تناقص اهتمام الطلبة بالرياضيات في الأعوام الأخيرة، و أصبحت بالنسبة لهم مجرد مفاهيم صعبة «يُجبَرون» على دراستها في الأطوار التعليمية الثلاثة، من أجل الانتقال من سنة إلى أخرى ثم اختيار تخصصات جامعية يعتقدون أنها منفصلة تماما عن المعادلات و اللوغاريتمات التي لُقِنت لهم في السابق، رغم أن أهل الاختصاص يؤكدون في ندوة أجرتها النصر على هامش يوم دراسي نُظم مؤخرا بجامعة قسنطينة1، أن جميع مناحي الحياة قائمة على الرياضيات التي صار التحكم فيها من عوامل تقدّم الدول في العصر الحديث.
ندوة من إعداد: ياسمين بوالجدري

«ما هي فائدة الرياضيات و لماذا ندرسها؟”، هو تساؤل كثيرا ما يطرحه التلاميذ و الطلبة الذي يدرسون تخصصات في العلوم الإنسانية تبدو في ظاهرها أنها بعيدة عن مفاهيم الرياضيات، فنجد أن هذه المادة تحوّلت إلى بعبع بالنسبة للكثيرين، ليس لصعوبتها فحسب و ضرورة الاجتهاد لفهمها، بل لأنها من المواد الأساسية في الكثير من الشعب العلمية، فغالبا ما يشتكي تلاميذ السنوات النهائية بأنهم لا يفهمون منها إلا القليل. و أمام هذا الوضع، صارت شعبة التقني- الرياضي في الثانوية، من أكثر الشعب “المنبوذة”، فتقّلص عدد الأقسام الخاص بها بشكل كبير، سيما أن النجاح في امتحان البكالوريا يعتمد بهذا الفرع على علامة الرياضيات بشكل رئيسي، أما في الجامعة فهناك المئات من الطلبة الذين يسجلون بهذا التخصص، لكن الكثير منهم فعلوا ذلك لأن حظوظهم في اختيار الطب أو الصيدلة أو الفروع الأكثر شعبية، كانت أقل، فتواصل نسبة قليلة منهم الدراسات العليا، و يتجّه العديد منهم إلى سلك التعليم، لتكون النتيجة جيل دخل في قطيعة مع الرياضيات التي كان لها الفضل في اكتشاف أنشتاين للنظرية النسبية و حصل العلماء الذين برعوا فيها على جوائز “نوبل” طيلة العشرين عاما الماضية.

