اللّسان كحصان للإيديولوجيا
مرّة أخرى يتجدّد السِجال والصراع اللغوي في الجزائر. فهل يعقل أن يظلّ هذا السجال مطروحا بهذا الشكل الّذي يصل إلى حد تبادل التهم والطعن في الهُوية اللغوية بين المنتصرين للغة العربية والمنتصرين للغة الفرنسية، خاصّة بين نخبة البلد من كُتاب ومثقفين وإعلاميين؟، وهل يعقل أن تظل ظاهرة الصراع اللغوي تتكرر بمناسبة وبغير مناسبة؟. وكيف يُنظر لقضية اللّغة في الجزائر وسِجالاتها وصراعاتها وكذا التباسات الهُوية اللغوية؟.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من النقاد والدكاترة والمترجمين، وقد اختلفت وتباينت الآراء ووجهات النظر. ففي الوقت الّذي يقول الدكتور رابحي أنّ الصراع اللغوي في الجزائر آخذ طريقه إلى الترسّخ في يوميات مواطنيها المثقفين، وأنّه ليس ثمّة من بادرة تلوح في الأفق بإمكانها أن تدل على أنّ السِجال اللغوي سينتهي بإيجاد حلّ نهائيّ قريب يُرضي جميع الأطراف المُتصارعة حول ما تفرزه بواطنُه المُتخفيّةُ في جيوب التاريخ. يرى من جهته، أحمد دلباني، أنّ أسباب الصراع اللغوي تتعلق بخيارات سياسية وثقافية ومواقف فكرية ترجع إلى بدايات بناء الدولة الوطنية عشية الاستقلال. كما يرى أنّ الأسباب -التي أصبحت في حكم الماضي عمليًا- لم تقنع الكثير من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخطاب العدائي التقليدي للغة العربية والّذي لا يرى فيها إلاّ لغة ميتة لا يُمكنها أن تتنفس خارج مناخ المُقدَّس الديني أو السلطة السياسية.  في حين يرى الكاتب والمترجم، بوداود عميّر، أنّ الإشكالية اللغوية في الجزائر، إشكالية عويصة ومُعقدة ومُتشابكة، وليست بتلك البساطة التي قد يعتقدها البعض، وليس مُمكنا تسويتها بإجراء فوقي عن طريق تفضيل لغة على أخرى، ولا بالنوايا الحسنة، أو التعصب. وفي الأخير يؤكد الدكتور محمّد تحريشي على أنّ الواقع اللغوي في الجزائر يطرح أكثر من سؤال والّذي يفضي إلى وضع قد يبدو غير طبيعي ويُنتج خطابا متناقضا قد ينهل من الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، ومن السجال المغلوط الّذي قد يُوظف لغايات مغلوطة.

عبد القادر رابحي: كاتب و ناقد
الصراع اللغوي في الجزائر آخذ طريقه إلى الترسّخ
ليس ثمّة من بادرة تلوح في الأفق بإمكانها أن تدل على أنّ السِجال اللغوي سينتهي بإيجاد حلّ نهائيّ قريب يُرضي جميع الأطراف المُتصارعة حول ما تفرزه بواطنُه المُتخفيّةُ في جيوب التاريخ وفي دواليب السّلط المُتعاقبة من ظواهر هي ما يتركه المُمسِكون بزمام الصراع والمُحرِّكون لخيوطه للمثقفين الحالمين بغدٍ أفضل والحاملين لبطاقات الاشتراك ولعقود المناولة المحدودة الصلاحية التي تؤهلهم للدخول في معركة تجديد الجدل كلّما انتهت الدورة السياسية إلى أفق مسدود أو آلت الدورة الاقتصادية إلى ما تؤول إليه عادة من فراغ وجوديّ ينعكس مباشرة على جيوب العامة التي لا تفقه شيئا في خلفيات ما يحمله المثقفون لبعضهم من ضغينة ومن حقد.كلّ شيء على ما يُرام إذًا.. وليس ثمّة ما يدعو إلى القلق بالنسبة للذين لا يريدون لهذا السجال أن ينتهي لأنّه ينبع من أزمة تستمد جذورها مِمّا تركه الآباء من حصرم في حلق الأبناء المثقفين المُنزوين تحت مظلاّت التخندق في حُفَر الطريق السيّار الّذي رسمّه منظّرو الدولة الوطنية مِنهاجا يقطعه من يأتي بعدهم مُرغما، مُحاولا، في أكثر الحالات وعيا بأبعاد المشكلة، تخطّي الحقول المُلغمة المُستعدة للانفجار في وجهه في أي لحظة.ويبدو، بناءً على ما سبق، أنّ الصراع اللغوي في الجزائر آخذ طريقه إلى الترسّخ في يوميات مواطنيها المثقفين خاصةً بصورة لا يمكنهم أن يعيشوا بعدها عيشة راضيّة من دون أن يقتاتوا من فتاته اللمّاع للبقاء في دائرة الضوء التي تجلب لهم إمكانية التخندق داخل ثنائية (المع والضدّ) ضمن مشاريع تدّعي التحديث ولا تستطيع تحقيقه وأخرى تدّعي التأصيل وهي أبعد ما تكون عنه.
