ما موقع "أدب الخيال العلمي" في خارطة الأدب الجزائري؟، ولماذا معظم الكُتاب يعزفون عن كتابته ولا يغامرون صوبه، ولا يسعون للاشتغال عليه وتطويره وتحقيق مساحة له يتموقع فيها وبفضلها؟. هذا النوع الإبداعي، الذي ازدهر في أوروبا كثيرا (واحتل وحقق مكانة مرموقة بين صنوف الأدب، كما يتصدر أعلى المبيعات ويُستثمر في السينما والمسلسلات وغيرها من الفنون البصرية)، ظل تقريبا نسيا منسيا ومهملا في الجزائر، وتجارب قليلة جدا حاولت الإبداع في هذا المجال، لكنها لم تخض في غماره بما يكفي لأن يتحقق ويكتمل على أرض الكتابة وبشكل كبير ولائق.
أيضا لماذا لم تتبلور صورته بشكل لافت مثل بقية الأجناس الأدبية الأخرى بمختلف تياراتها الفنية؟، وهل الجهود الفردية القليلة في هذا المجال من طرف كُتاب لهم ولعهم وشغفهم بهذا الفن، كفيلة بأن تجعل لهذا النوع من الكتابة والأدب ملمحا وحضورا، وموقعا في خارطة الأدب الجزائري؟.
كُتاب ونقاد، يتحدثون في ندوة "كراس الثقافة" لهذا العدد، عن هذا الشأن، ويشرحون حالة وواقع "أدب الخيال العلمي" في الجزائر، كما يتطرقون لأهم الأسباب التي جعلته مهملا وغير ملتفت له من طرف الكتاب والأدباء، الذين يفضل أغلبهم الاشتغال على مختلف الأجناس والتيارات الأدبية، ولا يقربون هذا التخصص من الكتابة، وهذا النوع من الأدب، لأنهم يرون فيه ترفا زائدا عن حاجتهم الأدبية. رغم أنه كما يقول الناقد والكاتب حبيب مونسي: "بإمكانه أن يقدم مساهمته في إنارة جوانب من الحاضر والمستقبل".

استطلاع/ نوّارة لحــــرش

حبيب مونسي/ كاتب و ناقد
إذا أردنا أن نكتب "أدب الخيال العلمي الصحيح" علينا أولا أن نبعث الاهتمام بالمستقبل
أيُّ نوع من أدب الخيال العلمي الصحيح نحن في حاجة إليه اليوم؟ يبدو لي من خلال قراءاتي في الحقلين الفكري والأدبي أن الإنسان العربي بشكل عام، والجزائري بشكل خاص، لا يحمل أي اهتمام بالمستقبل، ولا يكلف نفسه بناء تصورات عنه، يحاول من خلالها رسم صورة احتمالية لما يمكن أن يكونه المستقبل، استنادا إلى معطيات الحاضر السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، وإنما تسيطر عليه عقيدة الانتظار والفهم السلبي للغيب. ومن ثم لن تجد في مخيال العربي شيئا يمكن أن يكون مدعاة لبناء سرد حكائي يتجاوز خط الحاضر ليطل على المستقبل، على الرغم من أن الدين يحمل في شطر واسع من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، صور هذا المستقبل الذي يجب علينا أن ننظر إليه بتمعن، وأن نستعد له استعدادا ماديا ومعنويا، وإذا أردنا التمثيل فقط وقفنا أمام الأحاديث التي تناولت خبر المسيح الدجال.
