اعتبر المصارع إسحاق غيو الإنجازات التي حققتها الرياضة الفردية، خاصة القتالية منها، في دورة وهران 2022 بمثابة رسالة واضحة المضمون، وأكد بأن توفير الظروف المواتية للتحضير سمح برفع التحدي، وتحقيق نتائج فاقت كل التوقعات.

غيو، وفي حوار خص به النصر، أوضح بأن السياسة الجديدة التي أصبحت منتهجة من طرف السلطات العمومية، كانت كافية لميلاد أبطال شرفوا الراية الجزائرية في العرس المتوسطي، واستدل في ذلك بالحصاد المحقق من طرف رياضيين تحدوا ظروفهم الاجتماعية القاسية، وأشهروا سلاح "النيف" والتشبع بالروح الوطنية لإهداء الجزائر ميداليات متوسطية، ليكون الاستقبال الذي خصهم به رئيس الجمهورية في نهاية الأسبوع الفارط، الحافز الذي جعلهم يرفعون عارضة الطموحات عاليا، تحسبا للاستحقاقات القادمة، والرهان يبقى منصبا على ميدالية أولمبية في دورة باريس 2024.
* نستهل هذا الحوار بالاستفسار عن فحوى الدردشة التي كانت لك مع رئيس الجمهورية خلال حفل التكريم المقام على شرف الأبطال نهاية الأسبوع الماضي؟
مبادرة الرئيس تبون تبقى أبرز مكافأة للرياضيين الذين كانوا قد أهدوا الجزائر ميداليات خلال دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط، لأن هذا الحفل جعلنا نحس بالقيمة الفعلية للإنجاز المحقق، مادام الأمر يتعلق بالراية الوطنية، ورفعها عاليا في أحد المحافل الرياضية الدولية، خاصة وأن المسؤول الأول في البلاد قيّم هذه الإنجازات، وهذا أكبر حافز، لأن الرياضة كانت خارج دائرة الاهتمامات، والانشغال كان منصبا على كرة القدم، مع وضع باقي الاختصاصات، سيما الفردية منها، في خانة التهميش، لكن السياسة الجديدة التي أصبحت منتهجة تعتمد على معيار "الاستحقاق"، وذلك من خلال الإلحاح على ضرورة توفير الامكانيات الكفيلة بضمان التحضير في أحسن الظروف لكل من يشرف العلم الوطني، دون الاتخاذ من الاختصاص الرياضي، كمقياس لتقسيم الاعتمادات المالية.

عملت في الأسواق لكن ظروفي الاجتماعية لم تحد من طموحاتي

*لكن هذا لا يعني بأنك لم تبادر إلى طرح الانشغال المتعلق بوضعيتك الاجتماعية القاسية ؟
الحديث عن ظروفي الشخصية كان في ردي عن سؤال وجهه لي الرئيس تبون، عندما سلمني شهادة التكريم، حيث أكد لي بأن الدولة الجزائرية تبقى في خدمة أبطالها، مع العمل على التكفل بانشغالاتهم، وهو ما فسح لي المجال لطرح المشكل العويص الذي أتخبط فيه، لأن حالتي الاجتماعية مزرية، وكل الجزائريين كانوا قد تعاطفوا معي بعد تتويجي بالفضية في دورة وهران، خاصة وأنني أقطن بسكن فوضوي به غرفة واحدة، وذلك منذ وفاة الوالدة في سنة 2017، وهذا الانشغال تم التكفل به على عجل، حيث حظيت أمسية الأحد، بتكريم من طرف والي عنابة، سلمني من خلاله قرار استفادة من سكن اجتماعي، تنفيذا لتوصيات رئيس الجمهورية.
*نفهم من هذا الكلام أن الفضية التي كنت قد أحرزتها بوهران كانت كافية لحل مشاكلك الاجتماعية؟
الميدالية المتوسطية التي أحرزتها كانت ثمار التضحيات الكبيرة التي قمت بها، وتفكيري في هذا التتويج كان بنية المساهمة في إهداء الجزائر ميداليات في دورة ألعاب البحر المتوسط، سيما وأن الطبعة بوهران، دون أن يكون للظروف الاجتماعية القاسية أي انعكاس على ذلك، لأنني كنت قد اخترت منذ الصغر ممارسة المصارعة الإغريقية الرومانية، بسبب تعلقي الكبير بالرياضات القتالية، والكل في عنابة على دراية بالوضعية الاستثنائية التي أعيشها، لكنني كنت دوما أحصر الانشغال في التدريبات المنتظمة، رغم أنني كنت وإلى وقت ليس ببعيد أجمع قوت يومي من العمالة في الأسواق، كما أنني أعيش وحيدا في سكن فوضوي من غرفة واحدة بضاحية سيدي سالم، إلا أن هذه المعاناة لم تكن في يوم ما حاجزا أمامي، لأنني تسلحت بالإرادة وسطرت أهدافا مستقبلية، وبالتالي فإن الوضعية الاجتماعية القاسية كانت من بين العوامل الذي زادت في تحمسي لتحقيق أفضل النتائج، وهنا بودي أن أستغل الفرصة لتوضيح شيء مهم.