إنّه الكنز الوحيد الثمين المُتبقي بين أيدي المثقفين مِمّا وُرِّثوه بطريقة متعمّدة من طرف مزيِّفي الحقيقة ومُفبْرِكي الأمجاد ومُقاوِلي الأزمات ومُجَدِّدي العهد على التحليق فوق الغمامة المريحة ليتمكنوا من مشاهدة زحمة التاريخ تتجلّى لهم على أرض الواقع فيتصارعون فيما بينهم معتقدين أنّ ذلك سيحولهم إلى أنصاف آلهة يونانية لها حق السبق في توصيل البريد المُتبقي إلى علبة الإله زيوس.
إنّه السجال من علٍ -تماما كما (الجزائر من علٍ)- يبدو جميلا ورائعا وجذابا وتكون فيه الغلبة لمن يملك سِعة النظر إلى اللحظة المُتحكمة في الحِراك وهو يتكوّن في بطن الزوبعة حتى يتمكن من توجيهها وفق ما يمليه عليه مُستخدموه الأعلون فتكون الغلبة عندها لطرف على حساب طرف، ولكن إلى حين لأنّها غلبة مؤقتة على الرغم مِمّا تتركه في نفوس الأجيال الجديدة من تشوّهات مستديمة جراء ما يمكن أن يطرأ على الواقع من تزييف للحقائق، ومن تغيير في المناهج، ومن تحيين لمعارك الشدّ والجذب التي تنتهي مع الوقت إلى نتائج معاكسة لِمَا خطّط له الموظفون الإيديولوجيون وهم يريدون أن يتركوا بصماتهم على الأجيال خلال مرورهم السريع بمنصة الرأي النافذ.
هكذا يترسم السِجال في واقع ثقافيّ جزائريّ يكاد لا يعبأ بِمَا يطرأ على المجتمع من تحوّلات بنيوية جراء التغير الرهيب في الواقع الفكري والثقافي الّذي يشهده العالم على الرغم مِمّا يعانيه، جرّاء تعنّت النُخب المثقفة، من إكراهات نتيجة ما يتعرض له من إملاءات مُتجدّدة وِفقَ ما تقتضيه صعوبة المرحلة التاريخية.لقد أصبحت المُشكلة اللغوية في المجتمعات المابعد كولونيالية سلاح تشتيت للمعرفة الواعية، ومصدر تشويه للذات المُتأصلة، و وسيلة تأكيد للحضور الاستعماري في عمق الذات المُستعمَرة نظرا لِمَا يمكن أن تُحقّقه من إنغراز أليم في عُمق هذه الذات المُثقفة المُستلبة لغوياً. إنّ اللّغة في هذه الحالة هي أداة تخدير و وسيلة إلهاء لهذا المُثقف المُعلّب لأجل إبعادِه عن معركة طرح الأسئلة الجوهرية التي تواجهه بحقيقته الفظيعة أمام المخاطر التي تُحدق بوجوده، وهي المخاطر نفسها التي أدت بالعديد من المجتمعات إلى الوصول إلى مرحلة مُتقدمة من المسخ الوجودي جراء ما تعرضت له من مسخ ألسنيّ. فمن قال إنّ مشكلة الهُوية لم تعُد ذات جدوى بالنظر إلى ما يطرحه راهن الفكر الإنسانويّ من بدائل انفتاح على العالم؟.

بوداود عميّر: كاتب و مترجم
الإشكالية اللغوية معقّدة ولا نمكن حلّها بقرار
في سنة 1992، ثارت ثائرة الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار، وهو يستمع بمضض لمجموعة من المتدخلين أثناء ندوة أدبية أُقيمت بباريس، حول موضوع راهنية الأدب الجزائري وآفاقه، وقد أسهبوا في الحديث عن المؤسسين الأوائل للأدب الجزائري، عن محمد ديب، كاتب ياسين ومولود معمري، وآخرين. عن الأدب الجزائري الناطق باللغة الفرنسية. لا أحد منهم أشار للأدب الجزائري الناطق باللّغة العربية، لم يأتِ ذكره كأدب جزائري على لسان جميع المتدخّلين في الندوة. مباشرة بعد التحاقه بالجزائر، نظم صاحب «اللاز» ندوة صحفية، وأصدر بيانا احتجاجيا، إلى المثقفين والرأي العام، دعا من خلاله، إلى «إعادة فتح ملف أدب الجزائريين المكتوب باللغة الفرنسية، وإعادة النظر فيه، والعمل على تحديد قيمته وجزائريته»، متسائلاً في حسرة: «هل صحيح أنّ الحرب مع فرنسا انتهت؟ الحرب الحضارية لم تنتهِ، إنّ انتشار اللّغة الفرنسية في الجزائر، اتّسع بدرجة كبيرة بعد الاستقلال، مقارنة بِمَا كان عليه الوضع أثناء الوجود الاستعماري»، ثم اختتم بيانه شديد اللهجة، بضرورة تطبيق ما أطلق عليه «الشرط اللغوي للوطنية»، في تقييم انتماء الأدب الجزائري الناطق بلغة أجنبية. ولم يتوقف، فقد أطلق تصريحات نارية، وصلت إلى حد الطعن في هوية وانتماء بعض الكتّاب الجزائريين باللّغة الفرنسية.هكذا فجّر صاحب «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» نقاشا واسعا، تناقلت أصداءه الصُحف الوطنية، وتباينت حوله الآراء، بين راضٍ وساخط، ومؤيد ومعارض، بشكل جعل النقاش يخرج من إطاره العلمي، يغيب عنه الطرح الموضوعي، ويحل محله الطرح الإيديولوجي أو التموقع اللغوي.مسألة اللّغة لم تكن اختيارية، كما يُؤكد ذلك الكاتب الراحل محمد ديب، وهو أحد الكتّاب المُؤسسين للأدب الجزائري الناطق باللّغة الفرنسية، ذلك أنّ الكاتب الجزائري في فترة زمنية «لم يختر طوعاً لغة إبداعه، بل كتب باللّغة الوحيدة التي كانت في متناوله»، ثم يمضي مُبرّرا السياق التاريخي، الّذي دفع أقرانه إلى استخدام الفرنسية، «خلال الفترة الاستعمارية، لم تكن هناك إمكانية لتعلّم اللّغة العربية، ولم يكن أمام الشعب الجزائري خيّار آخر، سوى إرسال أبنائهم، نحو المدارس الاستعمارية لتعلّم الفرنسية، وحتّى اللّغة الفرنسية لم يكن تعلمها مُتاحاً، سوى لقلة قليلة من أبناء الجزائريين».لكن من كان يعتقد جازما أنّ الكتابة بالفرنسية ستتوقف مع سياسة التعريب، ومع بروز جيل جديد لم تُفرض عليه اللّغة الفرنسية قسرا، أخطأ في تصوّره. هكذا برز جيل من أبناء الاستقلال كتب أعمالا باللّغة الفرنسية وتفوّق فيها، ولا تزال تلك الأعمال تحظى بمقروئية تتفوّق في كثير من الأحيان على الأعمال المكتوبة بالعربية.الإشكالية اللغوية في الجزائر، إشكالية عويصة ومُعقدة ومُتشابكة، ليست بتلك البساطة التي قد يعتقدها البعض، وليس مُمكنا تسويتها بإجراء فوقي عن طريق تفضيل لغة على أخرى، ولا بالنوايا الحسنة، أو التعصب. ذلك أنّ ماضي الجزائر وحاضرها وتعدّد ثقافتها وموقعها الجغرافي وأشياء أخرى، تستدعي التعامل بحكمة مع جميع اللغات، والسعي نحو التصالح بينها، بِمَا يخدم الأدب الجزائري عموما. وحدها الكاتبة الشابة الراحلة ديهية لويز، أدركت عُمق المسألة، بعيدا عن السفسطة والجدل العقيم، كتبت باللّغة التي تشعر أنّها ترتاح لها، أو أنّها تعبر بعمق عن اللحظة الراهنة التي تعيشها، أنجزت روايتين باللّغة العربية وأبدعت، وكتبت بالفرنسية والأمازيغية أيضا، وتفوّقت في كتاباتها بتلك اللغات جميعها.

