المجاهد السعيد حمروش
  بداية واجب الترحم على شهداء الثورة التحريرية وشهداء الفيالق وتحية للإخوة الذين ما زالوا على قيد الحياة  في إطار تحسين الأداء العسكري لجيش التحرير وتطوير أساليبه القتالية، أوصى مؤتمر الصومام بضرورة إعادة هيكلة جيش التحرير وتنظيمه وفق الهيكل التنظيمي التالي:
الفيلق ويتكون مما يساوي أو يفوق 800جندي، الكتيبة ويكون عددها يساوي أو أكثر من    100جندي، المجموعة أكثر من 35 جنديا، الفوج من 11جنديا، ونصف الفوج من5 جنود.
     كما وضعت الرتب العسكرية وفق تسميات ، والتي يلاحظ عن هذه التسميات أنها مقتبسة مما هو موظف عند الزوايا، ليتجلى المخزون المرجعي لفكر الثورة التحريرية وتوظيفها للموروث الثقافي للمجتمع الجزائري، لأن التجربة الجزائرية تفتقر لمثل هذا التنظيم والتسميات، إلا إذا عددنا تجربة الأمير عبد القادر على محدوديتها والتي وظفت تاريخ الإسلام وليس التاريخ الوطني.
    وتبعا لما قرره المؤتمر بادر المجاهد علي منجلي بتشكيل أول فيلق بالولاية الثانية من نخبة من المجاهدين خاصة للمنطقة الثالثة التي كانت تحت قيادة الشهيد زيغود يوسف، وقد تمركزت قوات الفيلق بمليلة منطقة عزابة، وخاض الفيلق بقيادة المجاهد علي منجلي معركة عين القصب بالاشتراك مع كتيبة من مجاهدي الولاية الثالثة كانوا عائدين من تونس.
  وكنتيجة لهذه المعركة نشأ خلاف بين القائد علي منجلي ومسؤولي الولاية وأرسل على إثرها لتونس وطوي أمر الفيلق من ذلك.
 وأعيد أحياء فكرة تأسيس الفيلق في شهر ماي 1957من طرف مسؤول الولاية السيد علي كافي وفق أسس جديدة، فتشكل بمشاركة ثلاث مناطق؛ كل منطقة شاركت بنخبة جنودها، وعين على كل منطقة مسؤول، فعين على المنطقة الأولى دخلي مختار،والمنطقة الثانية مسعود بوعلي، والمنطقة الثالثة رابح لوصيف مع عبد الوهاب عيسي وآخرين، كما جعل لكل مسؤول نائب أو نائبان اثنان.
 وكانت فكرة تكوين الفيلق بعد دراسة لطبيعة تضاريس الولاية وتنقل قوات العدو لمسافات جبلية بعيدة، وكذا بغرض القيام بعمليات عسكرية كبيرة.
  وخاض الفيلق في بداية ماي أول معركة ببني هارون بناء على معلومات وردت بأن قافلة فرنسية متجهة من الميلية إلى قسنطينة، فرتب قادة الفيلق كمينا ببني هارون وهي منطقة ضيقة بين جبلين ويتوسطها الوادي الكبير، لكن قد تكون معلومات مضادة وصلت للفرنسيين تكشف  وتحدد مكان تمركز الفيلق، فقام الفرنسيون بإخراج قافلة تمويهية على شكل شاحنات عسكرية بلا جنود من الميلية باتجاه قسنطينة، لتتوقف هذه القافلة المزعومة بتاسقيف حوالي 3كلم عن الميلية. في حين جاءت قوات فرنسية حاشدة من الجهة الخلفية، أي من ناحية قسنطينة مدعمة بالطائرات وقوات ميكانيكية مستهدفة الكمين ومستفيدة من عنصر المفاجأة، فخاض المجاهدون معركة قوية استخدم فيها العدو كل إمكانياته، وكانت حصيلة المعركة سقوط في ميدان الشرف عدد من الشهداء، كماجرف الواد الكبير 16 مجاهدا، في حين تمكن المجاهدون من إلحاق العدو خسائر معتبرة وتم أسر إسباني كان يحمل جهاز اتصال.
  وبانتهاء المعركة انسحبت قوات الفيلق وتمركزت في منطقة مشاط وأولاد عربي وأولاد بوفاهة.
 وفي 27ماي 1957 وبناء على معلومات كذلك لدى قادة جيش التحرير بالولاية، تفيد بأن قوات العدو متنقلة من القل إلى الميلية، فرتب قادة الفيلق كمينا للعدو بمكان يدعى (واد زقار) قرب عين قشرة، وإن كانت هذه المعلومة ناقصة كذلك، لأن الشاحنات كانت فارغة ولا تضم إلا سائق الشاحنة ومرافقا له أو مرافقين.
  وتمكن المجاهدون في هذه المعركة الحصول على 27 قطعة سلاح من مختلف الأنواع -وهي موضحة في الصورة-
وبعد هاتين المعركتين، يطرح سؤال أساسي عن جدوى تكوين هذا الفيلق وبهذا التعداد وعن أدائه القتالي، وكذا توفير الظروف والإمكانات لإدارة هذه العدد الهائل من الجنود، وكيف نزاوج بين حرب العصابات وحرب بشروط نظامية تقتضيها طبيعة الفيلق.