ثم قررنا في أنفسنا أن هذا الخبر غيب، وأنه آت لا محالة، وأنه سيشكل تحديا للذات المؤمنة والكافرة على حد سواء. وأن مروره سيكون تحولا جذريا في حياة البشرية كلها، وأن رؤية الناس للحياة والممات والآخرة بعد ذلك، ستتغير بعيدا عن الفلسفات والتخمينات وغيرها مما نعرفه اليوم من ألوان التفكير. هذا الخبر على الرغم من فداحة خطبه، لم يتناوله أحد من الكُتاب أدبيًا، ولم يستثمره في عمل سردي يتجاوز الحاضر ليرتمي به في المستقبل محاولا رصد أحوال الناس في تلك الفترة الحرجة التي يمتحن فيها الناس كلهم جميعا. بل تركنا الخبر في يد رجال الدين يقدمونه باعتباره إشارة من إشارات الساعة، يُرفع على المنابر أو يُسطر في كُتب الوعظ والإرشاد. نحن ندرك اليوم أن البشرية تُساق نحو حكم توتاليتاري متسلط يكون في يد رجل واحد، وأن الحروب الحاصدة على الأبواب، وأن الفتن والقلاقل قد بدأت، وأنها لن تنتهي بصلح أو هدنة، أو غيرها مما يعرف الناس اليوم. وإنما ستنتهي بالحالقة، وأنه من الواجب علينا أن نجلس لنتدارس هذا الخبر في المخابر الإستراتيجية، وفي جلسات الساسة، وفي حلقات التفكير العلمية، لنرسم سيناريوهات المواجهة والاستعداد، وإلا سيعصف بنا الحادث عصفا لن تقوم لنا بعده قائمة.
في إمكان الأدب أن يقوم بهذه المهمة، فينقل الخبر من مجاله الديني إلى المجال الأدبي، ليصنع منه سيناريو يتمتع بالاحتمالية التي تثير اهتمام القراء، وتحفزهم على التفكير العميق في المسألة، لقد كنت منذ مدة أفكر في حديث يتعلق بالفتن، يقول: "سَتُصالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أنْتُمْ وهُمْ عَدُوًّا من ورائِهِمْ، فَتَسْلَمُونَ وتَغْنَمُونَ، ثُمَّ تَنْزِلونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلولٍ فَيَقُومُ رجلٌ مِنَ الرومِ فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ، ويقولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ! فَيَقُومُ إليهِ رجلٌ مِنَ المسلمينَ فَيَقْتُلُهُ، فيغدرُ القومُ، وتَكُونُ المَلاحِمُ، فَيَجْتَمِعُونَ لَكُمْ فيأتونَكُمْ في ثَمانِينَ غَايَةً مع كلِّ غَايَةٍ عشرَةُ آلافٍ. (الراوي: ذو مخبر الحبشي المحدث: الألباني المصدر: صحيح الجامع الجزء. الصفحة 3612 حكم المحدث: صحيح.") وكنت أسأل نفسي متى يكون الصلح؟ وكيف يكون؟ والروم كلمة تدل على الغرب "النيتو، أمريكا، وحلفائها" والعدو الذي يكون من وراء، هم ولا شك "الروس، وإيران، والصين". ثم فجأة، ها هم الروس يتحالفون مع إيران ويدخلون عسكريا إلى سورية، ويضعون أمريكا وإسرائيل والنيتو في حرج وقلق، وخوف. وأن المطامع الروسية لن تتوقف على حدود الشواطئ السورية، وإنما ستتوغل لملاقاة القوات الإيرانية نحو الشرق، وعندما تتعقد المسألة، وتنعدم سبل التواصل بين الشرق والغرب، ويصطلم الصدام. ثم يحدث أن تتصالح ما يسمى بقوى المعارضة السورية ومن يساندها مع الروم، وحينها سيتحقق الحديث الذي بين أيدينا، ويكون الصدام في حرب خاطفة لا تُبقي ولا تذر، تبدأ بعدها الملاحم.
لو كان للعربي أدنى اهتمام بالمستقبل لعكف على مثل هذه الأخبار والأحاديث التي تحقَقَ من صحتها، ينظر فيها بمرآة الحاضر ليبني منها سيناريوهات المستقبل، بناء يبتعد بها عن التكثيف الذي يوجد في الحديث والخبر، إلى البسط الخيالي الذي يمكن أن يؤثث الفراغات التي تصنعها ظلال الأحداث، ومن ثم سيقدم الأدب: أدب الخيال العلمي، مساهمته في إنارة جوانب من الحاضر والمستقبل.