دكتور الرياضيات بجامعة منتوري نذير طيار
بعض الأساتذة لا يوصلون المعلومة و هناك طلبة لا يبذلون جهدا
يرى الدكتور نذير طيار أستاذ الرياضيات بجامعة قسنطينة 1، أن الأزمة التي تعيشها الرياضيات ببلادنا، راجعة إلى تراكمات تبدأ من الأطوار التعليمية الأولى و قال إنها نتجت في الأساس عن عدم إجادة بعض الأساتذة الطرق الصحيحة لتعليم هذه المادة التي تعتمد على الفهم، مقابل عدم بذل الطلبة للجهد المطلوب.
و أكد الأستاذ طيار أن الكون كله يسير بمعادلات رياضياتية قائمة على ثوابت فيزيائية، بحيث لو اختل أحدها يصبح عالمنا غير موجود، و حتى الحركات التي نقوم بها، مثلما قال، عبارة عن تحويلات نقطية تُدرس في الرياضيات، لذلك فإن مفاهيمها هي أساس كل العلوم من الفيزياء و الكيمياء و الهندسة إلى العلوم الإنسانية التي تستخدم مبادئ الإحصاء و الاحتمالات، بل حتى الشعر و الأدب، مضيفا أنه أجرى بصفته شاعرا أيضا، دراسة حول قصة الشعر العربي مع الرياضيات من العصر الجاهلي إلى العصر الرقمي، حيث أثبت فيها أن الخليل بن أحمد، مكتشف بحور الشعر، استعمل التراتيب لحصر أوزان الشعر الخمسة عشر. و علّق الدكتور طيار على من يتساءلون عن دور الرياضيات في حياتنا بالقول “لا يوجد عصر دخلت فيه الرياضيات في الحياة اليومية للبشر مثلما فعلت الآن!”، حيث أوضح في هذا الشأن أن الأرقام أصبحت جزءا من يومياتنا، فمعظم تعاملاتنا صارت عددية، و من الأمور الغريبة، كما أضاف، أن بعض طلبته سألوه عن جدوى دراسة الجبر الخطي، رغم أنه القاعدة العلمية التي اعتُمد عليها في غزو الفضاء و صناعة الروبوتات. و أضاف الدكتور أن أزمة الرياضيات التي نعيشها ليست مقتصرة على الجزائر، بل نتشارك فيها مع العرب و حتى مع باقي دول العالم، مرجعا ذلك إلى كونها علما تجريديا ليس لجميع الأشخاص القدرة على فهمه، بما يتطلب حاصل ذكاء مرتفع، و هي مشكلة أضيفت إليها عوامل أخرى تتمثل في طرق تدريس هذه المادة في المستويات المختلفة و خاصة، كما قال، في الطورين المتوسط و الثانوي، حيث يشتكي الكثير من الطلبة من عدم الفهم نتيجة تراكمات السنوات السابقة، أحيانا لأن الأستاذ لا يجيد طريقة إيصال المعلومة، أو لأنهم لا يبذلون الجهد المطلوب لفهم هذه المادة التي تتطلب حل التمارين و ليس الحفظ فقط كالمواد الأخرى. و لا ينكر أستاذ الرياضيات أن هناك “مجهودا جبارا” يبذل على مستوى البرامج التعليمية من خلال تجديدها و تحديثها كل عام، لكن يجب العمل، برأيه، على الاهتمام بجميع العناصر المكونة للمنظومة التعليمية، و هي التلميذ و الأستاذ و البرنامج و كذلك المؤسسة التربوية، قصد تحقيق النجاح المرجوّ.

البروفيسور بوسكتة سعيد من جامعة نيوكاسل بإنجلترا
عدم الاهتمام بالرياضيات يحدّ من قدرات التفكير و الابتكار
يعترف البروفيسور سعيد بوسكتة، الأستاذ بمدرسة هندسة الكهرباء و الإلكترونيك بجامعة نيوكاسل بالمملكة المتحدة، أن الرياضيات مادة صعبة، و هو ما جعل العديد من الطلبة ينفرون منها، رغم أهميتها التي تتزايد في عصرنا الحالي و الدور الكبير الذي تلعبه نظرياتها في حل أبسط المشكلات اليومية إلى أكثرها تعقيدا. و يرى البروفيسور بوسكتة أن العزوف عن الرياضيات مشكلة عالمية مسجلة حتى في الدول المتقدمة، بحيث ينفر التلاميذ منها و من المواد العلمية التي تدخل فيها، و ذلك لكون الرياضيات مادة صعبة، ما جعل الطلبة في العصر الحديث يتوجهون أكثر نحو الطب و العلوم الإنسانية و التخصصات التي لها علاقة بالمالية. و يؤكد الأستاذ أن الرياضيات موجودة في كل مكان، فأزمة المرور مثلا لا تحل إلا بالرياضيات عن طريق إعداد دراسة تطرح الحلول، كما أنها موجودة في مجال الاتصالات اللاسلكية و في معالجة الإشارة و غيرها من التخصصات، لذلك فهي ليست علما جافا مثلما يظن البعض، مُستدلا في ذلك بأن الشخص النابغة في الرياضيات، يستطيع أن ينجح في أي فرع، سواء في الهندسة أو الاتصالات أو معالجة الإشارة أو المالية و غيرها، حتى أن السوق المالية بها نماذج وضعت من طرف الرياضيين. و تطرق المتحدث إلى الإفراط في استخدام تلاميذ الأطوار التعليمية الأولى للآلات الحاسبة، عوض استعمال عقولهم في الحساب الذهني، حيث أكد أن ذلك يؤثر على القدرة الذهنية للطفل و على روح الابتكار لديه، و هي ظاهرة قال إنها عامة و جعلت الطلبة، حتى في الدول المتقدمة، لا ينظرون للأشياء بعمق، فنجدهم يستعملون الحاسوب و الأشياء الجاهزة، دون أن يهمهم ما هو موجود بداخلها. و يعتبر البروفيسور بوسكتة أن الحل يكمن في تشجيع دراسة الرياضيات، عن طريق تقديم منح للطلبة و نشر الوعي لديهم بداية من أطوار الابتدائي و المتوسط و الثانوي، و ذلك لكي يقدّروا قيمة الرياضيات و لتحبيبهم في هذا العلم، مضيفا أنه و طيلة العشرين سنة التي قضاها في جامعات إنجلترا، التقى بالعديد من الطلبة و الباحثين الجزائريين المتخصصين في الرياضيات و الذين يمتلكون مستوى جيدا، لكن ما يحتاجونه، برأيه، هو خلق بيئة مشجعة على على البحث.

