يرى الدكتور رياض بغدادي، الباحث بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الذكاء الاصطناعي صار حتمية في اقتصاد المستقبل بما يجعل تدريسه في الجامعات أمرا ملحا أكثر من أي وقت مضى، كما يكشف خريج المدرسة العليا للإعلام الآلي بالجزائر العاصمة، عن بحث جديد يعمل عليه مع طلبة وأساتذة جزائريين لتسريع أنظمة عمل الهواتف الذكية والسيارات ذاتية القيادة، ويتطرق إلى اشتراكه في تطوير لغة برمجة فائقة السرعة، أصبحت شركات «يوتيوب»، «غوغل»و«فايسبوك» تستعملها في معالجة الصور والفيديوهات، ليتحدث  الباحث الشاب المعروف بنشاطه التطوّعي، عن نقاط أخرى تطالعونها في هذا الحوار الذي خص به النصر.

حاورته: ياسمين بوالجدري

- استطعتَ وأنت ما تزال طالبا في المدرسة العليا للإعلام الآلي بالجزائر العاصمة، نشر ورقتين علميتين، في حين نرى اليوم باحثي دكتوراه يجدون صعوبة في ذلك، ما السر وراء هذا الإنجاز؟
فعلا، قمت بنشر أول بحث علمي لي وأنا طالب في السنة الثانية بالمعهد الوطني للإعلام الآلي. قمت بعدها بسنة بنشر بحث آخر قدمته في مؤتمر دولي، ثم تلاه بحث ثالث. ربما السر الأساسي هو أني كنت مولعا بمجال الإعلام الآلي فكنت أقرأ وأطلع على كل صغيرة وكبيرة فيه. ساعدتني هذه الأبحاث كثيرا، فبفضلها تحصلت على قبول في جامعة الصوربون باريس 6 أين واصلت الماستر والدكتوراه فيما بعد
- بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي التحقت به قبل 5 سنوات، شاركت في تطوير لغة برمجة اسمها «بانسيل»، تسمح للأشخاص غير المختصين في الإعلام الآلي بولوج عالم البرمجة. هل مهّدتم بذلك لمشاريع مشابهة؟
كان هذا واحدا من المشاريع التي عملت عليها أثناء الدكتوراه في إطار مشروع بحث أوروبي شارك فيه 30 شخصا من 5 دول أوروبية. عملنا مع شركة AR- البريطانية، المتخصصة في تصميم المعالجات على تطوير هذه اللغة الجديدة، والهدف منها هو تمكين غير المتخصصين من كتابة برامج سريعة، أما الهدف على المدى البعيد فهو جعل تكنولوجيا برمجة أجهزة الكمبيوتر في متناول الجميع.
اللغة التي طورناها تم استعمالها فيما بعد في شركة «فيسبوك» لتطوير نظام ذكاء اصطناعي جديد، كما أنها كانت الخطوة الأولى في المشاريع التي أعمل عليها الآن.
- عملت بعد ذلك على تطوير لغة برمجة جديدة، هلا أعطيتنا تفاصيل عنها؟
نعم، اشتركت منذ 2015 في العمل على لغة برمجة جديدة اسمها «هاليد»، وهو مشروع كان قد بدأ في 2010 يشمل تطوير لغة مخصصة لمجال معالجة الصور والفيديو. الهدف منها هو تمكين المبرمجين من كتابة برامج سريعة حيث أن البرامج المكتوبة بهذه اللغة أسرع بمئة مرة من البرامج المكتوبة بلغات برمجة تقليدية مثل «الماتلاب». نتيجة لنجاح هذه اللغة، قامت شركات عدة بتبنيها منها «جوجل» و «فيسبوك» و «أدوبي»، وكل برامج معالجة الفيديو في «يوتيوب» الآن، تتم كتابتها عن طريق لغة البرمجة «هاليد». كذلك كل برامج معالجة الصور في كاميرات الهواتف الذكية (أندرويد)، وقراء جريدة النصر الكرام الذين يستعملون يوتيوب أو يستعملون هواتف (اندرويد) يستعملون هذه التقنية يوميا دون أن يشعروا بذلك.
- ماذا عن مشروعك لتحسين تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في لغات البرمجة؟
هذا آخر مشروع عملت عليه شارك فيه 12 طالبا و 5 أساتذة من الجزائر، وهو نظام جديد اسمه «تيراميسو» أنشأته من الصفر ابتداء من 2016 إلى غاية الآن، إذ أنه متخصص في برمجة أنظمة الذكاء الاصطناعي والهدف منه تسريعها، لأن الأنظمة الحالية لا تعمل، أو تعمل ببطء، في أجهزة الهواتف الذكية أو في السيارات ذاتية القيادة، وبالتالي حتى نتمكن من الاستفادة منها في المستقبل يجب أن نطور تقنيات أخرى تجعلها تعمل بكفاءة أكثر.
