بهاء بن نوار

«الفنُّ ريح شغف تخترق عظام التاريخ، تنبثق من الجهة الأخرى للحلم.  يظلّ التاريخ ركاما من أحداثٍ وأسماء وبرك دمٍ وصرخات. الفنِّ يتجاوزه ويؤثث المخيلة بالأزاهير والجمال وفتنة اللذة، يحتفي بالجسد والروح ويقيم مآدب للجمال المهدّد.»
تواصل المبدعة لطفيّة الدليمي مشروعَها الروائيّ الطموح، وتطلّ على قرّائها بروايتها الجديدة ذات النفَس الملحميّ: "عشّاق وفونوغراف وأزمنة" (590 ص) تتنقّل من خلالها بين زمنيْن، وتجوس بين جيليْن أو أكثر: زمن العراق أيام الهيمنتيْن العثمانيّة والإنجليزيّة بدايات القرن الماضي، وزمنه أيام هيمنة أسلوب الكراهية والإقصاء على ملامح الحياة، واستبداده بجميع أبجديّاتها.
لطفيّة الدليمي/ يوميّات المدن*
أبطالٌ كثيرون، وأحداثٌ معقدة، متلاحمة ومشتبكة، تتفاوت إيقاعاتها، وتختلف مذاقاتها، وتتنوّع إيحاءاتها، بين ما هو افتراضيٌّ أبدعه خيالُ الكاتبة وما هو واقعيّ عاشته يوما، وعرفت جميعَ تفاصيله، بين ما هو إيجابيّ تعلو فيه جرعُ الفرح والمحبة، وما هو ظلاميّ تمتدّ فيه كتلُ القهر والانكسار، بين شخصيّات جديدة تفاجئنا ملامحُها للمرة الأولى في هذا العمل، وأخرى مألوفةٍ عرفناها في عملٍ آخر – سيدات زحل – ولم تن تطلّ علينا وتفاجئنا هي الأخرى بتطوّراتها وتغيّراتها.(حياة البابلي وعمّها الشيخ قيدار)  يحتضن حكاياتهم جميعا معاصرين وغابرين جهاز الفونوغراف الذي لم يعدْ مجرد آلةٍ جوفاء تعرضها المتاحف، ويقتنيها المهووسون بالذكريات، والأوهام، بل أصبح حاملَ أسرار الموتى ومحتضن أحلام الحاضرين وحاميها، به وحده تلملم "نهى" أشلاء نفسها الممزقة وتلتقي صنوَها الروحيّ "نادر" وبه تكتشف تفاصيل كفاح وغرام جدّها الأول "صبحي الكتبخاني" وابنه "فؤاد"، به ومن خلاله يلتقي الماضي بالحاضر ويتضافران، مضفييْن على السرد ذلك الطابع التناوسيَّ المتدرّج، حيث ترتحل بنا الكاتبة بعيدا إلى بغداد بداية القرن العشرين، ولا تلبث أن تعود إليها في فترتنا الراهنة، ملوّنة سردَها فضلا عن هذا الطابع التناوبيّ الزمنيّ بطابعٍ تناوبيّ آخر يظهر على مستوى الموضوع، الذي تهيمن عليه تيمتان رئيستان: تيمة الحب/ الفن/ الحياة وتيمة التاريخ/ الحرب/ الفساد.  
تبدو الأولى - في دفاتر الغابرين – من خلال ذلك الغرام الجامح الذي جمع بين قلبيْ الجد الأول "صبحي" ومحبوبته "بنفشة"؛ ذلك الغرام العجيب الذي بقدر صلابته وامتداده بقدر نسبيّته ومحدوديّته، المستمدّيْن من قدَر هشاشة لحظات الفرح الإنسانيّ وقابليّتها المطلقة للذبول والانكسار، وقدَر هشاشة الزهور وقصر عمرها، فلم يكن عبثا أبدا أن يكون اسم الطرف الأنثويّ في العلاقة مستمدّا من اسم إحدى الزهور "البنفسج" ومستوحيا صفاته منها، مذكرا إيّانا بأكثر من قصة عشق وهيام اقترنت بالزهور وقُصفت في الختام مثلما تُقصف الزهور* ولم يكن عبثا أيضا أن تختفي فجأةً وتغيب تماما كما فعلت سابقتها "منار السنا" بطلة الليالي العربيّة التي اختفت أيضا عن أعين زوجها "الحسن البصريّ" وفضّلت رغم الحب والغرام أن تطير بعيدا بجناحيْها وثوبها الريش، مع فارقٍ وحيدٍ بينهما هو أنّ الثانية أعلنت لمحبّها عن مكان غيبتها – جزر الواق واق – في حين فضّلت بنفشة الصمتَ، مختفيةً في هدوءٍ دون أثر أو ظلٍّ يدلّ عليها، قاطعةً بهذا أيَّ أملٍ في التلاقي، ومشرعةً باب الخيبة على مصراعيْه أمامنا نحن القرّاء.
ورغم ما يستجلبه موضوع الحب في هذا السياق من معانٍ مأساويّة حزينة، فإنّه طريقُ الخلاص الوحيد أمام أولئك الأبطال المأزومين، وطريق التجدّد والتحرّر والحياة، يباغتنا دائما بقدرته الفذة على المفاجأة والإدهاش والتلوّن بأكثر من نسيج وحالة، عكس نظيره "التاريخ" الذي يتميز بتكراره النمطيّ الصارم، ودورانه الاعتياديّ الرتيب؛ فما حدث أيام الحرب الكونيّة الأولى من احتلال بغداد واندحار العثمانيّين هو نفسه بأسماء مختلفة ما حدث سنة 2003 وما بعدها من محنٍ وتداعيات، وما امتلأت به نفس "إسماعيل الكتبخاني" وابنه "نشأت" من جشعٍ وتكالبٍ مريضٍ على المال والجاه والشهوات هو نفسه الذي امتلأت به نفوسُ لصوص اليوم وأسياده من دناءة وفساد.
ويبدو من خلال هذه النقطة تحديدا حرصُ الكاتبة وانتقائيّتها العالية لموضوعها الروائيّ، حيث التقطت من تاريخ بلدها الطويل هاتيْن المرحلتيْن المفصليّتيْن دون غيرهما، ممّا يطبع اختيارَها بطابعيْن مختلفيْن، أحدهما جبريٌّ تفرضه طبيعة المرحلة الراهنة وما تحتمه على مبدعي البلد ومفكريه بمختلف توجهاتهم من واجبات ومسؤوليّة يغدو معها الصمتُ جريمةً أخلاقيّةً ووطنيّةً تعادل في فداحتها جريمة الفاسدين والمرتشين وأضرابهم.  والثاني اختياريٌّ تبيعٌ للأول موضوعيّا وإن كان يسبقه زمنيّا وتاريخيّا، وهو ما تبدّى من خلال المرحلة الغابرة، التي أتت ظلا وصدى ووجها ثانيا مستنسَخا عن الحقبة الحالية، فبدا خط التاريخ في كليْهما متماثلا ونمطيّا، بخلاف خط "الفنّ" الذي بدا مختلفا ومتمنّعا على التوقعات والترقّبات، فبقدر هيمنة العنصر المذكر: صبحي وبروز دوره وفاعليّته أكثر من العنصر المؤنث: "بنفشة" بقدر ما بدا العنصر المؤنث في الخط الراهن: "نهى" أشدّ إيجابيّةً وأكثر بطولةً وتأثيرا من العنصر المذكر: "نادر" ففي الوقت الذي كانت هي المبادرة فيه إلى الحب والمقتحمة مشقّاتِه وأعباءَه كان هو موغلا في حذره وتوجّسه وخشيته، وفي الوقت الذي كانت فيه قبلها قد اختارت الغربة والمغامرة والتشظي كان هو قد فضّل العزلة والانكفاء، معوّلا على أخته منال/ المؤنث الثاني لتتدبّر أمرَ معيشته/ معيشتهما. وهو ممّا يعيد إلى أذهاننا وبكثيرٍ من الإلماح والتورية بعضا من ملامح أسطورة التكوين البابليّة الأولى، حيث أبى العقل الذكوريّ المغلق – كما لاحظت الكاتبة نفسها في عملٍ سابقٍ لها* – إلا أن يسلب المؤنث سلطته وعنفوانه، فمسخ سيدة الكون الأولى "تيامات" إلى تنينٍ كريهٍ ونقل السلطة الكونيّة كاملةً إلى المذكر "مردوك" ليبدأ عهد العنف والتسلط والدمويّة القاسية، فكأنّ مبدعتنا بقلبها أطوارَ الفعل والبطولة تصرّ بتواطؤ أنثويّ غامض على العودة إلى جماليّة البدايات، وحميميّة العهد الأنثويّ الأول ومسرّاته: عهد المحبة والسلام وطاقات الخصب الفائضة.
وبعد، وقد لاحظنا اندماج بعديْ التاريخ والفنّ في هذا العمل الإبداعيّ المتميّز فإنّ لنا أن نسجل ختاما إصرار الكاتبة على إعلاء الثاني والاحتفاء به، وتكريس حضوره، فلا أمل في النهاية إلا في انفتاح النفس الإنسانيّة على طاقات الفرح والمحبة وتجاوز ركام التاريخ وسجلات موتاه المحنطة.

*  "الفن يشتهي الحياة والتاريخ يعيقها"، دار فضاءات: عمان، ط1، 2009، ص: 129.
*  لعلّ المثال الذي يحضر الآن بقوة هو : غادة الكاميليا لألكسندر ديماس الابن، التي كان اسمها في الرواية على اسم زهرة المارغريت، ولم تخرج عن هذا الإطار في النص الأوبراليّ المقتبَس عنها، فكان اسمها "فيوليت" أي "بنفسجة" تماما كاسم بطلتنا "بنفشة"
* ينظر: يوميّات المدن، ص: 185 وما بعدها.

الرجوع إلى الأعلى