مليارديرات يتحكّمون في إمبراطورية للذهــــب بباتنــــة  
تحوّلت مدينة باتنة في السنوات الأخيرة إلى قبلة لتجار الذهب و المجوهرات من كل ولايات الجزائر، فذهب باتنة الشهير يعرض  بمحلات الشرق و الغرب و الجنوب، بفضل شبكة عنكبوتية رأسها أصحاب الملايير الذين يتحكمون في بورصة المادة الأولية ونشاط الاستيراد و التصدير خلف واجهات محلاتهم، أما أذرعها فعبارة عن تجار صغار و حرفيين، أغلبهم ينشطون بطريقة غير نظامية، داخل ورشات غير مرخصة،  98 في المائة من إنتاجها مجهول النوعية، ما  يكلف الدولة خسارة ملايير الدينارات سنويا، بسبب الغش و التهرب الضريبي.
 رغم محاولات كبار تجار باتنة، الرامية إلى تنظيم النشاط و ضبط السوق، بالتنسيق مع الجهات الرسمية، و تأسيسهم لجمعية، هدفها محاربة الغش في الذهب و سد ثغرات ممارسة المهنة، إلا أن العدد غير المحدود للتجار و الحرفيين غير النظامين، جعل المهمة صعبة، حتى بعد إدراج حرفة صناعة الذهب ضمن برنامج الاتحاد الأوروبي لترقية المنتوج الحرفي المحلي، و الإجراءات التي اتخذت من طرف مسؤولي الولاية لتأطير التجار و الحرفيين، تمهيدا لإحصائهم و تسجيلهم ضمن برنامج التكوين، وهو واقع وقفنا عليه خلال تحقيق قادنا إلى مدينة باتنة عاصمة الذهب في الجزائر.
واد الطاقة أو « بوحمار» مرتع صناع الذهب
في عمق الأوراس، بشرق عاصمة ولاية باتنة، تزدحم ورشات صناعة الذهب في بلديات عبدي، كمنعة، نارة، شير، بوزينة و ثنية العابد، خصوصا واد الطاقة أو» بوحمار « ، كما يطلق عليها سكان المنطقة، و هي إمبراطورية الذهب، توارث حرفيوها الـ 5 آلاف تقريبا، أسرار تطويع المعدن الأصفر، أبا عن جد، منذ سنوات الاستعمار، إذ كانت الحرفة تقتصر في البداية على صقل الفضة و تشكيلها، قبل أن تزدهر و تتطور لتشمل صناعة الذهب بعد سنة 1961، كما قال لنا حرفيو المنطقة، مؤكدين بأن معظم الذهب المعروض في واجهات الصاغة على المستوى الوطني، مصدره ورشات حرفيي واد الطاقة.
رغم أن هذه المنطقة الأخيرة (واد الطاقة أو بوحمار) ، تعد قلب صناعة الذهب بباتنة و الشرق الجزائري عموما، باعتبارها تتوفر على أزيد من 800 ورشة متخصصة، إلا أننا فوجئنا لدى وصولنا إليها، بالهدوء السائد بها و عدم وجود أي مظاهر تجارية تبرز انتشار الحرفة في أحيائها،  لا واجهات مفتوحة و لا منتجات معروضة، و السبب هو أن أغلب الحرفيين يشتغلون في منازلهم، و حسب سمير زموري، أحد أقدم و أهم حرفيي المنطقة، فإن عدد الورشات النظامية المرخصة لا يتعدى 200 ورشة، بينما تنشط البقية بطريقة سرية.
محدثنا أوضح بأن حرفيي بوحمار اهتدوا مطلع السنة الجارية، إلى تأسيس جمعية خاصة بهم، لحماية الحرفة من الزوال، خصوصا في ظل إفلاس الكثير منهم، بسبب ظروف التسويق و شح المادة الأولية.