14 ثانية فقط كانت كافية لحرماني من الذهب !

*تفضل ... ما هو؟
حفل التكريم الذي أقامه الرئيس تبون على شرف أبطال الدورة المتوسطية، جاء ليكشف عن النظرة الاستشرافية للسلطات العليا للبلاد تجاه الرياضة والرياضيين، وذلك بالتأكيد على أن الدولة تسخر امكانيات معتبرة لكل من هو قادر على تحقيق نتائج تتماشى والطموحات، وهو أمر لم يكن معمولا به في السابق، لأن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن كرة القدم ظلت الرياضة الوحيدة، التي تحظى باهتمام كبير في الجزائر بدليل لغة الملايير التي تبقى متداولة عند الحديث عن رواتب اللاعبين، بينما لا يجد بطل في رياضة أخرى ما يضمن له القوت اليومي، والإنجازات التي تحقق في باقي الاختصاصات لم تكن تمثل أي شيء أمام ما يتحصل عليه أبسط لاعب في كرة القدم، وهذا كله بسبب الاختلال الكبير في الموازين، والذي كان معتمدا في توزيع الإعانات المالية، ولو أن دورة وهران كانت منعرجا حاسما، بتغيير الجزائريين لنظرتهم تجاه الرياضات الفردية، سيما القتالية منها، لأن الاعتقاد السائد مبني على أساس أن هذه الاختصاصات تبقى الخيار الحتمي الذي يلجأ إليه "الفقراء" بعد قطع الطريق أمامهم في كرة القدم، لتكون رسالتنا من العرس المتوسطي بوهران واضحة المضمون، وذلك بالتأكيد على أن الجزائري يتحدى كل العقبات التي تعترضه من أجل رفع الراية الوطنية في أكبر المحافل، مع اتخاذ الظروف الاجتماعية القاسية حافزا إضافيا للبحث عن التتويجات، لأن العديد ممن انتزعوا الميداليات ينحدرون من الجزائر العميقة، ومن بعض المشاتي والقرى، غير أنهم كتبوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجل الرياضة الجزائرية، دون أن يكون الفقر أو عدم التوفر على مسكن عقبة في الطريق نحو النجومية، والنماذج كثيرة ومتعددة، في صورة بطلة الملاكمة إيمان خليف، التي تقطن في إحدى مناطق الظل بولاية تيارت، وكذا زميلي في منتخب المصارعة عبد الكريم أوكالي، إضافة إلى الربّاعة مغنية حمادي وغيرها.
*بالعودة للإنجاز المحقق، هل كنت تتوقع إحراز فضية في دورة وهران؟
مما لا شك فيه، أن تنظيم الدورة بوهران كان الحافز الذي جعل كل رياضي يسارع إلى رفع عارضة الطموحات عاليا، لأن التفكير في عزف النشيد الوطني في دورة بالجزائر، يبقى نقطة الانطلاق في الأهداف المسطرة، وهذا الأمر يحدث حتى في الدورات، وعليه فإنني شخصيا كنت قد راهنت على الظفر بميدالية متوسطية في طبعة وهران، خاصة وأنني كنت قد اكتشفت أجواء العرس المتوسطي في دورة تاراغونا 2018، لما توقفت مغامرتي في ربع النهائي أمام مصارع صربي، لكن تلك المشاركة كانت المنطلق في أهدافي الشخصية، لأنني وضعت بعدها النشاط الرياضي في صدارة الأولويات، وحصرت انشغالي في التدريبات الشاقة، مع التوقف عن العمالة في الأسواق، في قرار كان بمثابة نقطة تحول في حياتي، لأنني رياضي من النخبة، وطموحاتي كانت كبيرة، رغم الظروف الاجتماعية القاسية، ليكون بعدها قرار السلطات العليا للبلاد مواكبا لطموحات الرياضيين الجزائريين، وذلك ببرمجة تربصات إعدادية في الخارج، من أجل التحضير الجيد لدورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي أتاح لنا الفرصة للاحتكاك بمصارعين من المستوى العالي، وذلك في تربصي كرواتيا وأذربيجان، وعليه فإنني دخلت دورة وهران بكثير من التفاؤل بإحراز مقعد فوق "البوديوم".