لننظر الآن إلى السينما الغربية كيف تستثمر نصوص الكُتب المقدسة والخرافات وحتى الرسوم الكرتونية القديمة لتعيد بعثها من جديد، غير أننا ونحن نتابع هذه الأفلام فاغرين أفواهنا يفوتنا دوما الالتفات إلى المصادر التي تغترف منها مادتها وتبني منها مخيالها. وكل ما فعلنا نحن أننا توقفنا عند ألف ليلة وليلة، وحكايات شهريار وشهرزاد، ولم نبرحها شبرا واحدا ونحن نعلم أن المخيال الذي نسجها مخيال شرقي مغرق في شرقيته.
لقد قرأت يوما أن المستقبل ليس قضاء حرفي مكتوب، وإنما يستطيع أحدنا أن يغير من هذا المستقبل إذا صمم على ذلك، فقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} "الأنفال: 60" أو: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} "الرعد: 11" فيه إشارة إلى إمكانية تغيير الموازين والنتائج، كما أن الدعاء يرد القضاء، وبين الإعداد، وإرادة التغيير، والدعاء، إشارات رمزية تتدرج من الفعل الذي يؤثر في المادة واستعمالاتها وبين الدعاء/الهدف الذي يصبو إليه المبادر. ومن ثم صار المستقبل شبكة من الإمكانات التي يمكن تحقيق بعضها وتجاوز بعضها الآخر.
فإذا أردنا أن نكتب "أدب الخيال العلمي الصحيح" الذي يساهم في تنوير الحاضر وبناء المستقبل، علينا أولا أن نبعث الاهتمام بالمستقبل في عقول الناس، وأن ننزع منها فكرة الغيبيات التي يجب انتظارها، والمبادرة إلى بناء فكر متوثب يعرف كيف يستفيد من نصوصه الدينية التي أزاحت ستائر الغيب من أمام ناظريه، وكشفت عن المستقبل في دنياه وفي آخرته، فلا أحد ينكر أنه يعرف كل ما سيحدث في القريب العاجل وفي البعيد الآجل إلى غاية أن يدخل أهل النار، النار. وأهل الجنة، الجنة.

نبيل دادوة/ كاتب و ناشر
غيابه عن المشهد الجزائري سببه نقص الاطلاع والجهل بهذا النوع من الأدب
غياب "أدب الخيال العلمي" عن الساحة الأدبية الجزائرية راجع لأسباب كثيرة ومتراكمة تغوص بعضها إلى الامتدادات الفكرية للكاتب العربي والجزائري على وجه الخصوص ورغم وجود أصول لهذا الأدب في الثقافة العربية القديمة والتي يغلب عليها الخيال المجنح المطلق غير المقيد بالعلم. إلا أن ربطه بتطورات العلم جعله "أدب" يتطلب الكثير من الاطلاع وسعة الثقافة وبُعد النظر وتعاطي الفلسفة والأسئلة الكبرى مما يجعله "أدب صعب" يتطلب جهدا أكبر.
ويمكننا أن نقول كذلك أن غياب "أدب الخيال العلمي" عن الأدب الجزائري تحديدا هو نقص الاطلاع والجهل بهذا النوع من الأدب كما يمكن أن نلاحظ إشكالية الواقع والواقعية التي يحاول البعض التدين بها، كما نجد البعض يصنف هذا الأدب في خانة أدب النخبة والترف، ونجد آخر يتهكم فيقول: ليس لبلد متخلف علميًا أن يكتب كُتابه خيالا علميًا. ورغم كل هذا ومنذ مطلع التسعينات بادرنا بالكتابة في هذا  النوع الأدبي وحاولنا التنظير له والتعريف به ضمن مقالات كثيرة عبر الجرائد، كما ترجمنا بعضا من الأعمال العالمية على غرار قصة "الإجابة" لكاتب الخيال العلمي الشهير الأمريكي فردريك براون، كما ترجم كذلك الصديق فيصل الأحمر رواية الدوس هكسلي الخالدة "عالم جديد فاضل".