- رغم التطوّر الهائل الذي يشهده مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن جدلا فلسفيا وأخلاقيا ما يزال دائرا حول مدى قدرة الآلة على اكتساب الذكاء الاجتماعي والعام، وكذا الإدراك، وقد تطرق البروفيسور بلقاسم حبة إلى هذه المسألة مؤخرا وقدّم مثالا عن سيارة ذاتية القيادية، كيف ستختار بين دهس شخص ظهر فجأة في الطريق وبين تجنبه لدهس إنسان آخر يمشي على الرصيف. برأيك هل سيستطيع العلم إيجاد حلول لمثل هذه المعضلات؟
نعم هي أسئلة صعبة ومهمة في نفس الوقت. ليس لدي أي شك بأننا سنتمكن من تطوير أنظمة لديها قدرات تقارب قدرة الانسان في الكثير من المجالات، وهذا الأمر صعب طبعا وقد يستغرق بعض الوقت وربما بضعة قرون. الشيء الذي سيقف العلم عاجزا أمامه حسب رأيي هو الوعي أو الادراك، فالوعي خارج تماما عن إطار العلم ولا يمكن للعلم أن يقدم فيه أي شيء ولعله أمر متعلق بالروح التي خلقها الله فينا، وهنا أذكّر بقوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
مهما كان، فإننا ما زلنا بعيدين عن نظام له قدرات تقارب قدرات الإنسان وما زالت الأنظمة الحالية محدودة كثيرا في قدراتها.
- لكن، هل يمكن أن تتفوّق الآلة على ملكة الذكاء لدى الإنسان، أم أن ذلك حصل بالفعل مع الثورة الصناعية الرابعة؟
ذكاء الآلة يتفوّق على ذكاء الانسان اليوم ولكن في مجالات متخصصة. مثلا يمكن للآلة الحاسبة القيام بعمليات حسابية معقدة في لمح البصر غير أن الأمر الذي مازال صعبا هو الذكاء العام غير المتخصص. هذا ماينقص الآلة اليوم.
- واجهت العديد من دول العالم جائحة كورونا بالذكاء الاصطناعي لمتابعة انشار الوباء بل وحتى لتطوير أدوية، ما أظهر أن هذا المجال قد لا يقل أهمية عن الطب في مثل هذه الأزمات الصحية. هل نحن أمام عهد جديد قد تعوّض فيه المعلوماتية حتى الأدوية واللقاحات؟
نعم، هناك العديد من الأبحاث التي تستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنيات المحاكاة في تصميم أدوية جديدة، بما فيها التصدي لجائحة كورونا. دعيني أشرح هذه التقنية بشكل مبسط للقراء، ففي المخابر التقليدية لتطوير دواء جديد، يقوم الباحثون بتجريب عدد كبير من المركبات الكيميائية واحدا واحدا على الهدف (خلية أو بروتين معين مثلا) لدراسة فعاليتها. إذا كان لديهم 10 آلاف مركب فإن هذه العملية التجريبية ستستغرق وقتا وجهدا كبيرا، لكن تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة تسرع هذه العملية حيث يتم تجريب المركبات الكيميائية عن طريق محاكاة على الكمبيوتر دون الحاجة الى تجربتها في الواقع، وهذه المحاكاة أسرع بكثير من التجارب الواقعية وبالتالي يمكن تجريب 100 ألف مركب في وقت قياسي. استعمال هذه التقنية بدأ في التوسع مؤخرا وقد تم استخدمها في التصدي لجائحة كورونا وسيتوسع استعمالها أكثر في المستقبل.
- هل سيحظى هذا المجال بأهمية أكبر في عالم ما بعد الجائحة؟
نعم هذا هو المجال الذي تتسابق كل الدول للتفوق فيه. الذكاء الاصطناعي تقنية جديدة مثل الكهرباء، والكهرباء عندما تم تطويرها أحدثت ثورة في كل المجالات الأخرى، إذ أنها قامت بتعويض الكثير من الأجهزة اليدوية القديمة. كذلك الذكاء الاصطناعي، هو أداة جديدة ستعوّض الكثير من الأدوات التي نستعملها اليوم، وبالتالي إذا أرادت أمتنا أن يكون لها مكان في اقتصاد المستقبل فعليها أن تولي أهمية كبرى لهذا الجانب من خلال تعليمه في الجامعات وتمويل الشركات الناشئة في هذا المجال.
- بالحديث عن الجزائر، ما هي المجالات التي يمكن إدخال الذكاء الاصطناعي فيها لمعالجة المشاكل المطروحة على الواقع؟
توجد مجالات عديدة، وخصوصا في المناطق النائية، وهنا أعطي مثالا بما تقوم به الهند، حيث وبسبب نقص الأطباء في المناطق النائية، يُطور هذا البلد بالتعاون مع «جوجل»، نظام ذكاء اصطناعي للفحص الدوري لشبكية العين، حيث أن ممرضة تقوم باستقبال المرضى وتصوير شبكيتهم ليقوم نظام آلي بفحص المرضى،والذين يتبيّن أنهم يعانون من مشاكل في الشبكية حتى وإن لم تكن لديهم أعراض، يتم تحويلهم إلى أطباء مختصين. لكن وبشكل عام أظن أن على الشباب في الجزائر التركيز على الأسواق العالمية، فبإمكانهم إنتاج منتجات في هذا المجال وبيعها في السوق العالمية وهذا أفضل بكثير للحصول على العملة الصعبة.