خضت المنافسة بكسر في الضلع وبطل العالم كان في متناولي

*وبالنظر إلى "السيناريو" الذي سارت عليه المنازلة النهائية فإنك كنت قريبا من التتويج بالذهب؟
ما لا يعلمه الجميع أنني شاركت في ألعاب البحر الأبيض المتوسط الأخيرة، وأنا أعاني من كسر في أحد الأضلاع، لكنني تمسكت بحظوظي في إحراز ميدالية، من خلال إصراري على عدم تفويت الفرصة، لأن هذه التظاهرة تقام مرة كل 4 سنوات، وتنظيمها بوهران أتاح لنا فرصة كبيرة، وعليه فقد تحديت الكسر الذي كنت قد تعرضت له في تربص أذربيجان، وحرمني من العمل في الثلث الأخير من هذا المعسكر، وقد حاولت الاستثمار في الروح المعنوية العالية التي اكتسبناها قبل هذه الدورة، لأن الإقدام على برمجة تربصين بكرواتيا وأذربيجان مكننا من الاحتكاك بمصارعين أوروبيين، من بينهم أبطال العالم، وهذا ما جعلنا نقف على مستوى أعلى، مع كسب الكثير من الثقة في النفس والامكانيات، وقد تجسد ذلك في حصاد منتخب المصارعة الإغريقية في دورة وهران، ولو أنني كنت قد ضيعت فرصة كبيرة للتتويج بالذهب، لأنني وبعد التغلب على المصري عمر عبد الرحمان في نصف النهائي تحمست كثيرا للذهبية، رغم أن منافسي في النهائي كان بطل العالم، التركي مورات فيرات، وقد كنت متفوقا بنتيجة 6 / 0 قبل 14 ثانية من نهاية المنازلة، غير أنني فقدت التركيز في آخر لحظة، لأخسر الرهان بطريقة هيتشكوكية، جعلتني أتحسر كثيرا على تضييع الذهب، إلا أنها بالمقابل تبقى درسا قاسيا لا بد أن أستخلص منه العبر.

لجمهور وهران وجيراني وأحبائي بعنابة دور في نجاحاتي

*وماذا عن اللحظات التاريخية التي كنت قد عشتها في وهران؟
لا أخفي عليكم بأننا تفاجأنا للجمهور الغفير الذي توافد على القاعة لمتابعة منافسات المصارعة الإغريقية، وهي المرة الأولى التي نجري فيها منافسة أمام مدرجات مكتظة عن آخرها، وهذا الأمر لم يبهرنا فقط نحن الجزائريين، بل إن كل المشاركين وفي مختلف الاختصاصات لم يترددوا في الاستفسار عن سر الإقبال الجماهيري القياسي على كل الملاعب والقاعات، والذي جاء مواكبا لما عشناه من لحظات تاريخية في حفل الافتتاح، والذي كان عالميا بكل المقاييس والمواصفات، وبالتالي فإن تلك المحطة ستبقى بكامل فصولها راسخة في الأذهان، ولو أنني لا يمكن أن أنسى المساندة الكبيرة التي كنت قد حظيت بها من طرف آلاف المناصرين في المنازلة النهائية، لأن إنجاز منتخب الكاراتي "سيدات" في اليوم الأول من الدورة فتح شهية الجزائريين، وجعلهم يصوبون اهتماماتهم نحو الرياضات الفردية، لاكتشاف أبطال قادرين على إهداء الرياضة الجزائرية ميداليات متوسطية، وقد صعدت "البوديوم" لاستلام الميدالية الفضية في أجواء خيالية، وسط تشجيعات "خرافية" من الجمهور، ليمتد المشهد إلى مدينة عنابة، أين كان كل جيراني بحي سيدي سالم الشعبي، يتابعون عن كثب منازلتي، قبل أن أحظى باستقبال كبير من طرف الأنصار بمطار رابح بيطاط عند عودتي من وهران، وهذا أهم مكسب بالنسبة لي، لأنني ساهمت في تحقيق إنجاز تاريخي للجزائر.

السلطات بجانبنا وتدعمنا وميدالية في باريس هدفي

*بعد هذا الإنجاز، الأكيد أنك سطرت أهدافا مستقبلية على المديين القصير والمتوسط؟
كما سبق وأن قلت، فإن مبادرة الرئيس تبون تبقى محفزة لكل الرياضيين، خاصة وأنه ألح على ضرورة توفير كل الامكانيات لجميع من يساهم في تشريف الراية الوطنية، وهذا ما كان قد تجسد ميدانيا من خلال برمجة تربصات خارج الوطن عند التحضير للدورة المتوسطية، كما أن رئيس الجمهورية تحدث معنا خلال حفل التكريم عن الظروف التي ستجرى فيها استعداداتنا للاستحقاقات المقبلة، مما سيساعدنا على تسطير البرامج المضبوطة، خاصة وأن الرياضات الفردية تحتاج إلى دورات في الخارج، مع إقامة تربصات في أوروبا، حتى يتسنى لنا بالاحتكاك بالمستوى العالي، وهذا الأمر حتمي وضروري في تظاهرات عالمية، لأن المصارعة الإغريقية الرومانية في إفريقيا بعيدة عن المستوى العالمي، باستثناء الجزائر ومصر، وطموحاتي المستقبلية تنطلق من بطولة العالم المقررة في نهاية العام الجاري بصربيا، قبل التفكير في أولمبياد باريس، لأن التصفيات ستكون منتصف السنة القادمة، ليبقى إحراز ميدالية أولمبية في دورة 2024 الهدف الرئيسي من مشروعي المستقبلي، وهو الحلم الذي يراودني منذ انخراطي في نادي جيل سيبوس للمصارعة في صنف الأشبال قبل عشرية من الزمن.   
حـاوره: صالح فرطــاس

 

الرجوع إلى الأعلى