في أي سياق يمكن قراءة تنازلات وتخلي المثقف عن مواقفه وقناعاته السابقة، فعادة يظل هذا المثقف وفيًا لقناعاته ومواقفه وتصوراته، ينتصر ويتحيز لها، وأحيانا يستميت في الدفاع عنها والتمسك بها بشكل فيه الكثير من الإصرار الراسخ الذي لا يتزعزع قيد أنملة. لكن الذي حدث أنّ هذا المثقف تخلى عن مواقفه وقناعاته بكل سهولة وبساطة، فهل جاء هذا تماشيا/ أو مجاراةً للأحداث وما هو حاصل على أرض الواقع، وهل هي شعبوية منه أم نزول من برجه الأثير، لأنّ الظروف فرضت عليه هذا. وهل التنازل عن مواقفه، هو بشكل ما يأتي ضدّ قناعاته، وهل هو قطيعة معها أو فقط لمجاراة الأحداث والسائد، وأنّه سيعود لاعتناقها مرّة أخرى حين تتغير الظروف والأحداث. أيضا هل توجه المثقف نحو الشعبوية وتبنيها والانخراط فيها، هو تقاليد وحسابات سياسية ركوبًا للموجة وحفاظًا على مصالحه عن طريق كسب مرضاة الشارع؟.
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «المثقف والشعبوية»، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين والمثقفين، الذين تناولوا المسألة من جوانب مختلفة، لكنها تلتقي في ذات المعطى والسياق.

* وحيد بن بوعزيز/ باحث أكاديمي وأستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية –جامعة الجزائر2 -
المثقف الشعبوي هو من كان وراء صعود دجالين إلى المنصات التواصلية
ينتظر كلّ حراك اجتماعي من النخبة المُثقفة موقفًا أو توجيهًا أو قراءة في أسباب وتمفصلات ومآلات ثورته. وكانت الأنتلجانسيا، إذا نظرنا إليها ككتلة تاريخية تُشكل وسيطًا بين القِوى الطليعية والرّوح الثورية الجماهيرية، تمثل دائمًا حالة عقلنة لكلّ فعل ثوري، لهذا فوظيفة النخبة تكمن في عضويتها داخل القِوى الثورية وفي تعرفها على مُمكنات الفعل الثوري. عندما وقع حراك 22 فيفري 2019 وجدت الجماهير الجزائرية، التي خرجت قبل وبعد حالة شغور منصب الرئيس، نفسها في حالة شغور نخبوي رهيب، وتخوف الكثيرون، خاصة الذين درسوا تاريخ الثورات الشعبية، من فشل هذا الحراك لأنّ كلّ ثورة لا تجد قيادة تمثلها فمآلها الفشل لا محالة. وعلى الرغم من أنّ شعارات كثيرة رُفعت في بداية الحراك ضدّ النخبة؛ مُتهمة إياها بالسلبية والعمالة والتقاعس والتموقع، إلاّ أنّ ما يُقرأ الآن على منصات التواصل الاجتماعي يُبين الانسداد الّذي وصل إليه الفعل الثوري بسبب طغيان الغوغائية والنبوات الكاذبة والدجل السياسي والنعرات العنصرية والهرطقات الصوتية الدالة على مؤشرات لبيدو يُعاني كثيرا.
عندما يغيب خِطاب النخبة تبرز بطبيعة الحال خطابات شعبوية، ولكي يفهم القارئ الكريم لابدّ أن نُفرق هنا بين الخِطاب الشعبي والشعبوي، فالأوّل هو خِطاب يبين رغبة المطالبة بالحرية والعدالة وفق حالة واقعية صرف، أما الخِطاب الشعبوي فهو خِطاب فيه استغلال إيديولوجي ما، فكلّ تيار أو حركة أو حساسية اجتماعية أو سياسية أو ثقافية تستغل الشعب لتأبيد بقائها فهي شعبوية مقيتة، وهنا لابدّ أن نذكر بأنّ المثقف الّذي يستغل الشعب، حينما يقول أنا الشعب، باحثًا عن تموقع جديد أو انتقامٍ قديم تتدخل فيه الغيرة أو الشعور بالتهميش فإنّه ساقطٌ في شراك الشعبوية ولهذا يمكن أن نسميه المثقف الشعبوي.
