شبــح مجــزرة عيـن عبيـد يلهــب الجـــدل الإعـلامــي في فرنســـا

عاد شبح مجزرة  20 أوت 1955 التي اقترفتها فرنسا في عين عبيد ولاية قسنطينة ليخيّم ويلهب الجدل الإعلامي في فرنسا من جديد من خلال "جرائد الحرب 1954ـ 1962 " التي أعادت نشر نسخ أصلية لعدة جرائد فرنسية تتحدث عن قضية مشاهد القتل الخمسة أمام الكاميرا التي صوّرها الصحفي "جورج شاسان" يوم 23 أوت 1955 والتي منعت فرنسا نشرها إلى غاية شهر ديسمبر 1955، حيث بادرت جريدة "ليكسبريس" بنشر ذات المشاهد مما جعلها تكتشف قوة وسلطة الصوّر التي أرعبت الرأي العام الفرنسي ، وهذا بعد أن كانت قد سبقتها إلى ذلك قبل ثلاثة أشهر زميلاتها الأمريكية، وكانت سببا مباشرا لتسجيل القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، وأحدثت جدلا كبيرا تسبب في أزمة دبلوماسية بين الحليفتين فرنسا وأمريكا.
ذات النشرية التي تحمل رقم 6 عنونت العدد بـ " 29 ديسمبر 1955 " قضية عين عبيد فضيحة دولة " وفي الصفحة الثانية كتبت رئيسة تحرير ذات الجريدة مقالا ثان تحت عنوان " باريس ضحية كذبها" ، وكتب برنار ريشار مقالا آخر يحمل عنوان " عين عبيد: الرأي العام العالمي يدخل المشهد"، فيما عنونت الباحثة ماري شيمنو التي حازت على الدكتوراه سنة 2012 تحت إشراف المؤرخ بن يامين ستورا  مقالها بـ «تاريخ شريط مدو»   تحدثت فيه عن المصور والظروف التي صور فيها المشاهد وأضافت أن التمشيط كان داميا وجاء كرد فعل عن قتل 7 من الأقدام السوداء، ووضعت في نفس الصفحة تسلسلا للأحدث من يوم وقوعها  20 أوت 1955 إلى 02 جانفي المصادف للانتخابات النيابية، هذا إضافة إلى موضوع ثان لنفس المؤرخة في الصفحة الأخيرة تحت عنوان بداية حرب إعلامية، من أزقة عين عبيد إلى بنايات نيو يورك على اعتبار نشر الصور شاسان في شهر سيبتمر 1955 في أمريكا كان لها وقع عالمي قبيل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما دوّل المشكلة الجزائرية ونقل الدبلوماسية الفرنسية إلى العمل بأقصى سرعتها تقول ماري شيمنو.
النصر   تفتح ذات الملف الذي ما زال موضوع جدل في فرنسا حول تأثير الصورة في الحرب وما تبع ذلك من جدل وأزمات سياسية ونقاش حاد حول موضوع ذات الصور وظروف التقاطها،  وقد تسبب في سقوط حكومة " إدغار فور" أمام الاشتراكي "غي موليه " جراء تحالف الوسط مع اليسار، وكتبت جريدة " لوموند " في افتتاحيتها  لنفس اليوم بقلم الصحفي " أندريه شان بنوا" لما يضاف الخطأ إلى الجريمة ، ومقالات عديدة تتحدث على نفس الموضوع وقال إن الخطأ الكبير في حجب ذات الأخبار عن الرأي العام الفرنسي لمدة ثلاثة أشهر جسيم ويضاف إلى الجريمة نفسها قائلا:" القصة المريعة للقتل المصوّر في عين عبيد ليس نحن من تحدث عنها ولكنه  الرعب".
جريدة النصر وبعد أن عرّفت في مناسبات عديدة سابقة بشخصيات شهداء المشاهد المرعبة التي هزت العالم، بعد أن تم نشرها في أمريكا وهي على التوالي، مشهد أمام الخيمة للشهيد خشعي موسى، والمشهد الثاني لقتل طالب جامع الزيتونة أمام بيته العائلي ذو الـ 17 سنة قريش خليفة، تفتح اليوم صفحة أخرى جديدة تعرف فيها بالشهيد حطاب يوسف المعروف بابن ساعي البريد ، الذي نقلت جريدة «لا ديباش» بقسنطينة يوم 24 أوت  1955 خبر استشهاده الذي جاء تحت عنوان  
" قتل ابن ساعي البريد والمسدس بيده " وقتل في نفس اليوم والده ساعي البريد، حيث التقينا بابنه حطاب أحمد المدعو مصطفى،  والذي تركه والده في بطن أمه وجاء إلى الوجود يوم 29 سبتمبر 1955،  وله شقيق هو  عبد الكريم حطاب يكبره بسنتين، كلاهما متقاعد حاليا ويسكن الأول حي فلالي بقسنطينة خريج معهد البترول ببومرداس تخصص حفر الآبار والثاني من قطاع الصحة عمل في مستشفى الأمراض النفسية بوادي العثمانية.

أحمد الذي التقيناه في حيه بعد بحث طويل عنه عن طريق صهره رشيد عوان الذي نظم لنا اللقاء يقول للنصر أن الدولة الجزائرية بعد الاستقلال اهتمت بعائلته، و قد درس وأخيه في متوسطة بورغود حاليا " جومار" سابقا سنة 1962،   ، حينما انتقلوا من حي باردو رحماني عاشور حاليا، أين سكنوا في دار «بن سيلني» بعد أن تم ترحيل من بقي حيا في عين عبيد من الأطفال والنساء بعد أحداث هجومات الشمال القسنطيني، وقتل جده ووالده في خضم ذات الأحداث، التي عاشها وهو في بطن أمه، كانت كما روت له والدته عبارة عن قتل منظم وممنهج لكل عربي وظهور الفجوة والتمزق بين المجتمعين الجزائري والأوروبي، ويضيف أن والدته بدورها كانت عاملة نظافة بالمستشفى الجامعي ابن باديس وتحصّلت بدورها على تقاعدها وتعيش حاليا ظروف عادية وتعاني المرض .
أحمد حطاب يضيف أن كل ذلك لا يرق إلى تخليد اسم والده وجده بأن تحمل اسمهما مدرسة أو حي بمسقط رأسهما عين عبيد، التي يزورها بين الحين والآخر ويبحث عن قبر والده بالمقبرة المركزية ليترحم على روحه الطاهرة، ولا يجد له مكانا لأنه بكل بساطة تم دفنه في القبور الجماعية التي تحتضن شهداء القرية الصغيرة التي تم فيها إبادة كل عربي وكل من يتحرك، فهو في مرمى المعمرين الذين أبادوا السكان عن آخرهم كما روت له والدته، وهذا ما يجعله حينما يريد قراءة الفاتحة على روحه يتجه إلى المكان الذي سقط فيه شهيدا بشارع قنفود سليمان المعروف بمكتب البريد الذي يقع على بعد عشرات الأمتار من مقر سكنهم العائلي، وأكد أن سكان البيت الحاليين يسمحون له بذلك ورخصوا له بأن يقوم بذلك متى شاء مع زيارة البيت الذي نشأ فيه واستشهد أمامه والده  على يد من ترعرع معه، ابن المعمر جون ميلو وهو في سن ال23 سنة.
زوجة الشهيد السيدة  حفيان الطاوس قالت للنصر أن زوجها كعادته لبس ثيابه وتأهب للخروج وبمجرد وصوله الباب أطلق عليه من عاش وكبر معه النار وأرداه شهيدا وتعجبت من الشعور العدائي للمعمرين ومن بينهم جارتها السيدة " تيتين ". والجدير بالذكر وحسب الكثير من الشاهدات فإن هذه الأحداث كشفت وأظهرت الانقسام بين المجتمعين اللذين كانا متعايشين لعشرات السنين، رغم الهوة التي تفصلهما، حينما يعود كل طفل ورجل إلى بيته مساء ويعيد الانخراط في بيئته ليترسخ الشرخ ويتعمق الجرح و  يغادر كل العرب عين عبيد في اتجاه المجهول في سيارات نفعية، يؤكد أحمد حسبما حكت له والدته، حيث احتضن القسنطينيون إخوانهم وتكفلوا بهم ليتم بذلك تهجير قسري لسكان المدينة الصغيرة التي رٌحّل عنها أبناؤها ،وكثيرون منهم لم يعدوا إليها بعد الاستقلال، ومن بينهم عائلة يوسف حطاب أو ابن ساعي البريد، كما يسميه أبناء عين عبيد وغيرهم كثيرون ، فيما رٌحّل الآباء والشباب إلى المقابر الجماعية ووصل عددهم  742 شهيدا خلال ستة أيام من الإعدام العشوائي.
ص/ رضوان           

الرجوع إلى الأعلى