أحمد دلباني: كاتب و مفكر
المسألة اللغوية في الجزائر وصراعها إيديولوجي بالأساس
يبدو لي أنّ المسألة اللغوية في الجزائر وما يُرافقها من صراع علني أحيانا ومُضمَر أحيانا أخرى لا تمثل، في حقيقة الأمر، إلاّ الجزء الظاهر من الجبل الجليدي. فهذا الصراع –فضلا عن أبعاده الهُوياتية الظاهرة المُتعلقة باللّغة– إيديولوجي بالأساس، وهو يتعلق بخيارات سياسية وثقافية ومواقف فكرية ترجع إلى بدايات بناء الدولة الوطنية عشية الاستقلال. فانقسامُ النُخب، يومها، لم يكن انقسامًا لغويًا فحسب وإنّمَا انشقاقا في التصوّر والمرجعيات الإيديولوجية المُرتبطة بالبناء السياسي والاجتماعي. وبالتالي فالأمرُ ليس جديدا على المشهد الثقافي والسياسي الجزائري، ولكن ما يُلفت الانتباه وما يُثير الاستغراب هو دوامُ التشنج الإيديولوجي التقليدي بين موقفين متصادمين ورؤيتين للعالم لا تكادان تلتقيان. ففي حين يرى أنصارُ العربية في حضور اللّغة الفرنسية إرثا كولونياليا ومدخلا ثقافيا أو «حصان طروادة» يضمنُ أبديا تأمين مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية، يرى الفرنكوفونيون الجزائريون، بالمقابل، في اللّغة العربية وتراثها مَعينـًا للأصولية الدينية ومعاداة الحداثة الحقوقية والسياسية والثقافية والتحنط في مناخ القرون الوسطى. هذا الصدامُ، على ما أرى، لم يستطع إلى اليوم تجاوز المُسبَّقات الثقافية والعرقية التي تأسَّس عليها التنابذ بين مكوّنات النُخب الجزائرية منذ عقود. إذ يشهدُ الواقع الجزائري اليوم –ثقافيا وإيديولوجيا– بروز نُخب جزائرية مُعرَّبة تُناضل من أجل سيادة رؤية مُختلفة وغير أصولية للأشياء. وهي نُخبٌ –أحسبني أنتمي إليها- مُنفتحة على مُنجزات العقل الحديث ومُشكِلات العصر وقضايا التحديث ولا تعوّل على ارتباط العربية بالمقدَّس الدينيّ من أجل إنقاذها. بينما لا يزال الكثير من الكُتاب الفرانكوفونيين عندنا يُعيدون علينا بصورةٍ مُملة جدا تلك الغنائية المُبتذلة -المُتحدرة من محمد ديب أو كاتب ياسين وصولا إلى لحظة كمال داود- والتي تعتبرُ اللّغة العربية «لاتينية» أخرى نُطيل أمدَ حضورها بيننا.ما أردت أن أشيرَ إليه هو أنّ نبرتي التخوين من جهةٍ أولى والاستعلاء من جهةٍ أخرى لا تزالان تحكمان العلاقة بين المُعسكرين اللذين يبدو أنّ بينهما -كما يُعبر البروفيسور محمد أركون- «جدار برلين» إيديولوجيًا لم يجد من يُهدمه كي يتمَّ تجاوز هذه الثنائية اللغوية التي تمزق الوعي الجزائري وتشطره بصورةٍ دائمة إلى شطرين. ويبدو لي أنّ أسباب الصراع اللغوي -التي أصبحت في حكم الماضي عمليًا- لم تقنع الكثير من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخطاب العدائي التقليدي للغة العربية والّذي لا يرى فيها إلاّ لغة ميتة لا يُمكنها أن تتنفس خارج مناخ المُقدَّس الديني أو السلطة السياسية الرجعية الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت رهان المُستقبل بفشلها على جميع المستويات. كأنّ العربية منذورة -منذ البداية- لعناق الأبدية ومشلولة أمام مدّ اليد إلى تفاحة السقوط في منافي المغامرات التاريخية. ولكنّني أعتقد أنّ راهن العربية منذ أكثر من قرن من الزمان –عبر امتداد العالم العربي- يُبيّن بجلاء قدرتها الإبداعية العالية واحتضانها المُدهش لإيقاع التحوّل إبداعيًا وفكريًا.ليست العربية سببًا لتخلفنا كما أنّ الفرنسية ليست مجالا للتقدم في أي مجال. اللّغة، أي لغة، قبل أن تكون سببًا للتراجع هي، أولا، نتيجة له. إنّ تراجع العربية وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في حضن المُطلق والماضي يرجع إلى انسحاب العقل العربي –الإسلامي لأسباب عديدة من مغامراته المُدهشة في اكتناه العالم والوجود قبل قرون خلت ولا يرجع إليها باعتبارها لغة. أعتقد أنّ هذا من تحصيل الحاصل. ولكن الموقف الإيديولوجي لخصوم العربية لا يرى ملامحَ الحداثة في عقل فولتير وإنّما في لغته. كأنّ التقدم الحضاري يرتبط باللّغة لا بالعقل المبدع. كما أجدني، هنا أيضا، مُلزما بالإشارة إلى أنّ قضية اللّغة في العُمق ليست قضية بحثٍ عن وسيلة أو آلة لــ»التقدم» وإنّما هي قضية هُوية وإفصاح عن الحضور المُتميز في العالم. اللّغة ليست أداة تواصل فحسب وإنّما هي ذاكرة وانتماء ثقافي وحضاري أيضا. إنّها بيتٌ يضجُ بأصداء الذات الجماعية ورموزها وحكاية إفاقتها على حادثة الوجود في بيت التاريخ. لذا أرى من السُخف أن نتناول اللّغة العربية في الجزائر من منظور التقدم والتخلف كما يتناولها الفرانكوفونيون عندنا. هذا تناول شديد السطحية. الكاتب الحق يكتب بلغته الأم ولا يكتب بلغة مُستعارة بحثـــًـا عن الحظوة في الأكاديمية الفرنسية. ومن جهةٍ أخرى يُمكننا أن نُلاحظ أنّ الإبداع ليس ارتماء في أحضان الآخرين بتبني لغاتهم ومشكلاتهم أو بمحاولة تسلية الغرب بصور «غرائبية» عن الآخر، وإنّما بمجابهة الذات التاريخية الموروثة وامتداداتها الثقافية والمؤسَّسية. الإبداع والتجديد انسلاخ جدليّ عن الذات التاريخية المُستنفدة واحتضانٌ لا ينتهي لصبوات الإنسان العميقة.أعتقد أنّ الهُوية الوطنية ستبقى تعاني، بصورةٍ مُوجعة، من الانشطار اللغوي الّذي يعني -في العمق– انشطار الذاكرة والانتماء الثقافي والحضاري ما دمنا لم نتجاوز، بعدُ، الصراع الإيديولوجي الموروث عن العهد الكولونيالي يوم كانت الفرنسية علامة على التمايز الاجتماعي والثقافي ويوم كانت العربية ملجأ وحصنا أمام جرافة التاريخ الّذي لا يرحم. لقد ورث الفرانكوفوني الجزائري هذه المسافة مع الشعب الجزائري وثقافته، ووجد نفسَه مُنخرطا في التعالي عن «الأهالي» الذين لا يُمكن مخاطبتهم بلغتهم الأم وهذا من دون أن يفعل شيئا. كما ورث المُعرَّب التقليدي نوعًا من الطمأنينة الزائفة التي توهمُه بحصانة اللّغة العربية أبديا باعتبارها لغة السّماء. سأبقى، شخصيا، على اعتقادي بحرية اختيار الكاتب للغة التي يُفصحُ بها عن نفسه ولكنّني أعتقدُ أيضا أنّ الإفصاحَ عن الهُوية لا يمكن أن يتمَّ بأعين إستشراقية. هذه، على ما أرى، الحال الإشكالية التي أشار إليها «إدوارد سعيد» في مقدمة كتابه الأشهر «الإستشراق» وهو يتحدثُ عن «فلوبير والغانية المصرية كشك هانم». أو كما هي الحال، إن شئنا، مع مدينة «بسكرة» التي تحدث عنها «أندري جيد».