حينما سقط الحراك الجزائري في الشعبوية لم يكن هذا الأمر شيئًا غريبًا عن طبيعة المشهد الثقافي في علاقته بكلّ ما هو سياسي. تعرف الجزائر حالة خواء أنتليجانسيا لأسباب كثيرة، فالشِعارات التي تطالب النخبة المثقفة في بلادنا بالتحرك وتصل مرات إلى درجة تخوينها تعد شعارات غير مُبالية بالتكون الثقافي في التاريخ الجزائري.
يعتقد الكثير من الدارسين لهذه الظاهرة بأنّ هنالك عِدة عوامل حالت دون نشوء نخبة تُشكل كتلة تاريخية في تاريخ الجزائر، فلما نعود إلى التاريخ ما قبل الكولونيالي سنجد بأنّ الجزائر كمكون جغرافي لم تعرف حاضنة وحاضرة ثقافية مثلما نجد حاضنة القيروان والزيتونة عند جيراننا. شكّل غياب هذه الحواضر الثقافية غياب مرجعية ثقافية كانت ستكون عمادا لبناء بعد من أبعاد الهوية الجزائرية.
ثانيًا، ما كان متوفرا من عناصر ثقافية قبل الاستعمار جرى اجتثاثه من طرف العقل الكولونيالي الفرنسي المعروف باستئصاله لكلّ ما هو أصلاني، فالفرنسي بنى عقيدته الكولونيالية على مفهوم اللّغة كبعد يعقوبي سياسي، لهذا منع كلّ حضور لغوي أو هوياتي ثقافي أصلاني وولد نمطا ثقافيا تبعيا ملحقا بالميتروبول. بعد الاستقلال لم تستطع الدولة الجديدة بناء أنتليجانسيا لأنّ السلطة استوردت نمطها السياسي من القومية التي أقامت شرعيتها باعتماد الشعبوية، وكان هذا حال كلّ الجمهوريات العربية التي تركت قاعدة سياسية ذهبية، من يستولي على الشعب فهو سيستولي على السلطة لا محالة، وكان طبيعيًا أن تقوم هذه الجمهوريات، التي غالبًا ما كانت عسكرية، على إبعاد كلّ تكتل نخبوي باعتباره عدوا لها، مُتهمة إياه بالجري وراء المصلحة الطبقية والتبرجز.
في الجزائر نجد خاصية يراها الكثيرون بمثابة مؤجج لكلّ ما هو شعبوي، لقد كانت الثورة الجزائرية ثورة فلاحين أساسًا، وتخوف واحد مثل فرانز فانون من المستقبل، أي هل تستطيع ثورة فلاحين بناء دولة الاستقلال، وقد سبقه في هذا السؤال غرامشي في ما أطلق عليه المسألة الجنوبية ولينين حينما طلب من البروليتاريا عدم طرد المثقفين من الأحزاب. ولكن أعتقد أنّ المشكلة من وراء تغييب القيادات النخبوية تكمن في أنّ قادة التحرير شككوا في كلّ برجوازيات المُدن، ولم يفرقوا بين البرجوازية الوطنية التي كانت تحمل شعارات ضد الاستعمار والبرجوازية الكولونيالية الكومبرادورية التي كانت من وراء تأبيد الاستعمار بصفتها وسيطة وخادمة للمشروع الكولونيالي. أعتقد أنّ هذه التمفصلات التاريخية الثلاثة، غياب الحواضر الثقافية والتواجد الاستعماري الاستئصالي وبروز نمط سياسي شعبوي ساهم في خلق هوة وانعدام ثقة بين النخبة والمجتمع.