وقد أدرنا حروبا أدبية حامية الوطيس على صفحات الجرائد وندوات على هامش الملتقيات الأدبية التي كنا نشارك فيها، ورغم كل هذا لم نشعر أننا تقدمنا إلا قليلا وخاصة بعدما أسسنا ناديا أدبيا يحمل اسم "نادي الخيال العلمي" بعدما عرفنا باسم "جماعة الخيال العلمي" وقد تعرضنا للهجاء من طرف بعض الشعراء... هذا النادي الذي ضم أسماء أدبية شابة حاولت معنا الخوض في هذا النوع من الأدب وقد كتبوا فعلا أعمالا عديدة، أذكر منهم: بوكفة زرياب، لمنور مسعودي، ناصر كبير ولحبيب مونسي.
غير أن المرحلة التي كنا نعيشها سواء على المستوى الشخصي أو السياسي أو الأمني حالت دون أن نستطيع المواصلة كفريق، غير أننا واصلنا الكتابة والاهتمام أفرادا، ورغم ظروف النشر التي كانت حينها  تُحيل النشر إلى عملية شبه مستحيلة، فقد استطعنا أن ننشر بعضا من أعمالنا على سبيل المثال، أنا نشرت روايتي "الكلمات الجميلة" مطلع العام 2000. غير أننا وصلنا لقناعة أن مثل هذا المشروع هو مشروع مجتمع ومشروع دولة أو على الأقل المؤسسات الثقافية، وإن للجامعة دورا كبيرا فيه، إنه عليها أولا تدريس "أدب الخيال العلمي" كمقياس في الأدب وفروع الفنون الأخرى وتقريبه وفهم طبيعته حتى يمكن تبنيه وتقديمه للمجتمع كأدب جزائري يواكب مطلع القرن الواحد والعشرين. كما لا أخفي تفاؤلي اليوم، وأنا أدير دارا للنشر تصلها العشرات من الروايات والدراسات، إن الجيل الجديد يحمل بوادر الخير وإنه مؤهل أكثر لحمل هذا النوع من الأدب وخاصة وأنه محاط بتكنولوجيا لم نكن نملكها قبل عشرين سنة وهو متفوق بكثير، لهذا نحن نبادر إلى العودة لــــ:"نادي الخيال العلمي" ونشرع فعلا في وضع كتب تقدم هذا الأدب وتقربه، كما شرعنا أنا والدكتور فيصل الأحمر في تأليف كتاب عن تجربتنا حول "أدب الخيال العلمي" والذي يلخص مجهود عشرين سنة في هذا المجال.
وفي الختام أقول إننا نتحدث اليوم في مؤسساتنا الثقافية الرسمية، عن الاستثمار في الثقافة وعن الثقافة المنتجة وأرى أن "أدب الخيال العلمي" في كل العالم يحقق أكبر الإرادات وأعلى المبيعات وهو أدب يمكن تحويل منتجاته (قصص، روايات..) إلى أفلام ورسوم وألعاب فيديو، أي أنه أصل الكثير من الصناعات المربحة في العالم مثل السينما، برامج التلفزيون، والألعاب والترويج للمنتجات الأخرى.

فيصل الأحمر/ كاتب و مترجم
مشروع الخيال العلمي الجزائري بين الواقع والخيال
في السنوات القليلة الماضية ظهر اهتمام زائد بالخيال العلمي عندنا، فليس هينًا أن يُدعى كاتب هذه الأسطر إلى الجامعات المغربية لتقديم شهادة حول الخيال العلمي، وليس هينًا أن تنشر الدكتورة وسيلة بوسيس دراسة في المغرب عن الأبعاد الفلسفية للخيال العلمي في المغرب العربي، وهام جدا ظهور كِتاب الدكتورة لمياء عيطو من جامعة أم البواقي حول "سرد الخيال العلمي لدى فيصل الأحمر"، مع تسجيل ومناقشة عدة رسائل وأطروحات معمقة في الخيال العلمي، وانتهاء بظهور آخر روايتين باللغة العربية وباللغة الفرنسية: واسيني الأعرج وبوعلام صنصال وكلاهما من الخيال العلمي، وفي هذا الحدث قوي الرمزية دلالة كبيرة على ما لهذا النوع من طاقات تعبيرية ومن إمكانيات للتأمل الفلسفي في الواقع والحياة والتاريخ.
كثير من المعلقين يرجعون شح الكتابات العربية عموما في هذا النوع إلى غياب العلم كمكون عضوي عن حياتنا اليومية، وإن كنت شخصيا أعتقد أن هذا ليس هو السبب، إذ هنالك بيئات ليست شديدة التطور العلمي، أو لا تعرف حياتها اليومية ثراءً علميًا خاصا تطور فيها هذا النوع، والمقصود هو بلدان مثل أميركا اللاتينية وشرق آسيا، والسبب في عرفي هو غياب مشروع حقيقي، وغياب تطلعات أدبية كبرى في بعض البلدان المتخلفة، كما هي حالنا، وأنا أتساءل عن غياب التأليف الفلسفي مثلا، ولا أحد يتساءل عن بلدنا لماذا لا نملك فيلسوفا؟. لا يوجد ولو فيلسوف واحد في الجزائر كلها، وهي ظاهرة تسترعي الانتباه أكثر من شح التأليف الخيالي العلمي، ولا أريد أن أبالغ كثيرا فأقول إننا لا نملك أدبا حقيقيا بعيدا عن الخيال العلمي لكي نتساءل عنه داخل "خ ع". نملك مؤلفين قليلين ونملك عدة أعمال جميلة ولكننا عاجزون عن تشكيل صورة لأدب جزائري ذي خصوصية وذي طابع متفرد، فلولا الصور الفجة للإرهاب ولوقائع القتل والذبح في العشرية السوداء لكنا في حرج كبير من أمرنا.
ما هي الخصوصية الأدبية الجزائرية؟، سؤال محرج ولا إجابة، وقد سبق لبعض الأكاديميين أن تساءل عن الرواية البوليسية وهي نوع هام وشعبي وقادر على التعبير بشكل رهيب، وهي غائبة عنا. كما أطرح السؤال هنا عن الرواية التاريخية، هل يكفي عملان لواسيني وثالث لجيلالي خلاص أن يشكلوا نوعا في الجزائر؟
الأدب يعبر عن حالة القلق البشري وعن مدى التطلعات في مجتمع ما، وإذا تأملنا حجم السكونية والجمود  في حياتنا اليومية نفهم جيدا سبب غياب هذه الأنواع التي هي صعبة ومجدية مقارنة مع الوثائق اليومية الإستعجالية الصحفية التي تصف دون أي عمق تفاصيل يعرفها القاصي قبل الداني والجاهل قبل المتنور، وثائق نتساءل أحيانا عن جدواها، فما فائدة كتابة رواية أخرى عن العشرية السوداء تصف القتل والذبح ومعاناة الناس بسبب الفتنة الدامية؟.
لقد جرنا إلى الخيال العلمي، بعض الزملاء والأصدقاء وأنا، ولع شديد وحلم شباب كبر معنا، حلم أول يقلب الدنيا رأسا على عقب، وهو حلم اكتشفنا أن الساسة هم القادرون على تحقيقه وليس كتاب "خ ع"، حلم كبر مع الإصرار وتحول إلى عدة أعمال جيدة –على ما يبدو- وتحول إلى واقع، ولا بد من الإشارة إلى أن الهرج الكبير الذي كان في سنوات البروباغاندا والترويج لهذا النوع (1991-1997) يجد نفسه تحول إلى عمل عميق وهادئ، عمل ربما لم ينتشر بالقدر الكافي ولكنه عمل ترك أثرا في الثقافة، فظهور أعمال هامة من الخيال العلمي مثل رواية عز الدين ميهوبي الهامة جدا "اعترافات إسكرام" ثم "العربي الأخير" لواسيني وقبلهما رواية "الكلمات الجميلة" لنبيل دادوة و"أمين العلواني" لكاتب هذه السطور –وهي الرواية التي تمت حولها ندوة في جامعة الدار البيضاء بالمغرب- هي محطات لا يمكن المرور بها ببساطة. ويمكننا أيضا أن نشير إلى كاتب راكم أربعة أعمال سردية في هذا النوع هو الكاتب الشاب تقي الدين بوسكين، وأن نذكر أن الكاتب "أحمد منور" قد حصل على جائزة عربية كبيرة بروايته القصيرة للناشئة من الخيال العملي "بائعة الخبز".
يعبر هذا الإصرار الممتد على مدى 25 سنة على إيمان عميق بفكرة أثبتت جدارتها بعيدا عن منطق الكم وقريبا جدا من المنطق الناجع الذي هو منطق الكيف. ومنتظر في عام 2016 ظهور خمسة كتب عن دار الألمعية (اثنان للأستاذ نبيل دادوة واثنان لي وواحد مشترك بيننا) في إطار مشروع جاد للقيام بهذا النوع الذي يفتح الباب للتخييل والفلسفة واسعا.

اليامين بن تومي/ كاتب و ناقد و باحث أكاديمي
رواية "الخيال العلمي" تكاد تكون منعدمة ما عدا بعض المحاولات الفردية
قطعت الرواية الجزائرية شوطا مُهمًا في التجريب في مختلف أشكال الكتابة، لكن رواية "الخيال العلمي" تكاد تكون منعدمة، ما عدا بعض المحاولات الفردية على غرار ما يبذله "فيصل لحمر" في هذا المجال، فلا نكاد نعثر على قليل أو كثير من التجريب في رواية أو قصة "الخيال العلمي"، ويرجع ذلك في تصوري إلى عدة عوامل، نذكر منها أن الرواية الجزائرية كانت تهتم دوما بمناقشة المشاكل الوطنية العميقة، وتعمل على تطبيب الجروح التاريخية للفرد الجزائري مما حدا بها أن تعمل على تصفية إشكاليات ما بعد الكولونيالية.
وبالتالي ليس هناك تجانس عميق بين الرواية وما وصل إليه الإنسان من اكتشافات، لارتباط الرواية الجزائرية بعمقِ المأساة الوطنية سواء في فترة السبعينيات أو فترة الثمانينيات لتدخل الرواية مرحلة الكتابة التسجيلية لأحداث العنف لمرحلة التسعينيات، وبالتالي عملت الأدوار التاريخية المختلفة على مصادرة رواية "الخيال العلمي" التي لم يكن لها ما يدفعها، ناهيك أن فئة الكُتاب الجزائريين تنتمي إلى فئة اجتماعية فقيرة أو متوسطة ليس من اهتماماتها الترف العلمي، بقدر ما كان من اهتماماتها البحث عن الذات وتجاوز مسألة الإرث التاريخي الذي كان يضغط على مسألة الكتابة بشكل عميق.
بالإضافة إلى أن الفرد الجزائري في تكوينه واقعي، ولا يحفل كثيرا بالخيال، نتيجة المعيقات الجوهرية في تركيبة هذه الفردانية التي كانت تتبع للجماعة وتعتمد التقليد في غالب أحوالها، ونادرا ما نجد فردا مبدعا نتيجة التراكم التاريخي الذي حمله هذا الفرد الذي يمج الإبداع ويرى فيه خروجا عن النسق التاريخي والنسق الديني.
ولعل أهم سبب هو توجه دولة ما بعد الاستقلال التي عملت على تعميق البداوة في جميع أشكال الحياة، ليحصل رفض جذري للمدنية في شكل المجتمع الحديث الذي في مقدوره أن يدفع أسئلة الخيال العلمي. وبقيت الرواية حبيسة أسئلة القبيلة والقرية. حالت دون تنامي عميق لأسئلة العالم الحديث.
وعليه يمكنني تلخيص معيقات رواية "الخيال العلمي" في الجزائر إلى عدد من النقاط، منها: الضغط التاريخي ومسألة تصفية الذات من جروحها. عدم وجود تراكم حقيقي في مسألة تحديث المجتمع، ولزومه حالة من التعطل حالت دون تنامي ظاهرة المدنية. تراكم عميق للجروح الوطنية الكبيرة على غرار الأزمة الأمنية عطل تجربة الكتابة في مجال الخيال العلمي لتلج الرواية مرحلة الكتابة التسجيلية. عدم تصفية المنابع التاريخية للبداوة تنامت في شكل منع للنقلة إلى المجتمع الحديث الذي في مقدوره طرح سؤال الخيال العلمي.

خالد ساحلي/ كاتب و روائي
لا نسافر في الزمن لأننا لا نملك خيالا
"أدب الخيال العلمي" ذاك الفن الذي يمزج بين الأدب والعِلم، الثنائية المركبة التي تمنح القارئ الخيال حتى يستشرف المستقبل من الواقع حماية من خلاله أو هروبا منه لأجل معالجته وتنبيهنا إلى ما يترتب عن سلوكات صنعناها والتي قد تدمر الإنسان كذات وتمنح الفناء للبشرية والمعمورة على السواء، في ذات الوقت هو معالجة المستحدث مما تنتجه التقنية والتكنولوجيا والبيولوجيا وكل ما اتصل بالعِلم بصفة شاملة. من أشهر كُتاب هذا الفن الكاتب الفرنسي جول فيرنو والروائي الانجليزي ه.ج. ويلز وكليهما استشرفا المستقبل من خلال الواقع وتحقق بعضه، فالأول من خلال اختراعه لقصة الغواصة النووية والثاني لاختراعه للطاقة الذرية. إنّ "أدب الخيال العلمي" نجح بدرجة كبيرة وبقوة في أوربا، فهل هو محل اهتمام الأدباء في الجزائر والمخرجين والقراء حتى؟.
إن المجتمع الذي يخلو منه التفكير ولا يشجع فيه الاختراع ويسبق فيه الجاهز على المحضٍّر لا ينتشر ولا يتطور فيه الخيال العلمي، ومجتمع فاقد للقراءة لا يمكن أن يزدهر فيه أدبا أصلا، فكيف للكاتب أن يغامر في فن يعلم سلفا أنه سيفشل في واقعه؟ خلقٌ عظيم من الشعب يجهل المصطلحات العلمية والتقنية التي قد تستعمل في كتابة الروايات حتى أن الكاتب ذاته قد تنفلت منه هذه الأخيرة، فالعقل هنا لا يحفّز على الابتكار حتى لشخصيات ولرؤى مستقبلية في ظل عبودية للصورة ولنشرات الأخبار ولدعاية منفرة لكل ما هو إبداعي، فالكثير من المبدعين يقصون من طباعة أعمالهم الجيدة فكيف إذا كتبوا أدبا راقيا يحفز العقل ويفتح مجالا واسعا ومسافات للمخيلة ويطرح عِلمًا وحلولا لما هو قائم من مشكلات أو يفضح ما سينتج من مشكلات؟. إن مجتمعنا محكوم ببيئة الاستيراد والتصدير وبأدب العشيرة والقبيلة والمولاة وبأدب الاستعجال أو بروايات الدم والنار في تاريخنا القديم والحديث وبالروايات الغيبية الفانتازية التي تهرب لا إلى ربط جسر لحل مشكلات أو ابتكارات أو حتى لتحفيز العقل على قبول الواقع العلمي والتكنولوجي والبحث في حيثياته لأجل تطويره بل إلى التستر في حكايات غرائبية متصلة بالتاريخ القديم تقية من المستبد ومن الرقيب.
لقد أخذنا بمنتج الغرب حتى في الثقافة والأدب والفن، وبذلك فنحن قد استنسخنا مصطلحات "أدب الخيال العلمي" فكيف لنا أن نبدع "أدب الخيال العلمي" من خلال بيئتنا التي تحجر العقل وتكبح الخيال في ظل انتصار الأدب السياسي وأدب السجون والحروب والتشرد والغرق، بيئة يهيمن عليها الدليل الديني الخرافي ويدعمه المال العربي. قد يقول قائل التشاؤم يلبس ثياب اعترافنا بغياب شبه كلي لهذا الأدب من الساحة الثقافية والحقيقة أن القارئ يستهويه كِتاب "ألف ليلة وليلة" و"روايات الجن" على أن تستهويه رواية رجل آلي يتكلم ويبحث عن الإنسان ويتحاور ويستعد معه لتحرير وإنقاذ الإنسان من نفسه.

الرجوع إلى الأعلى