بن حبيب سمير أستاذ في معهد الرياضيات
معظم من يدرسون الرياضيات سجّلوا بسبب المعدل و ليس حبا فيها
يطرح الأستاذ بن حبيب سمير من قسم الرياضيات بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، مشكلة نقص الأساتذة في هذا التخصص، و ذلك مقابل تسجيل عدد كبير من الطلبة الذين قال إن أغلبهم لم يختر التخصص عن حبّ، بل اضطر إلى دراسته بسبب معدل البكالوريا.  و ذكر الأستاذ بن حبيب أن العجز المسجل في التأطير بجامعة قسنطينة 1، دفع بالإدارة إلى الاستعانة بمؤطرين لا تزال نسبة كبيرة منهم تدرس، ما من شأنه أن يوثر على نوعية التكوين، خاصة أن عدد الموجهين إلى هذا التخصص في ارتفاع مستمر، غير أن أغلبهم، مثلما قال، لا يأتون حبّا في الرياضيات، بل لأنه لا يوجد لديهم خيار آخر، لكون المعدل المتحصل عليه في امتحان شهادة البكالوريا حتّم عليهم هذا الفرع. و أضاف الأستاذ أن الرياضيات من الشعب التي يتطلّب النجاح فيها أن يكون الشخص راغبا في دراستها و شغوفا بعلومها، لذلك فإن معظم من تخصصوا في الرياضيات خلال العقود الماضية، اختاروها و أحبوّها، و هو وضع قال إنه تغيّر اليوم، زيادة على ذلك، لم يعد من يسجل في هذا الفرع، حسب الأستاذ، من نخب الثانوية و مميزا و متحصلا على معدل عال في شهادة البكالوريا، مثلما كان عليه الأمر في السابق.

الدكتور محمد أمين نيانغ باحث جامعي من السنغال
أنقــذنا مدينة من الفيضانات بفضــــل بحــــث في الرياضيــــات
يعتبر الباحث الجامعي محمد أمين نيانغ من دولة السنغال، أن الرياضيات هي الحياة، فعن طريقها تُحل المشكلات اليومية التي نعيشها، ما يستوجب برأيه الاهتمام بها أكثر خاصة في الدول الأفريقية السائرة في طريق النمو. و اعترف الدكتور نيانغ بوجود مشكلة تتمثل في سوء فهم هذا العلم من طرف بعض الأشخاص، حيث لا يرون أهمية الرياضيات، رغم أنها مطبقة في جميع مناحي الحياة، سواء في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أو الاتصالات اللاسلكية و حتى الإعلام، معلقا « هي الحياة باختصار». و عن وضعية تدريس الرياضيات في البلدان الأفريقية النامية، أكد الباحث أنه من الضروري أن تهتم الدول السائرة في طريق النمو بهذا العلم، لأنه، كما قال، السبيل لحل مشاكل التنمية كتلك المطروحة في قطاع الصحة و إنجاز المنشآت، إذ يمكن دائما استعمال الدراسات الرياضياتية لوضع نماذج و إيجاد حلول. و قال الأستاذ إنه و في السنغال مثلا، توجد فرق بحث في مجالات عدة، بينها الرياضيات التطبيقية التي ساهمت بشكل فعال في حلّ المشكلات اليومية للمواطن، على غرار ما حدث في إحدى المدن التي كان يدرس بها، عندما استعانت السلطات بفرق البحث من أجل إيجاد حلول لمشكلة الفيضانات التي كانت تشهدها المنطقة باستمرار، و فعلا اقترح الباحثون نموذجا تم تطبيقه و أتى بنتائج إيجابية.                          
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى