ها هو الشهر الفضيل يتصرّم منه ثلثاه، ويبقى ثلث واحد، وصدق الله إذ قال: (أياما معدودات)، الليل والنهار يتسارعان ويتراكضان تراكض البريد، يقرِّبان كلّ بعيد، ويبليان كلّ جديد، (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أول ألقى السمع وهو شهيد). ها هو شهركم الفضيل قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، وهو شاهد على المحسن بإحسانه، وعلى المسيء بمخالفته وعصيانه، وها هي فرصةٌ أخرى تُهتبل، ونُهزةٌ أخرى تُستغلّ، إنها العشر الأواخر، أفضل ليالي رمضان، وأفضل ليالي السنة على الإطلاق.
إنها عشر الغفران، والعتقِ من النيران، ولكن لا يُدرَك فضلُها بالتمني، بل تحتاج إلى اجتهاد، وتشمير عن ساعد الجد، تحتاج منا إلى مضاعفة الطاعة، فهذا آخر المضمار، والمتسابقون إذا أشرفوا على خط الوصول زادوا من سرعتهم.
عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)، كان صلى الله عليه وسلم يخلط العشر الأولى والوسطى بصلاة ونوم، فإذا كان العشر الأواخر شمّر وشد المئزر، عن عائشةَ ل قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)، شدّ مئزره؛ أي اعتزال النساء، فكان لا يأت فراشه حتى ينسلخ رمضان، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في هذه العشر، وذلك قطعا لأشغاله، وتفريغا لباله، وتخليا لمناجاة ربه، وانقطاعا لذكره ودعائه.

الناس فيما مضى من رمضان نوعان: مقرب سعيد ومبعد شقي
رمضان كله خير وبركة، منّ الله تعالى به على عباده المؤمنين، ليزدادوا صلاحا واستقامة، وليثقلوا ميزانهم بالحسنات، وليزدادوا قربا من الله تعالى، ويتنافس فيه المؤمنون في فعل الخيرات وعمل الصالحات، وإقامة الطاعات، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ) النسائي
والناس في رمضان نوعان: مقرب: ازداد قربا من الله تعالى، اغتنم خير رمضان ونال من بركاته، فهذا سعيد، ومبعد، فهو محروم وشقي، ضيع فرصة رمضان، جعل من رمضان شهر أكل وراحة ونوم ولهو ولعب، عن جابر بن سمرة قال: صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ، فقال: آمين، آمين، آمين، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين) البزار والطبراني؛ رَغِم أنفُ رجُلٍ: أي: خاب وخَسِر وذَلَّ وعجَز ولَصِق أنفُه بالتُّرابِ. والحديث يحثنا على الاجتهاد والعمل قدر الاستطاعة في رمضان قبل أن يقضي ويصبح ندامة وخسارة، وبخاصة تلاوة القرآن، والصدقات، والإكثار من النوافل، والذكر والدعاء وصلاة التراويح.
وليحذر المسلم من خطر اللصوص الذين ينتشرون في رمضان، ويزداد خطرهم في رمضان، يسرقون منهما وقته ويضيعونه في غير فائدة، كمجالس اللهو واللغو والقيل والقال، ومن الذين يسرقون منه ماله ويبذرونه في غير فائدة، ككثرة الذهاب إلى الأسواق والمحلات التجارية.فعلينا أن نقدر شهر رمضان، فهو من شعائر الله التي يجب أن تُعظم، ومن يعظم حرمات الله وشعائره فهي من تقوى القلوب.

إطعام المساكين من أفضل الصدقات في رمضان
 من أروع صور الرحمة والمودة في رمضان الصدقة، فقد كان رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام من أجود الناس وكان أجود ما يكون في شهر رمضان الكريم، قال صلى الله عليه وسلم : ” أفضل الصدقات هي صدقة رمضان».ومن أهم صورها إطعام المساكين؛ حيث قال الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8 إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا 9إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا 10 فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا 11وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)، وكان السلف الصالح يحرصون علي إطعام المساكين في رمضان خاصة ويقدمونه على الكثير من العبادات؛ فيمكنك توزيع الطرود الرمضانية على العائلات والأسر الفقيرة أو على دور الأيتام والمسنين، بهدف إطعامهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه ؛ وأفضل الصدقة ما يكون في السر، حيث لا يشعر من تصدقت عليه بالمهانة أو المذلة لفقره واحتياجه بل يسعد بشعورك الطيب تجاهه ويدعو لك بالخير وبهذه الدعوة تنال الرحمة والمغفرة.  

الحضور الجماهيري في ملعب تنزانيا لمسابقة القرآن
 ثمرة مسيرة حافلة للدعاة وسط المؤامرات
نشر أخي الدكتور الفاضل عبد الرحمن خلفة مقالا منذ بضعة أيام بجريدة النصر ينقل فيه صورة عن حشود بشرية في ملعب بنيامين في دار السلام بتنزانيا؛ هذه الحشود لم تأت لمشاهدة مباراة كرة قدم؛ بل جاءت لحضور مسابقة إفريقيا الكبرى لحفظ القرآن الكريم.
فما سر هذا الحشور، والاهتمام بالقرآن الكريم في دولة كان يشاع أن جل سكانها نصارى، وكان السياسيون فيها يزايدون بذلك في المحافل الدولية؟ ولكن الأمر ليس كذلك بل هي أكبر أكذوبة روّج لها القس نيريري؛ فقد كانت جل مساعيه أن يغيب الإسلام من هذه البقعة فتحالف مع الكنيسة الغربية ودعم الكنائس الإفريقية من أجل إنهاء الوجود الإسلامي في شرق إفريقيا، وفي بلده التي كانت تسمى تنجانيقا، وما لبثت أن توحدت مع زنجبار التي كانت دولة مستقلة فتشكل اتحاد فيدرالي يسمى تنزانيا، سلخ زنجبار من محيطها الإسلامي وضرب عليها حصارا، وعمد إلى هوية شعب تنزانيا المسلم فشوهها أيما تشويه؛ فمنع تدريس القرآن الكريم والإسلام في المدارس الحكومية، وضيق على المدارس الخاصة؛ بل لما عزمت منظمة المؤتمر الإسلامي على إنشاء جامعة إسلامية لتعليم أبناء المسلمين في شرق إفريقيا بعاصمة تنزانيا دار السلام، تصدى للمشروع حتى حول لأوغندا؛ ورغم ما فعل من مؤامرات وقمع؛ إلا أنه لم ينل مراده؛ فقد ظل القرآن الكريم محفوظا في الصدور ويتلى في المدارس التابعة للطرق الصوفية المنتشرة في تنزانيا عموما وزنجبار خصوصا؛ بل لقد ظلت راية الإسلام ترفرف على القارة الإفريقية، وما فتئ الإسلام ينتشر انتشار النور في الظلمات، وما إن هبت رياح التغيير في ثمانينات القرن الماضي حتى عادت المدارس القرآنية والمعاهد التعليمية التي ارتقت إلى جامعات في مختلف التخصصات العلمية يدرس فيها أبناء المسلمين ويتخرجوا منها وينافسوا كل من يريد إبعادهم عن مراكز صنع القرار، وكان للعمل الخيري الطوعي الخارجي والمحلي وللمؤسسات الدعوية في زنجبار وفي البر الأفريقي الكعب العالي والقدح المعلى في الحفاظ على هوية الشعوب المسلمة في المنطقة رغم بساطة الإمكانات؛ ولله در مؤسسات العمل الخيري وبعض رجال الخير من دول الخليج إذ يتكفلون ببناء مدارس قرآنية ويوقفون عليها من الأوقاف ما يتكفل برواتب المدرسين والعاملين وصيانة هذه المدارس، بل كان للجاليات الهندية والعمانية واليمنية القدح المعلى في العناية بها، وقد دعيت سنة 2005 لحفل تخرج دفعة من الحفاظ بدار السلام بمدرسة تسمى الجامعة النورية يشرف عليها أهل الهند؛ بل مما يثلج الصدر سماعك للقرآن ينبعث من البيوت في أدغال القارة بأصوات شجية، وإذا ما أهديت شخصا مصحفا يفرح به فرحا شديدا كأنما أهديته بقرة حلوب . ولقد ضربت المرأة الزنجبارية والتنزانية أروع الأمثلة في المحافظة على القرآن الكريم حيث انبرت العديد منهن لتدريسه في أحلك الظروف.
ومن ثم فلا تستغربوا إقبال الناس على كتاب الله تعالى في هذه البلدة؛ فهو ثمرة جهاد مستمر ومسيرة حافلة للدعاة من أبناء المنطقة؛ عبر حقب زمنية طويلة عجز الاستعمار عن تغييب الإسلام من حياة الناس، وبعد فشل الكنيسة في تنصير المنطقة لم تجد بدا من افتعال الأزمات واختلاق دعاوى الإرهاب من أجل تجفيف منابع الخير وإغلاق المؤسسات التعليمية والخيرية؛ ورغم كل ذلك فسيبقى الإسلام نابضا في قلوب أبنائه، ولقد بلغني أن الهيئة العالمية للتحفيظ القرآن الكريم فتحت فرعا لها في دار السلام ويسمى بمعهد ابن الجزري.

من مقــــــاصد الصيـــــام في الدنيا والآخرة
إن الحديث عن مقصد الصيام هو حديث عن الصيام الحقيقي الذي شرعه الله عز وجل،فمجرد الامتناع عن الأكل والشرب لا يكفي وحده، ولقد حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) الذين يصومون صياما لا حقيقة له ولا جدوى منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :«رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» ، فهذه حالة الصائمين بلا صيام، والقائمين بلا قيام، وما ذلك إلا لأنهم أدوا الأعمال، وضيعوا مقاصدها وثمارها. ولهذا ارتأينا أن نذكر بمقاصد الصيام، لنفهم حقيقته والغاية منه.
ومقاصد الصيام نوعان:مقاصد دنيوية ومقاصد أخروية؛ فالمقاصد الدنيوية أربعة:
(أولها) التقوى: إن أجمع نص في بيان مقاصد الصيام قوله تعالى:»يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، قال الرازي: قوله تعالى:» لعلكم تتقون» فيه وجوه، أحدهما أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فانه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها،وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج... فمن أكثـر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش؛ فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين»
(ثانيها) الهداية؛ قال تعالى: « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»، فهذا الشهر هو محطة هداية وطلب هداية، والهداية تحصل بهذا القرآن في شهر الصيام؛ ولذلك أمرنا بالإكثار من قراءة القرآن في هذا الشهر.
(ثالثها) الشكر: شكر المنعم والاعتراف بالعجز والضعف، ذلك أن أغلب الناس لا يدركون قيمة نعم كثيرة لعدم تعرضهم لقسوة الحرمان.
(رابعها) التزكية: من مقــــاصد الصيام تزكية النفس وتهذيبها وتقويم أخلاقها وجعلها تتخلى عن تصرفاتها العدوانية جاء في الحديث: «وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ «.
أما المقاصد الأخروية؛ فمنها:
(أولا) الصيام شفيع: يشفع الصيام لصاحبه يوم القيامة  فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقـــــُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّـــــوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ»، قَالَ: « فَيُشَفَّعَانِ»
(ثانيا) العتق من النار: في الحديث:»وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ».
(ثالثا) دخول الريان: فعنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: « إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ «.

الرجوع إلى الأعلى