- أنت من أبرز الباحثين الجزائريين الذين يقومون بأعمال تطوّعية من خلال المساهمة في تدريب الطلبة ونشر المعرفة، ومؤخرا رأيناك ضمن مخيمات افتراضية ومبادرات لتوفير عتاد الحماية للأطقم الطبية. ما الذي دفعك إلى خوض هذه التجارب؟
قمت خلال السنوات الماضية بالتعاون مع أساتذة من المعهد الوطني للإعلام الآلي بالجزائر، بتأطير 13 طالبا في مشاريع تخرجهم، وقد شارك هؤلاء الطلبة في مشروعَي «تيراميسو» و «هاليد» الذين تكلمت عنهما حيث سننشر نتائج هذه الأبحاث قريبا بإذن الله. قمت كذلك، بالتعاون مع أصدقاء، بإنشاء مجموعة «امتياز»، وهي مجموعة تقوم بتقديم محاضرات للطلبة لتحفيزهم على التميز في مجالاتهم، كما نظمنا خلال السنوات الماضية أكثر من 10 فعاليات حضرها ما يفوق 2000 طالب. بالإضافة إلى هذا أنشأت صفحة على الفيسبوك بعنوان «د.رياض بغدادي» والتي أحاول من خلالها تحسيس الشباب بأهمية العلم و العمل كأداة أولى لبعث نهضة أمتنا. أدعو قراء الجريدة الكرام إلى متابعتها.
- تطوّر مفهوم التطوّع كثيرا في الدول الغربية وصار مرادفا لاكتساب المهارات وزيادة الحظوظ في الحصول على فرص عمل مناسبة، لكن في الجزائر الأمر مختلف.هل نحن أمام حتمية تنظيم هذا المجال؟
العمل التطوّعي في الغرب أصبح عملا له مؤسسات متخصصة. أحد أصدقائي هنا مثلا يعمل في مؤسسة خيرية، وله عمل بدوام كامل ومرتب شهري وفي نفس الوقت ينشط في المجال التطوّعي الذي يحبه. لا يمكن للعمل التطوّعي في أمتنا أن يكون فعالا إلا إذا تحوّل إلى عمل مؤسساتي، بمعنى أن تكون الجمعية الخيرية مؤسسة فيها موظفون بدوام كامل وبمرتبات كافية ولهم أهداف واضحة وتقارير سنوية عن النشاطات ومصادر تمويل ثابتة وغير ذلك.
الجامعات هنا في الولايات المتحدة الأمريكية مبنية على مبدأ الأوقاف، حيث أن الوقف الخاص بجامعة هارفارد وصل إلى 40 مليار دولار، ويتم استثماره سنويا لتُستعمل تلك العائدات لتمويل الجامعة ومن خلالها يتم تقديم منح للطلبة وتمويل جزء من تكاليف الأبحاث داخل الجامعة وغير ذلك.
- ما هي رسالتك للشباب؟
عليكم بالعلم وكثرة العمل وتمسكوا بأخلاق الإسلام العظيمة، فبهذا فقط ستنهض أمتنا وتعود إلى صدارتها بين الأمم. ما هذا الأمر ببعيد ولكن علينا فقط العمل كثيرا للوصول إليه. أيضا يسألني الكثير من الطلبة بشكل متواصل عما يجب عليهم القيام به للنجاح والتميز، وجوابي عادة أنه لا توجد وصفة محددة، فلكل منا طريقته الخاصة ومساره المهني الخاص الذي يتماشى مع ظروف حياته، ولكن بشكل عام، على الإنسان أن يركز على خمس نقاط.
أولا أن يحدد لنفسه هدفا يريد الوصول إليه، ثانيا، أن يعمل على تعلم كل ما يساعده في تحقيق هدفه، ثالثا وهي أهم نقطة، عليه بكثرة العمل، فلا أعرف أي شخص ناجح حقق النجاح دون هذا الشرط الذي يتطلب التحلي بالصبر كونه متعب وشاق. النقطة الرابعة هي أن نحب مانقوم به، فإذا كنت لا تحب شيئا فمن الصعب أن تبذل فيه الكثير من الجهد، ولهذا على الإنسان أن يعمل في مجال يحبه، أو يحاول أن يقترب من ذلك فليس من الممكن الحصول دائما على عمل في المجال الذي نريده. النقطة الخامسة وهي الأهم على الاطلاق، هي تقوى الله سبحانه وتعالى، فهي التي تفتح للإنسان كل باب.
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى