كسر للمواضيع الروائية المألوفة في الرواية الجزائرية
تواجه رواية «الحركي» لمحمد بن جبار اللامألوف في وعي القيم التي ربي عليها القارئ الجزائري، الذي قد يأخذه الاستفزاز والصدمة من عنوان الرواية قبل قراءتها، وكأن التهمة الموجهة للكاتب في هذه الرواية هي تبرير عمالة الحركي الذي خان قضيته الثورة التحريرية وانجر عميلا لدى فرنسا.
د. وسيلة سناني
وبعيدا عن الخوض في وظيفة الفن ووظيفة الأدب التي هي ليست أخلاقية في الأصل، ولا تتّبع بالضرورة محصلات القيم الجاهزة، نقول بشيء من التبسيط أننا لا نستطيع الحكم على موقف الكاتب من عنوان روايته، كما علينا أن نعي أيضا أنه لا موقف للكاتب عندما يستنطق عينة لشخصية اجتماعية.
إن هذه المفاجأة التي ألقاها محمد بن جبار على ذهن القارئ البسيط من الوهلة الأولى هي القفزة النوعية التي حققها بصدق الكاتب، وإلا ما معنى الأدب إذا لم يخلق فينا نوعا من التوتر والتأمل والمراجعة.
لذلك فإن رواية «الحركي» هي خروج عن مألوف المواضيع المستهلكة، وبعث للهامش المغيب في صوته المكتوم على مدار أكثر من نصف قرن؛ إذ استطاع محمد بن جبار استنطاق هذا الصوت وإعطائه حق التعبير عن موقفه المحرج، ليس دفاعا عنه ولا إدانة له، بل توصيفا وتفصيلا لكل حيثيات هذا الموقف الذي قد يحدث لأي شخص في رمشة انفعال مصحوبة بإرادة انتقام؛ حيث ترك بن جبار للحركي «أحمد بن شارف» مساحة حكي واسعة، تولى فيها مهمة السرد على طول الرواية، فبنيت الرواية على صوت واحد لا غير، هي مساحة  نهمٍ للكلام لا يمكن أن تشبعه مساحات
صغيرة.
أحمد بن شارف هو الخطاب المهمش وسط الخطابات الأخرى،وصوت الحركي الذي جعله الكاتب مسموعا في هذه الرواية وهو يروي تفاصيل عمله من اللحظة التي قرر فيها الانضمام إلى الجيش الفرنسي، هذه اللحظة هي الشعرة الفاصلة بين الخيانة والشرف. القفز على الشعرة كان سهلا بالنسبة لأحمد بن شارف، هذا القفز يحمل كل مبررات الوقوف في مصف الخيانة التي لم يكن يأبه لها تحت سطوة الرغبة في الانتقام ورفض الظلم، خاصة وأن الظالم هو في الطرف الآخر من قضية الخيانة والشرف.
الظلم الذي جعل أحمد بن شارف يقف في خانة الخيانة كان ممن هو واقع في خانة الشرف، فلا يمكن أن تستسلم لانتقامك وتقف في نفس الخانة التي يقف فيها ظالمك، إذ يبقى تحدي الانتقام في استغلال الحرب القائمة لتصفية الآخر أو الوقوف كعدو أمامه في الكفة الأخرى. لم يكن عم أحمد بن شارف المنضم إلى صفوف ثورة التحرير رحيما بعائلة أخيه وهو ينزع حقهم في ورث الأرض بعد وفاة أخيه، ولا رحيما وهو يتعدى على زوجة أخيه وأولادها ردعا لاحتجاجهم على الظلم. يقول أحمد بن شارف: «انتقمت من عمي كان هو هاجسي، الوطن لم يكن هاجسي» ص: 11 من الرواية، ويقول: «.. لكن الناس لا يعلمون أنه من ضاعت منه قطعة صغيرة من أرضه، قطعة من قلبه وطفولته وشبابه لا تعوضها كل الأراضي ولو كانت بحجم قارة» ص:211 من الرواية.
الثورة التحريرية شرف، لكن المنضمّون إليها فرادى ليسوا بالضرورة في مرتبة واحدة من الشرف في كل مواقفهم، أما العمالة فهي خيانة، ويضيع من يتخذها مطية لأي شيء، لأنها انزلاق لا رجعة فيه مهما كانت مبرراته، وهذا ما أنهى به الكاتب سرد أحمد بن شارف حيث تنتهي الرواية بتكريم للحركي بوسام الشرف من طرف رئيس فرنسا كمتقاعد من الجيش الفرنسي، بعد أن أكمل حياته في فرنسا بعد الاستقلال. ما يعني أنه أوفى الخيانة حقها فأعطته حق وفائه مرتبة الشرف.
رواية محمد بن جبار «الحركي» إضافة نوعية إلى الرواية الجزائرية المعاصرة من حيث طبيعة الموضوع، الذي ابتعد فيه بن جبار عن المواضيع المستهلكة، فموضوع الحركي ليس جديدا فحسب كتيمة كاملة لموضوع رواية؛ بل هو موضوع حساس، وفيه كسر لحاجز فلسفته أمام الخطابات الجاهزة، بعد أن كان من المواضيع التي حُسم نقاشها. في حين أن إعطاء فرصة لصوت ما لا يعني الإخلال بالقيم، فالقيم تفرزها الذوات أيضا قبل أن تكون خطابات موجهة. الاستماع للآخر هو طريق إلى فهم هذه القيم أيضا بطريقة أعمق تنطلق من الآخر ومن الذات معا. وإلا ما معنى أن نقرأ، وما معنى أن نستمع؟
     وإذا أجملنا الجوانب الفنية للرواية فإن بن جبار اختار خطا كلاسيكيا معروفا فلم نتفاجأ كثيرا على مستوى البناء الفني؛ إذ أتى سرده للحكاية مسترسلا عبر سارد واحد أعطاه كامل المساحة في الرواية من بداية أحداث الرواية التي يعود فيها إلى جانفي1960 إلى غاية ماي 1962 أين يرحل إلى فرنسا مع الحركى والفرنسيين في سفينة لافاييت واستقباله في مخيم بورغ الخاص بالحركى ثم إعادة إدماجه في الحياة العسكرية من جديد، إلى أن يصاب بمرض الزهايمر وتضطرب ذاكرته فتساعده الآنسة بوركي على سرد هذه المذكرات.ومن الناحية الموضوعية فإن اختيار هذا الخط في السرد ليس تقصيرا فنيا بل هو مناسب في المجمل لسارد يحكي تفاصيل مذكراته عبر صوت واحد غير منقطع قد يختار فيها ترتيبا مسترسلا، وإذا أجملنا الفني مع المنطقي فإن مريض الزهايمر لا يستطيع خلخلة حكيه وإن فعل فقد شتته وأبعده البناء المنسجم، بل يمكنه ترتيب أحداث قصته ولوكان بشيء من المساعدة والعناء في الذاكرة، فتمثل الكاتب لطبيعة السارد.
رواية «الحركي» صادرة عن منشورات «دار القرن الواحد والعشرين» بالجزائر، وهي من جديد معرض الكتاب بالجزائر لهذا العام، رواية جديرة بالقراءة فيها فسحة لسماع صوت الآخر المغيب؛ وفيها اختلاف وكسر للأنساق المستهلكة بشيء من دهشة القارئ على مدار أحداث كل الرواية.

الرجوع إلى الأعلى