنه درس الطورين الابتدائي و المتوسط خلال الفترة الاستعمارية في مدرسة «الأنديجان» بسوق أهراس، ثم انتقل إلى قالمة لمتابعة دراسته الثانوية في فرع الرياضيات، و حصل على الجزء الأول من البكالوريا هناك في سنة 1968  و انتقل إلى عنابة لاجتياز الجزء الثاني في 1969 فكلل مساره بالنجاح.
كسرت نظرة «طبيب الأموات» التي كانت سائدة
و تابع البروفيسور رصد ذكرياته في تلك الفترة المصيرية من حياته، قائلا» بعد ذلك ، قررت أن أتابع دراستي الجامعية في الرياضيات و الفيزياء، لأنني أحبهما كثيرا و تخصصت فيهما  في المرحلة الثانوية، و شجعني أبي على ذلك و رافقني إلى الجزائر العاصمة لأسجل نفسي في جامعة باب الزوار، لكن القدر رسم لي طريقا آخر جد مختلف لم يسبق لي و أن تصورت أن أخطو  فيه و لو خطوة واحدة، هناك التقينا بصديق لوالدي، فبذل قصارى جهده لإقناعي بدراسة الطب، مشيرا إلى معاناة والدي الكبيرة خلال الثورة التحريرية و كوني ابنه البكر و بالتالي إخوتي و عائلتي يحتاجون إلى مساعدتي  و دراسة الطب يمكنني من ذلك، خاصة و أن كلية الطب موجودة بقسنطينة، و هي غير بعيدة كثيرا عن سوق أهراس، كما أن هناك حي جامعي يضمن لي المأوى و الإطعام. اقتنع والدي بنصائح صديقه، خاصة و أن الطبيب آنذاك كانت له قيمة و هيبة و مكانة خاصة في المجتمع،  و وافقت أنا و توجهنا إلى كلية الطب بقسنطينة لأسجل نفسي، و أحببت الطب لاحقا بفضل أساتذتي «.إن قائمة الأساتذة الذين نهل على أيديهم محدثنا العلوم الطبية و تأثر بهم طويلة، كما أكد، من بينهم البروفيسور بلقاسم بن اسماعيل و البروفيسور عباس و البروفيسور يحيى قيدوم الذي ربطته به علاقة قوية ذات بعد عائلي.
 و أوضح البروفيسور بن حركات» كان عدد طلبة الطب قليلا آنذاك، و كنا نكد و نجتهد في التعلم من أساتذتنا الذين وضعوا أرضية صلبة للمهنة و طوروها ، وأسسوا لديناميكية في التعلم و التكوين المستمر عن طريق  تنظيم أيام تكوينية و وتوفير  المنشورات، لقد كنت محظوظا لأن الشراكة بين كليتي الطب بقسنطينة و ستراسبورغ كانت مثالية في تلك الحقبة، و  تم تطبيق برنامج مكثف ليشارك أيضا أساتذة فرنسيون في تكويننا بالكلية، إلى جانب أساتذتنا الجزائريين الذين سخروا كل شيء ليتم ذلك على أحسن وجه، إن الفضل يرجع أيضا للجامعة الجزائرية التي وفرت إمكانيات كبيرة و ذكية لتكويننا».
  أول طبيب شرعي بقسنطينة
ليس بمحض الصدفة أن نرى عددا كبيرا من الأطباء الذين درسوا بكلية قسنطينة، يعملون بالخارج و يحظون بمكانة خاصة، على غرار البروفيسور رحال المتخصص في علاج الأورام السرطانية المتواجد في السعودية، و العديد من الأطباء العامين بباريس و غيرها، كما علق محدثنا، معربا عن أسفه لأن تكوين الأطباء مكلف جدا و يتم اختيار أفضلهم للهجرة، و بالتالي يتواصل نزيف الأدمغة.
و بخصوص سؤالنا عن اختياره لتخصص الطب الشرعي، قال البروفيسور بن حركات بأنه تخرج في 1977 كطبيب عام، و لم يدرس الطب الشرعي بالكلية، و لأنه، على حد تعبيره، يحب الورشات الجديدة، قرر أن يكتشفه و يضيف شيئا للتعليم الطبي ببلادنا، حيث توجه إلى جامعة باريس 5 روني ديكارت، و تابع هذا التخصص إلى غاية التخرج في جويلية 1980، و لم يفكر قط في العمل في بلد غير بلاده التي يعشقها، و عاد إلى قسنطينة و كان أول طبيب شرعي بالولاية.
 بدأ المتحدث مساره في هذا المجال من الصفر، حيث حصل في 1981 على مكتب و سكرتيرة بمصلحة الاستعجالات بالمستشفى الجامعي بن باديس بقسنطينة، و بعد إعادة هيكلة المؤسسة أسندت له مهمة فتح و تسيير مصلحة الطب الشرعي، و فتحت أمامه الكثير من التحديات، و من بينها تغيير النظرة إلى الطبيب الشرعي و اعتباره «طبيب الأموات»، لأن قاعة حفظ الجثث توجد بمصلحته و يكلف بتشريح الجثث من قبل العدالة و الخبرات، للكشف عن الجرائم بالأدلة العلمية، ليصنف لاحقا كطبيب للأحياء، لأنه يبحث أيضا و يجمع الأدلة العلمية الدامغة لمساعدة جهاز العدالة في التحقيقات من أجل إجلاء الحقائق و إدانة الجناة و نصرة المظلومين و إحقاق الحق و العدل، و علق «دون العدالة الطب الشرعي يموت».
قصة قابيل وهابيل تبعث في الحامة
و عن سؤالنا حول أصعب الحالات التي صادفها، أكد بأنها تلك المرتبطة باختطاف الأطفال التي سرعان ما تتحول إلى قضايا رأي عام و تتطلب الكثير من الحكمة و السرعة و الدقة في رصد الأدلة العلمية لإثراء التحقيقات الجارية و الكشف عن الحقائق، مشيرا إلى أن المصلحة تتعاون مع شريكين أساسيين هما مخبر الشرطة و المعهد الوطني للأدلة الجنائية و علم الإجرام ببوشاوي في مهامها.
و ذكر أيضا قضية الشاب الذي اختفى من بيت أسرته طيلة ثلاث سنوات، دون أن يعلم أحد مكانه، ليتضح لاحقا بعد حفر حديقة بيته بأنه دفن هناك، و بينت الأدلة الجنائية، بأنه مات مقتولا و شقيقه هو الجاني، لتتكرر نسخة معاصرة لقصة قابيل و هابيل في حامة بوزيان، كما أعرب عن أسفه لتفاقم ظاهرة العنف بمجتمعنا، فقد عاين أطباء المصلحة في العام الماضي6 آلاف و 897 ضحية عنف بأشكاله، و تتوجه إلى المصلحة خمس نساء معنفات في المتوسط يوميا للمعاينة و تحديد العجز. و بخصوص ظروف العمل في مصلحة الطب الشرعي خلال العشرية السوداء، قال البروفيسور بأنها كانت صعبة جدا و تعرض، على غرار كافة أطباء المستشفى، إلى تهديدات، لكن التحلي بالعقلانية و التعاون مع العدالة في معالجة الأمور، جعله يجتاز المرحلة بسلام، و أكد بأن العمل في المصلحة جد حساس و يتطلب الصرامة مع جميع أعضاء الطاقم الطبي و التقني و الإداري الذين يكملون بعضهم، من أجل الحفاظ على سر المهنة و الالتزام بأخلاقياتها و حسن التعامل مع المرضى و ضحايا الاعتداءات، و توجيههم، و من يقصر في ذلك يعاقب أو يحول إلى مصلحة أخرى .
   التونسيون  و  المغاربة اقتدوا بالنموذج الجزائري والفرنسيون طلبوا القوانين
و يرى المتحدث من جهة أخرى بأن الطب الشرعي متطور في بلادنا،  في ما  يتعلق بالتنظيم و دراسة و تكوين الطلبة، و الصحة و ترسانة النصوص القانونية التي تقننه، مقارنة ببلدان أخرى، مشيرا إلى أن الطبيب الشرعي في إسبانيا مثلا، لم يحظ بمكانته المناسبة فهو لا يزال يكتفي بتقديم الخبرات و تشريح الجثث، كما كان يفعل الطبيب الشرعي الجزائري في بداية الثمانينات. و أكد بأن الفرنسيين طلبوا منه لاحقا النصوص المعمول بها في الطب الشرعي الخاص بالأحياء ببلادنا، كما اقتدى التونسيون و المغاربة بالنموذج الجزائري في هذا المجال. و أكد البروفيسور بأن أكبر مشكل يواجهه الأطباء في هذا التخصص حاليا ببلادنا هو عدم التنسيق بينهم و عدم تبادل الآراء و الخبرات، و لو حدث ذلك لتطور أكثر فأكثر، داعيا في الوقت نفسه إلى تطوير قطاع العدالة و تقييم القوانين بناء على بحوث علمية متخصصة من أجل مكافحة الآفات الاجتماعية .
إلهام طالب

الرجوع إلى الأعلى