لكي نكون واقعيين تكرست في الجزائر بسبب هذه الأسباب مجتمعة ظاهرة غريبة وهي أنّ المجتمع وضع بينه وبين النُخب مسافة تغذيها الكراهية والفوبيا والتهميش؛ وكلّ هذا كان بسبب الشعبوية التي كانت تؤججها السُلط السياسية ضدّ نُخب مجتمعها، فالكثير من الأمثال الشعبية تُهين الفعل الثقافي والكثير من السلوكات تُبين بأنّ المجتمع لا يُولي النُخب القيمة الحقيقية المنوطة بها. لقد سعت السُلط السياسية وفق برنامج مدروس إلى سحق الطبقات الوسطى بطُرق شتى، ولهذا شعرت النُخب بأنّها مُهمشة وبعيدة عن صناعة مستقبل بلادها. بعد هذا يتبين لنا بأنّ دمج المثقفين في الفعل السياسي والاجتماعي ليس بالشيء البسيط، فالمثقف يشعر بأنّه مضطهد من طرف السياسي كما يشعر بأنّه مُهمش وغير مرغوب فيه من طرف المجتمع، لهذا تراه يتخذ ثلاثة مواقع للتمظهر، إمّا بالاقتراب من السياسي وهو حال الكثير من المثقفين الذين يعيشون وضعية مثقفين عضويين مخصيين (من الخصاء)، وإمّا الاقتراب من المجتمع وهكذا يفتقد المُثقف رويدا رويدا فاعليته وقدرته على خلق مسافة مع كلّ ما هو انفعالي ويصبح مثقفًا شعبوياـ وإمّا الانحسار في غربته بعيدا عن التجاذبات.
لقد طُرحت في الحراك قضايا ثقافية بامتياز، يعتقد الشعبوي سواء أكان مُثقفَا أم سياسيَا أنّ الشعب الّذي يستغله وحدة لا تحوي تناقضات، لقد أكد علماء الاجتماع أنّ الشعب مقولة غير واقعية وهي ذات طبيعة تخييلية، تقترب مقولة الشعب من الواقع العيني في حالات الحروب فقط وفي حالات الكوارث لأنّها تلتحم بفكرة المصير المشترك.
اكتشف الحراك بعد مدة أنّ قضية تجاذبات الهُوية أصبحت لعبة تُحاك ضدّ طموحاته، ووجد الحلول أمامه مُشفرة لأنّ مسألة الهُويات هي مسألة بناء ثقافي بامتياز، ففكرة الفرار بقنبلة الهُويات من المعترك السياسي إلى المجال الثقافي عملٌ يقوم به مثقفون مختصون.
لم نجد في الحراك طرح مسألة مُهمة مُرتبطة بالاقتصاد السياسي للبلد. تعيش معظم البلدان العربية نمطًا إنتاجيًا كولونياليًا بوجود عصابات محلية كومبرادورية تخدم مصالح الدول الإمبريالية الكُبرى، يعتقد المنطق الشعبوي بأنّ حل الأزمة السياسية يعود إلى طرد العصابة وينسى بأنّ الاقتصاد القائم على بنية تبعية كومبرادورية يجب أن يفكر في محاربة الأسباب العولمية التي تقف وراء تفريخ هذه العُصب العميلة. لابدّ أن نُفكر في الشركات العابرة للقارات والشركات النفطية وشركات الأدوية والأسلحة ولابدّ من التفكير في الكيفية التي يجب التعامل بها مع الرأسمالية المالية التي تعتمد اقتصاد الظل وتطمس الاقتصاد الواقعي.  
أعتقد أنّ حديثي فيه نزعة تشاؤمية، ولكن أفضل أن أكون واقعيًا على أن أكذب على القُراء الكرام، أمام الجزائر تحديات تتعدى المُطالبة فقط بتغيير النظام السياسي، ولعل أكبر تحدٍ يكمن في بناء وعي حقيقي بمسألة النخبة بإنشاء مصالحة معها وخلق مناخ من الثقة المتبادل، وما نراه هذه الأيّام من تعميق الاحتقار للمثقفين من طرف بعض المثقفين يدل على تشرذم النخبة، فالمثقف الشعبوي، مثلا، الّذي رفع شعار الشعب (استغلال كلمة شعب طبعا) وراح يهرطق بشعارات من مثل أنّ الحراك أكبر من النخبة ووصل بالبعض إلى القول بأنّنا سنتعلم من جديد من الشعب، هذا المثقف للأسف هو من كان وراء صعود دجالين إلى المنصات التواصلية. لقد فهم الدجالون المنطق الشعبوي فراحوا يبيعون الشعب ما يريد سماعه وكان الأجدر بالمثقف أن يقول الحقيقة لهذا الشعب: بأنّ الأمر مُعقد جدا وأنّ الحراك هو عملية صراع حامية الوطيس مع قِوى مُتعدّدة الأوجه والزوايا، داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية.