 خلافا لما يعتقده الجميع، فإن تعاملات التجار و الحرفيين، لا تتم عن طريق الدفع النقدي، بل عن طريق تدوير المادة الأولية و إعادة تصنيعها، إذ أن الحرفين يحصلون على المادة الأولية، حسب الطلب، من التجار، و هي عبارة عن كسر الذهب أو « لاكاس»،أي الذهب المستعمل، مقابل فارق بسيط، مقارنة بسعر غرام الذهب في السوق، يصل عادة إلى حدود300 دج، ثم يعملون على تصنيعها و من ثم إعادة بيعها لتجار الجملة أو التجزئة، مقابل هامش ربح يحدده الحرفي حسب جهده و نوعية القطعة، فذهب « الفتلة»، ليس مثل الذهب الممتاز «الماسيف» و  الأنواع الأخرى و الذهب المحلي ليس كالمستورد، بل أكثر جودة و أعلى سعرا، حيث قد يصل هامش ربح الحرفي إلى 20 مليون سنتيم  أو أكثر شهريا، كل حسب أهمية زبائنه و نوعية نشاطه و حجم الطلب على مصوغاته، إذا ما علمنا أن 95 بالمائة من الحرفيين، يعتمدون في عملهم على أدوات بدائية قديمة، وهو ما يحول دون تجديدهم للتصاميم، و عليه يتحدد الإقبال على أعمالهم.
محدثنا لم ينف وجود معضلة كبيرة تتعلق بالذهب المغشوش و هي نتيجة مباشرة لمشكل نقص المادة الأولية التي لا تتجاوز نسبة توفرها في السوق 1 أو 2 في المائة، مما هو متداول، و الحصول عليها يقتصر حسب حرفي آخر، على التجار الكبار، لذلك فإن  أغلب الحرفيين يضطرون للتعامل بالذهب المستعمل و إعادة تدويره في كل مرة، وهو ما يشجع البعض، كما قال، على الغش في المادة، و إضافة بودرة النحاس إلى الذهب، علما بأنها ممارسة لا تتم على مستوى الورشات المرخص بها التي تلتزم بضمان جودة منتوجها وعدم تسويق ذهب ذي عيار أقل من 18 قيراط، وهو النوع المتداول بالجزائر.
مع ذلك فإن عدم توفر المادة الأولية، يشجع بعض الحرفيين على استعمال  المادة المهربة، أو المغشوشة، لتجنب الإفلاس و تحويل نشاطهم، كما حدث مع الكثيرين، كما أن مشكل ارتفاع سعر حقوق الدمغ المقدرة، حسبهم، بـ 80 دج للغرام الواحد، زادت من أعباء ممارسة الحرفة و الحل يكون، كما اقترح الحرفيون الذين تحدثنا إليهم، في تخفيض سعر الدمغة و توفير المادة الأولية و إنشاء مركز الامتياز الذي سبق للوزارة أن وعدت به حرفيي المنطقة.
الصحراء بوابة  التهريب و 440 مليونا سعر الكيلوغرام الواحد
إشكالية نقص المادة الأولية و ارتفاع سعر الذهب الذي توزعه الدولة عن طريق وكالة « أجينور» و تراجع سعر الدينار، جعل من الذهب المهرب، حلا بديلا بالنسبة لأغلب الحرفيين و التجار في الجزائر، كما قيل لنا في بوحمار، حيث أن الفارق بين الذهب المدموغ و الذهب مجهول المصدر و الجودة، تصل حتى 1000دج بالنسبة للغرام الواحد، لذلك فإن معظم التعاملات تعتمد على الذهب المهرب، خصوصا بالنسبة لأصحاب الورشات السرية، علما بأن الكميات التي تتوفر سنويا، باتت جد ضئيلة مقارنة بالأعوام الماضية، و مصدرها الصحراء و تحديدا تمنراست، و يتطلب الحصول عليها الاعتماد على شبكة علاقات قوية، علما بأن سعر كيلوغرام الذهب يقدر بـ 440 مليون دج وقد يزيد آو ينقص، حسب تداولات بورصة الذهب العالمية.

أما بالنسبة لسوق الجملة، فالتعامل عادة يتم بالقديم، و ذلك منذ ما يزيد عن 20سنة، كما علمنا من الحرفيين، أما سعر الغرام، فيختلف حسب النوع،  فالذهب المحلي المستعمل من النوع  العادي يقدر بـ  4500 دج للغرام، مقابل 5000 دج لغرام الذهب الجديد، أما المستورد فيقدر بحوالي 4900 لغرام الكسر و 7500دج للجديد، وهي نفس قيمة غرام الذهب المحلي الممتاز.
خلال تواجدنا في واد الطاقة، حاولنا التقرب من أحد تجار الجملة، لكنه رفض الحديث إلينا، و كذلك الآمر بالنسبة للمستوردين، الذين علمنا من مصادر في المنطقة، بأنهم من مليارديرات المدينة، لأن الاستيراد لم يعد نشاطا ممكنا بالنسبة للتجار الصغار، بعدما اتخذت الدولة إجراءات صارمة لتنظيمه في السنتين الأخيرتين، أدت إلى توقفه بشكل شبه تام طيلة سنة كاملة،  إذ أصبح هدا النشاط مقتصرا على تاجر أو اثنين فقط، لديهما رخصة، أما باقي من ينشطون في هذا المجال، فيعتمدون على  «الكابة»، أو ما يتم تسريبه بطريقة غير قانونية ، من دبي و تركيا و فرنسا، و بالأخص إيطاليا.
98 في المائة من الذهب المتداول في السوق مجهول النوعية
تحقيقنا قادنا إلى أحد كبار تجار مدينة باتنة، و أشهر صاغتها و هو السيد عيسى أمغشوش، فقال لنا بأن مشكل المادة الأولية مطروح فعلا، لكنه ليس بالحدة التي يتحدث عنها البعض، فالدولة، حسبه، توفر الذهب، لكن أصحاب الورشات السرية و الغشاشين، يرفضون اقتناءه للتهرب من الرقابة و المتابعة و يفضلون الذهب غير المشروع.
حسب محدثنا، فإن الغش في المادة ، يعد مشكلا مطروحا لذلك يعمد العديد من المتعاملين إلى إخفاء بضاعتهم و عدم التصريح بها، أضف إلى ذلك، فان حوالي  90 في المائة من الذهب المتداول وطنيا تقريبا، يستعمل في التدوير و إعادة التصنيع، لأن الذهب المتوفر، أو ذلك الذي تمنحه الدولة للمتعاملين الشرعيين عن طريق وكالات « أجينور»، مرتفع الأسعار، و لا يتناسب مع أسعار السوق الحقيقية، اذ يفرض هامش ربح يصل حتى 400 دج، لذلك يضطر التجار للتعامل بكسر الذهب، وحده، كما قال.
القانون يتضمن ثغرات قد تعرض التاجر إلى مشاكل في حال شرائه للكسر من الزبون، إذا اتضح بأن القطعة مسروقة، فرغم كونه مجرد مشتر إلا أنه يدرج كمتهم في قضية تكوين جمعية أشرار، رغم عدم علمه بمصدر القطعة و نية البائع، وهو ما يدفع الكثيرين إلى إخفاء سلعهم لتجنب الصدامات مع الأمن.
التقينا بفؤاد بلخيري صناعي و تاجر ذهب بباتنة،استطاع صك قطعة ذهب للزينة» ويزة» تحمل ختمه وصورته، كما طور مصنعا حديثا لصناعة الحلي الذهبية بتصاميم عالمية، و قد أكد لنا بأن افتقار الزبائن لثقافة اقتناء الذهب المطبوع، تجعلهم عرضة للغش، لأن الذهب الذي لا يتوفر على الدمغة أو الطابع غير مضمون، رغم كونه يشكل نسبة 98 في المائة مما هو متداول على المستوى الوطني، لذلك كثيرا ما يتعرض الزبون للغش، فيشتري قطعة ذهبية عيار 12 أو 14 قيراطا بسعر قطعة بقيمة 18 قيراطا.
جمعية حرفيي و تجار الذهب
عدم تغيير القوانين يحرم الدولة من مداخيل  تتعدى124 مليار دج سنويا
في مطلع العام الماضي تم إدراج حرفة صناعة الذهب بباتنة، ضمن برنامج الاتحاد الأوروبي لترقية و تطوير الصناعات التقليدية و الحرفية لحوض البحر الأبيض المتوسط،و ذلك تمهيدا لمنحها وسما أو تصنيفا عالميا للجودة،  و تماشيا مع ذلك أعيد بعث نشاط جمعية تجار و حرفيي الذهب للولاية التي تأسست سنة 2005، بهدف محاربة الغش و تنظيم المهنة، كما أوضح مستشارها بلخيري فؤاد، مشيرا إلى أن ما يتم تداوله من ذهب و فضة في السوق الباتنية وحدها، يعادل   21 قنطارا و 175 كيلوغراما شهريا « 60 بالمائة ذهب، 40 بالمائة فضة».
وحسب إحصائيات الجمعية التي تعمل بالتنسيق مع غرفتي التجارة و الصناعة والحرف بباتنة، فإن عدد صناع و تجار المجوهرات بباتنة على مستوى السجل التجاري، هم 700 صانع و تاجر، أما عدد العاملين في النشاط الموازي، فيساوي مجموع عدد المسجلين في القطاع و هم حوالي 2116، و بالتالي فإن عدد العاملين في القطاع ككل يعادل 4235عاملا، علما بأن واقع القطاع الموازي يتعدى هذه الأرقام إلى الضعف.
هذه الأرقام تعكس، حسب بلخيري فؤاد، نسب تداول مالية ضخمة، يمكن للدولة أن تستفيد من مداخليها بشكل أفضل، في حال أقرت بعض التعديلات على القوانين لاستيعاب النشاط الموازي ، اذ أنها تضيع مداخيل سنوية تعادل 142 مليار دج بسبب التهرب الضريبي و عدم  دمغ التجار و الحرفيين للذهب و الفضة المنتجين، و لا تحصل منها حاليا سوى على نسبة تتراوح بين 1 إلى 2 في المائة وطنيا.
و الحل، حسب عيسى أمغشوش، نائب رئيس جمعية الحرفيين و التجار، يكمن في توفير المخابر لمحاربة الغش بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى تنظيم لقاءات بين التجار و الحرفيين و أعوان الأمن و الدرك، لشرح القوانين الخاصة و المنظمة لنشاطهم، تجنبا للمشاكل الناتجة عن الخلط بين الإجراءات العامة و الخاصة.
فضلا عن ذلك تقترح الجمعية إعادة النظر في بعض الاجراءات المتعلقة بتخفيض الأعباء الضريبية، بمقياس كلما زاد الإنتاج انخفضت الضريبة، و جمع حقوق الدمغ و كل الضرائب الموجهة للصناعيين و الحرفيين و إدراجها في ضريبة تقتطع من المصدر، أي لدى تقديم البضاعة للدمغ، حيث لا تتعدى قيمتها 80 دج للغرام.
يقترح كذلك إدراج ضريبة جزافية بالنسبة لتجار التجزئة، تدفع كل سنة، و تكون قيمتها، حسب المناطق الحضرية الناشطة. فضلا عن تسهيل الحصول على رخص لإنشاء  و حدات تصفية و رسكلة المعادن الثمينة، إضافة إلى مقترحات تتعلق بتمكين الصناعيين من شراء ماكينات لتطوير نشاطهم، و تسهيل تصدير المنتجات إلى الخارج، إنشاء مكتب للضمان و مفتشيات التخليص بالمطارات، لتسهيل الاستيراد و التصدير، و مراجعة قانون المخالصة التقليدية  بالبنك» رسالة الاعتماد»، خاصة في الاستيراد و التصدير المؤقت، و خصوصا تكييف و تجديد بعض المواد القانونية الحالية، كونها لم تعد تساير التقدم الحاصل في المحيط الاقتصادي، على غرار المادة 357 من قانون الضرائب غير المباشرة.

تحقيق نور الهدى طابي/تصوير الشريف قليب

الرجوع إلى الأعلى