محمد تحريشي: ناقد و باحث
سجال مغلوط يوظّف لغايات مغلوطة
إنّ الواقع اللغوي في الجزائر يطرح أكثر من سؤال والّذي يفضي إلى وضع قد يبدو غير طبيعي ويُنتج خطابا متناقضا قد ينهل من الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، ونوع من السجال المغلوط الّذي قد يُوظف لغايات مغلوطة. إنّ التعدّد اللساني هو عنصر ثراء للممارسة اللغوية ولا يجب أن يكون عنصرا مُعرقلا للعملية التواصلية بين أفراد المجتمع في الجزائر، ولا أن يؤدي إلى استعمال العامية سبيلا وسطا للتقريب بين اللغات المُستعملة في الجزائر بكلّ تنوعها بين لغة أمّ ولغة رسمية ولغة وطنية وأخرى عالمة وما تحمله من مضامين ومعارف.إنّ مسألة التداخل بين اللغات في الجزائر تُـتناول من عدة جوانب، فهناك التداخل بين العربية والفرنسية من جهة، وبين العربية وغيرها من اللهجات والعاميات من جهة أخرى، وتداخل بين الأمازيغية والعربية والفرنسية من جهة ثالثة، ومن ثمّ تُطرح كلغة وسيطة وبديلة لذلك العنت والتعصب خوفا من أن تقضي لغة على لغة أخرى على الرغم من أنّ اللغات تعمل بمبدأ الاقتراض اللغوي فيما بينها.إنّ الجانب القانوني قد يكون الحل لهذا السِجال المُتعاكس إن نحن استطعنا أن نُشَّرِع لهذا الواقع اللغوي المتعدّد لسانيًا، ومدى قدرتنا على تفعيل ترسانة القوانين التي نُشرِع لها في الدستور وفي مُمارستنا اللغوية اليومية، فكيف لا نعترف باللّغة الفرنسية مع أنّها في الواقع لغة تواصل في المجتمع الجزائري وهي لغة عالمة إذ الكثير من المعارف والمكتسبات والخبرات تنقل بوساطتها، وكيف نُشرِع للغة العربية كلّ التشريع وتبقى هذه اللّغة حبيسة الكتاتيب ومؤسسات التعليم في المراحل الأولى؟ وهل يمكن الحديث عن فخامة لغوية وحقارة لغوية؟إنّ تلمس الأسباب قد يفضي بنا إلى تِعداد الكثير منها فبعضها يتعلّق بالنظام التعليمي في الجزائر والّذي لم يستطع أن يواكب الواقع اللغوي في الجزائر فأنتج نِظاما تعليميًا مزدوّج اللّغة بحسب المراحل والتخصصات مِمَا قوى عمليات التسرّب المدرسيّ إن لم نقل التخلص من التلاميذ في كلّ مرحلة تعليمية قد تتجاوز 45% من إجمالي عدد التلاميذ، ويُضاف إلى ما تقدم التباين في استعمال الفرنسية بين الجزائريين في المُدن الكبرى والمُدن الداخلية وخاصّة مُدن الجنوب.
طرح هذا السِجال الفكري واللغوي من جهة والإيديولوجي والسياسي من جهة أخرى جهازا مفاهيميا يدل على ذلك البلبال والتخبط، فألفينا الحديث عن التهجين اللغوي، والتعدّد اللساني والصراع اللغوي، والهيمنة اللغوية، وتدرجنا بعد ذلك في رصد الممارسات اللغوية وتزكيتها بين الوطنية والمحلية والعامية والدارجة والفصحى، ولغة الأكثرية ولغة الأقلية وعلى أي أساس تحدّد، والحديث عن الحقوق اللغوية والمكاسب التواصلية، مِمَا يؤدي إلى نوع من التداخل قد يُوّلِد صراعًا ثقافيًا قد يرقى إلى جوانب اقتصادية لَمَا تصبح اللّغة سوقا.قد يبدو الصراع داخليًا ولكنّه في حقيقة الأمر حصل لتضافر عناصر خارجية في عِدة مستويات تاريخية من فتح أو استعمار أو تهجير وهجرة، ومِن ثمّ يسعى كلّ تجمع سكاني للمحافظة على مكاسبه وهويته وخصوصيته من الذوبان. ويمكن النظر إلى المسألة من زاوية أخرى من حيث استعمال خاصية الكُثرة أو القِلة في إثبات هيمنة لغة على أخرى، إلاّ أنّنا قد نعتمد خاصية أخرى وهي الفعّالية والاستعمال والقدرة على التواصل في إثبات مدى قدرة لغة ما في الوجود وفي الاستمرار، وينضاف إلى ما تقدم القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للناطقين بها وللناطقين بغيرها.

الرجوع إلى الأعلى