* فؤاد منصوري/ أستاذ وباحث أكاديمي –كلية الحقوق والعلوم السياسية- جامعة عنابة
المثقف الجزائري بين الاستقلالية والتورط في الشعبوية
يمتلك المُثقف الرأسمال المعرفي الّذي يُؤهله للتعامل بذكاء وحكمة وفعالية مع الظواهر الثقافية، السياسية والاجتماعية. وبحكم هذه المكانة الرمزية أولا والرسمية ثانيا تُوكل للمثقف مجموعة وظائف داخل مجتمعه تتعدّد مستوياتها ودرجات تأثيرها. هذه الوظائف وهذه الأدوار تُعزز فكرة أنّ المُثقف هو صوت مجتمعه بالنظر إلى كونه حاملا لمشروع مجتمعه ومدافعا عنه. هذه الفكرة تتماشى مع مدلول المُثقف العضوي عند غرامشي أي ذلك الفرد المُنتج لقيم مجتمعه والّذي يُعيد إنتاجها أيضا عبر المؤسسات الاجتماعية وهذا مُقابل المُثقف لا العضوي (أو الانتهازي) الّذي يتورط في دواليب السلطة السياسية ويصبح أداة لها في الدفاع عن أطروحاتها وذرائعها.
ما واقع هذه التصورات على الحالة الجزائرية؟ بمعنى آخر ما هو  دور المثقف الجزائري حيال قضايا مجتمعه اليوم (الآنية والإستراتيجية)؟ بقراءة غير خطية يمكن أن نُميز بين ثلاثة أنواع من الفئات: فئة من المثقفين تميل إلى جلد الذات (ممارسة الانتقاد فحسب)، فئة أخرى تغرق في الماضوية البعيدة وتعيش حبيسة بداخلها والفئة الأخيرة حداثوية منفصلة عن تراثها  تقدم لنا القوالب الجاهزة التي ترعرعت في بيئة سوسيو ثقافية مغايرة لبيئتنا. ونجد أنّ هذه الفئات من المثقفين تعيش بين الاستقلالية والتورط، استقلالية البعض لإبراز أنّهم مرتبطون بآمال مجتمعهم البعيدة عن أُطروحات السلطة السياسية وتورط البعض الآخر في مشاريع السلطة مبدين انتهازية لا نظير لها مقابل مصالح ضيقة وهي الفئة التي تدافع عن السلطة السياسية (الوضع القائم) رغم ديناميكية الحراك الشعبي الّذي تشهده البلاد منذ 22 فيفري الفارط لأنّها فئة مستنفعة من بقاء الوضع على حاله بل أنّها تناور في كلّ الاتجاهات حفاظا على مكاسبها الرمزية والمادية.
في المقابل نجد من حاول أن يرسم فكرة المثقف النقدي المندمج مع طموحات مجتمعه والمدافع عن قضاياه الّذي ينهل من ماضيه غير مستبعد لحداثة العصر وضروراته ويحاول جاهدا تغذية الحراك الشعبي بالأفكار والأطروحات التي تضمن له الفعالية وتحقيق كلّ الأهداف التي يسعى إليها، ويجد هؤلاء كلّ الدعم والتثمين من الحراك (وخاصة شباب الحراك) باعتبار أنّ الثورة لا تنضج إلاّ بمثقفيها الذين يحملون أهدافها ويدافعون عنها.

* محمّد داود/ ناقد وباحث أكاديمي – جامعة وهران 1
الشعبوية تيارات وحالات والمرحلة الحالية تتطلب حضورا قويًا للمثقف النقدي
في البداية لا بدّ من طرح مسألة في غاية الأهمية وهي أنّ بعض المفاهيم تحتاج إلى دراسة عميقة، لكونها مُلتبسة لدى العديد من الناس، ماذا نقصد بالمثقف؟ وماذا نقصد بالشعب؟ وإذا حصرنا هذين المفهومين في إطارهما المعرفي، يمكننا أن نتناول الموضوع بكلّ أريحية، حيث أنّ المثقف أشكالٌ وأنواع، لكنّني أجمل ذلك في أنّ هذا الأخير هو من ينذر نفسه للعمل الفكري والثقافي بصفة عامة ومنه نجد «المثقف التقليدي» الّذي يُردد الأفكار السابقة ولا يجدّد فيها إلا قليلا، ويرى أنّه لا يمكن إبداع أكثر مِمَا هو موجود، لأنّ كلّ شيء قد تمّ قوله في هذا الموضوع أو ذاك، وهو بالتالي مثقف لا يحب التغيير وقد يقاومه. وهناك «المثقف المُجدِد» الّذي يُضيف إلى ما هو موجود أشياءٌ جديدة ويتبنى طروحات قد تعارض ما هو قائم ومُكرس، ولعل هذا الموقف النقدي هو الّذي يجعله هدفًا سهلا من قِبل منتقديه.
أما مفهوم الشعب، المقصود مجموع السكان في منطقة معينة تجمع بينهم مجموعة من القيم التاريخية والثقافية والسياسية والمصير المشترك، والشعب لا «يوجد» إلا في لحظة تاريخية معينة، أي حالة التهديد الخارجي أو في حالة تقرير المصير السياسي الداخلي، أي في البحث عن شرعية سياسية للمؤسسات الوطنية، مثلما يحدث الآن في الجزائر، لكن عندما تتحقق طموحات «الشعب»، تتحوّل مكوناته إلى حقيقتها الاجتماعية، أي بصفتها مجتمعًا تمتلك فيه كلّ فئة مصالحها وطموحاتها الخاصة بها تُدافع عنها وتجتهد للوصول إليها. وإن كان مفهوم «الشعبوية» يحمل في طياته الاستجابة لمطالب «الشعب»، فإنّه قد تمّ توظيفه من قِبل الفاعلين السياسيين والقادة في كلّ مرحلة لإسكات صوت المُعارض والمُختلف وبالتالي صوت المثقف النقدي، لأنّ الشعبوية تعتمد في كثير من الأحيان على الديماغوجية والتلاعبات الفكرية والإعلامية لخدمة مصالحها السياسية الآنية، والشعبوية تيارات مختلفة لا تحب التغيير في الكثير من الأحيان ولهذا لا تقبل النقاش وترى أنّها تملك الحقيقة المُطلقة، وهي بالتالي تُعادي الديمقراطية بما تحمله هذه الأخيرة من قيم الحوار والتسامح وعدم الإقصاء. وتعتمد الشعبوية في الجزائر على تمثلات فكرية تُقصي مجهودات الفرد وعبقريته، مثل «البطل هو الشعب»، و»اختيارات الشعب»، إلى غير ذلك من التصورات التي تُقزم الفرد وتجعله يذوب في المجموع، بينما لهذا الفرد أدوارا يقوم بها داخل الديناميكية الاجتماعية، وهي أدوارٌ لا يُستهان بها. وهذه الديماغوجية والوطنية الضيقة والرّوح الأبوية وما ينتج عن ذلك من تسلط واستبداد هي التي تُوجه ضدّ المثقف والسياسي المُعارض عندما يُقدم بدائل تُعيد النظر في الوضع القائم.
وتاريخيًا نجد أنّ المثقف الجزائري قد عرف عِدة مراحل، مرورا بالثورة التحريرية وفي بداية عهد الاستقلال وفي مرحلة التسعينيات، ففي هذه المراحل جميعها تمّ تهميش المثقف والتقليل من شأنه وسجنه وتصفيته جسديًا، لأنّ في كلّ هذه المراحل تمّ تأثيم أو بالأحرى تجريم المثقف وتمّ اتهامه بالتآمر على المصلحة العامة وعلى الوحدة الوطنية وعلى الثورة وعلى «الثوابت» وعلى «اختيارات الشعب»، لسبب بسيط أنّ المثقف كان دائمًا ضحية وكبش فداء للصراعات السياسية في كلّ مرحلة من هذه المراحل، وهو دائمًا محل شك وريبة ومُتهم سواء تكلم وكتب أو بقي صامتا. ولكون المثقف «يتدخل فيما لا يعنيه» فهو -بحكم مقامه- يملك وظيفة اجتماعية تقتضي منه أن يُشارك في الأحداث وفي هذا الحراك وهي فرصة لا تعوض بالنسبة للمثقف النقدي والمُجدِد حتى يسهم في التجديد الثقافي والمؤسساتي. وهنا لا أتحدث عن المثقفين التقليديين أو عن مثقفي السلطة الذين يبحثون وبانتهازية واضحة عن مكان لهم ضمن التشكيل السياسي القائم وربّما فيما هو قادم، لأنّ هؤلاء قد اختاروا مواقعهم واتخذوا من ذلك إستراتيجية شخصية ونجد هؤلاء في الأحزاب التقليدية الموالية للسلطة وفي الأحزاب المُسماة «معارضة» وفي قنواتٍ إعلامية وفي المواقع الالكترونية والشبكات الاجتماعية وكلها تصب في الحفاظ على الوضع القائم وعدم الذهاب بعيدا في التغيير الديمقراطي وتحت مبررات مختلفة. فالمثقف الحقيقي الّذي يدرك، بكلّ وضوح وتبصر، الرهانات السياسية التي تمر بها البلاد، لا يملك إلاّ أن ينخرط في هذه الديناميكية السياسية التي يمثلها الحراك الّذي انطلق منذ 22 فبراير، لكن بطرحه للبدائل التي تقود نحو بر الأمان، ولا أعتقد في ذلك تنازلا أو تخلي عن قناعات معينة، بل بالعكس فتواجد المثقف- التقليدي منه والمُجدِد- في الحراك ضروري، لكون بناء الجزائر الجديدة، جزائر دولة القانون والحريات تهم الجميع ومختلف الفئات الاجتماعية دون استثناء. وعندما تتحقق هذه المطامح يمكننا أن نتحدث وأن نتحاور حول مختلف القضايا التي تشغل بال المثقف الملتزم بقضايا الشعب، لكن هذا لا يعني تخليًا عن قناعات أو مواقف سابقة بتاتا، أعتقد أنّ المرحلة الحالية والقادمة تتطلب حضورا قويًا للمثقف النقدي لكي يسهم في بناء الوطن على أُسس سياسية تجعل الجزائريين في منأى عن الاستبداد والتسلط والظلم، وتحفزهم على القيام بواجباتهم نحو دولتهم، أي لما يخرج الشعب من صفته «الشعبوية» إلى صفته الاجتماعية، أي إلى كونه مجتمعًا تتجاذب فيه المصالح وتُقاوم فيه الفئات الاجتماعية من أجل حياة كريمة، يمكننا أن نتطرق إلى جميع الموضوعات الهامة دون تجريح أو سب أو شتم لبعضنا بعض.

* محمّد بكاي/ كاتب وباحث أكاديمي –جامعة أبو بكر بلقايد- تلمسان
مواقف بعض المثقفين مغازلة للمخيال الشعبوي بدل طرح الأسئلة واستشراف المستقبل
تحتمل هذه القراءة أكثر من وجهٍ أو تأويل؛ فمواقف المثقفين تنقسم  إلى قسمين: بين انطباعات بريئة مُنصهرة مع الموجة الجياشة للحراك الشعبي وهو ما يندرج ضمن الرّوح الوطنية التي تجمع المثقف والفرد العادي معًا في ظل هذا المسار التاريخي المُهم الّذي تمر به الجزائر حاليًا، فنزول هذه الفئة من المثقفين مِمَن آمنوا بهذه الحشود واهتموا لمصائرها ذات يوم، وحاولوا استطلاع التركيبة الثقافية والاجتماعية لهؤلاء الأفراد (من حيث الإمكانات والرهانات والمعوقات)، كما لم ينتقصوا يومًا من همتهم أو عزيمتهم إيمانًا بالتغيير الآجل أو العاجل وحفظًا للرؤية المُتفائلة التي ترتسم في الأفق. فنزولهم إلى الشارع اصطفافًا مع بقية المُعبرين عن صوتهم المكتوم لم يكن تنازلاً بل تحقيقًا فعليًا وإنجازيًا لسياساتهم وتصوراتهم وكتاباتهم، هذا الصنف هو من آمن بموت المثقف الصنمي والأيقوني، فأغلب كتاباتهم كانت إزاحات للدّور السلطوي للمثقف الّذي يكتب من عل.
من ناحية أخرى، تُعد مواقف بعض المثقفين مُسايرة صورية أو شكلية للـمشهد الّذي يضجُ به الشارع الجزائري ومغازلة للمخيال الشعبوي بدل طرح الأسئلة واستشراف المستقبل، فالصورة التي اكتفوا بها هي الدفاع بحرارة مصطنعة في نوع من التّضارب مع قناعاتهم السّابقة منقلبين على أفكارهم أو تصوّراتهم التي كانت خدمة لنظام سياسي فاسد، فهل يعد منقلبهم مـمارسة حرباوية خطيرة لأنّها تتقنع في كلّ مرّة كسبًا لمصالح مستقبلية؟ وهل هذا التوجه نحو الشعبوية هو تقاليد سياسية بائسة ركوبًا للموجة وحفاظًا على مصالحهم عن طريق كسب مرضاة الشارع؟. اليوم، تأتي مغازلة بعض المثقفين للحراك الشعبي تنازلا غير بريء؛ لأنّ هذا التنازل يضمر تطلعات إستراتيجية وحجزا لمنزلة في قلوب الجماهير، هذا النوع الّذي نزل للشارع مُلتقطًا السيلفيات مع أبناء شعبه الّذين نعتهم فيما سبق بأذم الصفات (الهجمي والرّث والغاشي وتعميم ذلك بشكل فج مقارنة بأشكال التحضر والرقي) نجده يتهافت لركوب موجة الحراك مُنفعلا مع حرارة المشهد إثارة للحماس وإلهابًا لمشاعر الجماهير من خلال نوع من التوليف العاطفي المُفتقر إلى القراءة النقدية الحصيفة.
بالنسبة لي المثقف هو إنسان مناضل ومقاوم، متمرّد وثائر ضدّ تقييد العقل أو سجنه، هو ابن الشّعب الحرّ الّذي لا يرتضي لنفسه الارتماء في أحضان المؤسسات الفاسدة، من هنا يجب إعادة تحديد دور الـمثقف داخل المجتمع وفاعليته في متابعة تحولات العقل الثقافي والـمراس السياسي والصدى الاقتصادي والأثر الاجتماعي. ما يهم فعلا هو أشكال التحول الجذري للمواطن الجزائري اليوم (من خلال استقراء اللافتات التي حملها طيلة المسيرات مثلا) التي تعكس حجم يقظته أو انبعاثه بقوة وحصافة؛ حيث سخر عتاد الثقافة الافتراضية وقوتها للتعبير بعفوية وحرية بعيدا عن قيود المؤسسة التي انهمك الـمثقف أو الأكاديمي في الاحتماء بها والخوف من تجاوزها. لهذا، أعود وأكرر، على المثقف أن يكافح ويقاوم ويناضل بدل أن يحكم ويتفاعل ويعبر عن عواطفه (réagir) ويتشارك مع بقية الحقول الحساسة (الاقتصادية والقانونية على سبيل المثال) في مرافقة هذا الحراك الوطني للوصول إلى تطلعاته المنشودة.

الرجوع إلى الأعلى