     وهذه التساؤلات نابعة من الظروف العامة التي أنشىء فيها الفيلق، والتصورات العامة التي كانت تحكمه، وتدير أموره والسؤال الأهم، هل تأسيس الفيلق كان اجتهادا فرديا أم أملاه نظام الثورة التحريرية.
      فإنشاء فيلق بهذا التعداد يقتضي  التفكير في أمور عدة وهي أساسية منها، كالدعم اللوجيستيكي لهذا التعداد وطرق تمويله وتسليحه، والتغطية الأمنية لتحركاته وتحديد ساحات عملياته، وهذه الإشكالات يمكن أن يتفرع عنها كذلك تساؤلات وقضايا هي في غاية الصعوبة، ولكن أتجنب الخوض فيها لأنها تحكمها أمور نظرية من جهة، وكما يؤدي بنا الحديث فيها إلى إسناد مسؤوليات ونحن اليوم في غنى عنها، لكن ما نسلم به هو حسن نية تأسيس الفيلق وتنظيم جيش التحرير وتحديث جاهزيته.
لكن دعني أناقش جدوى تكوين الفيلق والملابسات المحيطة بذلك، والإجابة عن بعض التساؤلات من خلال ما أفرزته هاتان المعركتان المشار إليهما.
  ففي معركة بني هارون تم إلقاء القبض على مجاهد يدعى(شلي قدور) من سكيكدة وتمً نقله إلى قسنطينة، وهناك استجوب من قبل موريس بابا حاكم قسنطينة وثلاثة جنرالات آخرين.
  ومما طرح على المجاهد (شلي قدور) من قبل موريس بابا -الذي كان يتكلم بالعربية - هو سؤاله عن  دور الطائرات وتأثيرها على المجاهدين، ومنها عملية قصف منطقة بوالزعرور بالطائرات  والأضرار التي تكون قد ألحقتها بالمجاهدين هناك، فأجابه المجاهد شلي قدور أن قذائف طائراتكم تمكنت من قتل (سردوك) أي ديك، فظن موريس بابا أنه يستهزئ به فضربه بصفعة، وختم معه موريس بابا الاستجواب قائلا للشلي: الشعب الجزائري سيستقل، ولكن أنتم سنترك جثثكم في الجبال بطائرة ب26، ثم نقل المجاهد شلي قدور إلى الطاهير، ومن هناك هرب وألتحق من جديد  بالثورة  بقيادة عبد الوهاب عيسي، مع العلم أن (شلي قدور) كان تابعا لقسم الناحية الأولى للمنطقة الثالثة، وقد كنت مسؤولا عن القسم.

وكرد فعل للفرنسين على هذه الأحداث التي قام بها الفيلق اتخذوا جملة من الإجراءات، منها تعيين المناطق المحرمة إذ قام العدو بتوزيع مناشير يدعو فيها سكان المنطقة للإتحاق بمراكز العدو والمحتشدات المعدة لذلك،كما كونوا قوة خاصة لتطبيق إجراءات المناطق المحرمة، فتمركزت قوة بالقل متكونة من عدة أنواع للأسلحة وتوفير إمكانات لذلك بهدف خنق الثوار وحرمانهم من التموين والإمداد وإدارة الاتصال، وعين على رأسها الكولونيل (سوفينياك).
 وكانت هذه الإجراءات مفاجئة لنظام الثورة والشعب، إذ لم يكن للثورة تصور لها ولا الاستعداد المادي والمعنوي لمواجهتها، خاصة وأن الثورة كانت تعيش في وسط الشعب وبإمكانياته.
  وأدى الوضع الجديد إلى إحداث اهتزاز خطير في الحياة اليومية للثورة والمجاهدين،وما يتوجبه هذا الوضع وكيفية التعامل معه، ونظرا لصمود الشعب الجزائري ورفضه لهذه الإجراءات، وعدم التحاقه بالتجمعات المخصصة من العدو، بمعنى أنه أصبح خارج القانون وما يتبعه من عمليات عقابية، فقامت قوات العدو بتبني سياسة الأرض المحروقة، وإبادة كل عناصر الحياة من زرع وحيوان...إلخ.
فقام العدو بقصف منطقة بني صبيح ب108طائرة طوال يوم كامل، وقد نشر العدو بجريدة (لاديباش) الخبر مفتخرا ومهددا، إلا أن التصريح انعكس وبالا على فرنسا، إذ كان هذا الإعلان سبب إدراج الوضع الداخلي بلجنة الأمم المتحدة، وقد عرف الأمر بمنطقة كاتينا، ووجه السؤال لسوفينياك بالتشاكل التالي: لما يضرب العدو منطقة ب108 طائرة، إذا لم يكن شعبا ومدنيين، ففرنسا تواجه إذن قوة كبيرة، وهذا يعني أن المستهدفين ليسوا قطاع طرق ومجموعات لصوص كما تروج له فرنسا دائما.
     وبناء على هذا أودعت قيادة جبهة التحرير بالخارج شكوى في لجنة الأمم المتحدة وهيئة الصليب الأحمر للتحقيق وتقييم الأوضاع الإنسانية هناك، وقد قررت الأمم المتحدة إرسال لجنة الصليب الأحمر إلى كالتينا لتقصي الحقائق ، ولكن لم تصل هذه اللجنة لعين المكان لأسباب أخرى ، وواصلت فرنسا قمعها وتضييقها بتطبيق سياسة الأرض المحروقة ورصد أي حركة بواسطة طائرات استطلاعية وقنبلتها.
  أما على مستوى جيش التحرير فقد عاش اضطرابا داخليا دام حوالي 6 أشهر جراء حرمان الثورة من الدعم الشعبي، فتقرر إعادة هيكلة الجيش مع هذه الظروف الجديدة، وذلك بالتقسيم الجغرافي للمناطق والنواحي والأقسام، إذ كان في الأول التقسيم (شرق- غرب)، ليحول إلى (شمال-جنوب) بمعنى أن كل منطقة تكون لها الجبال والسهول.
     وفي إطار التكيف دائما مع إجراءات المناطق المحرمة قام الشباب بإنشاء ما يشبه الأسواق من خلال سوق (عصفورة ببوالبلوط)، وسوق (وزان بمشاط) الذين كان يباع بهما مختلف السلع والحاجيات الأساسية، وكمثال على ذلك بلغ سعر كلغ الملح 600 فرنك في حين سعره الحقيقي لا يتجاوز 5 فرنك، ليتكون فيما بعد جهاز –سوق الحرة-وقد كانت هذه الأسواق ينشطها شباب رفض الالتحاق بالتجمعات السكانية الفرنسية، وكان لهؤلاء الشباب إحياء الحياة في المناطق المحرمة بإمكاناته وأفكاره الخاصة، إذ كانوا يذهبون لقسنطينة ويعودون بالتموين وسد حاجيات من هم بالمناطق المحرمة، وهم في ذلك مخاطرون بحياتهم .
وهكذا تكاثف الجميع كل بحسب مجاله لمواجهة تحدي المناطق المحرمة، وهذا ليعلم الجميع أن هذه الجهود كانت بمبادرة خارج الثورة، لتؤطرهم الثورة فيما بعد ويتكونوا كجهاز تابع لها.
كما كان هؤلاء الشباب قوة لجيش الحدود قادم من الولايات الداخلية والتي خرج أفرادها لغرض جلب السلاح، وأحيانا لعدم القدرة على الحياة في المناطق المحرمة، لتكون بعد ذلك قوة غير منظمة ولا يديرها قانون، كما كانت أساس التركيبة البشرية لجيش الحدود والذي غالبيته من الولاية الثانية، ولعل هذا كان عاملا رئيسيا في تهدئة الوضع في صائفة 62، لأن الجميع تربطه علاقات عائلية ونضالية وبالإضافة لرابطة الجهاد.
 وكقراءة لهذه الأحداث وغيرها يحق لنا التساؤل والتقييم لمنتجات مؤتمر الصومام ولوائحه، وأهمها واحدا من أهم قراراته وهو تنظيم الجيش في فيالق وكتائب ،... مع العلم أن طبيعة الثورة في أول أمرها لا توحي بإمكانية تكوين قوة عسكرية في الميدان بهذا الحجم والتنظيم.
   فتنصيص المؤتمر بإنشاء قوة عسكرية بهذا الشكل غير مفهوم، خاصة من قرارته أسس لأولوية السياسي على العسكري، نتساءل من أين جاءت فكرة الفيلق ونظام جيش التحرير في مؤتمر الصومام، مع العلم أن التركيبة البشرية للمؤتمرين لا نجد ضمنها عسكريين أو من لهم تجربة عسكرية حتى يسمح بوضع استراتيجية عسكرية.فقد غاب أو غيب الرائد محمدي السعيد
       وهذا ما يؤكد غياب الرؤية المستقبلية، خاصة إذا عرفنا أن المؤتمر وضع نظاما للرتب العسكرية تنتهي بانتهاء حرب التحرير.  وهنا أسجل  أن الملاحظ للقوة العسكرية التي نشأت خارج التراب أو ما يعرف لاحقا( بجيش الحدود) كانت نتيجة لهذه التناقضات والقرارات التي لم تجد لها مكانا فوق الأرض.فالتركيبة البشرية لهذه القوة كان يسودها عدم الانسجام، لأن هذه القوة الاجتماعية والبشرية وحتى المادية تضم عددا لا بأس به من المجاهدين من كل الولايات، مع انعدام الرابط التنظيمي بين هذه المجموعات، وزيادة لغياب الحلقة التنظيمية الرابطة هناك عقبة أخرى، وهي التناقض التاريخي والثقافي بين هذه التركيبة البشرية، وذلك تبعا لمدارس الحركة الوطنية والمدارس الحرة والمعهد وهذا ما سنعود إليه في مناسبات أخرى –إن شاء الله-

الرجوع إلى الأعلى