في السنوات الماضية طفت على المشهد الأدبيّ/الثقافيّ العربيّ أسئلة حول ظاهرة هجرة الشعراء إلى الرّواية. وفي الآونة الأخيرة تغيّرت دفة/نغمة الأسئلة واتجهت إلى النقاد لتصبح لماذا يهاجر النقاد إلى الرّواية؟ لماذا هذه الهجرة من أسماء نقدية عربية كثيرة باتجاه الرّواية؟ هل هي سطوة الرّواية وحظوتها في المحافل العربيّة، خاصة محافل التتويجات والجوائز والتكريمات والترجمات أم أنّ الناقد الّذي يمتلك أدوات النقد والتشريح الأدبيّ يتصوّر أنّه بأدواته النقديّة يمكنه أن يكتب الرّواية ويبدع فيها وربّما أكثر من الروائي وأهل السرد؟ هناك نقاد زاوجوا من البداية بين النقد والّرواية وكتبوا فيهما معا.
استطلاع/نـوّارة لـحـرش
لكن هناك الكثير من النقاد الذين ظلوا طوال حياتهم يمارسون الكتابة النقدية فقط، لكن فجأة اتجهوا إلى كتابة الرّواية. وهذا ما أصبح يثير الأسئلة وأيضا الانتباه للظاهرة. حول هذا الشأن «ظاهرة هجرة النقاد إلى الرّواية»، يتحدث في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، بعض الكُتاب والنقاد من الجزائر ومن بلدان عربية مختلفة.
آمنة بلعلى/ باحثة وناقدة أكاديمية
انفتاح الرواية والنزوع الإنساني إلى الحكي
كانت الرّواية ولا تزال، الجنس الأدبي الوحيد القادر على احتواء أنماط خطابية ولغوية متعدّدة، فهي تأخذ من جميع الأشكال التعبيرية، وتستوعب تحولات الأنساق وتلتقي مع التاريخ والأسطورة، والملحمة وتتغذى من الشّعر والسيرة الذاتية ومن الخيال العلمي، وغير ذلك. ولعلّ هذا الأمر يؤهلها لكي تكون جنسا مشاعا بين الناس. والمُتأمل في التاريخ الروائي يلقي أنّ أغلب الروائيين دخلوا إلى كتابة الرّواية من خارج الأدب كالفلسفة والطب ومختلف العلوم.
لازم النقد الرّواية واستنبط منها المفاهيم التي أسست لعلم السرد الحديث، ونظريات الرّواية التي ساهمت بدورها في تجديد طُرق الاشتغال، وتطوير الجنس الروائي، لذلك ليس غريبا أن نجد النُقاد ينخرطون في كتابة الرّواية في الوقت الّذي يفكرون في طرق مقارباتها ويفتحون منافذ جديدة أمام الرّواية لكي تُصبح اليوم ملجأ يهاجرون إليه.
هناك أسباب ظاهرة تفسر هجرة النقاد إلى الرّواية، بعضها موضوعي والآخر ذاتي. يعزى الأوّل إلى طبيعة الرّواية ذاتها، والمُتعلقة بانفتاحها وقدرتها على احتواء جميع أشكال التعبير، وكذلك لارتباطها بالواقع واليومي وتفاصيل الحياة اليوميّة وتتبع الأخبار وكلّ هذا مرتبط بفطرة الحكي المجبول عليها الإنسان.
ابتعادها عن الجدل الّذي دار حول الحداثة في علاقتها بالتراث، الأمر الّذي سمح لها بالانتشار دون أن يتخاصم عليها النُقاد، فتقدمت دون مشكلات كالتي تعرّض لها الشّعر الّذي لا يزال يتخبط في مشكلتي الخيانة والتحديث الأبديتين. وجود وعي أبستمولوجي بالظاهرة الروائية، واكب تطورها، تجلّى في النظريات والمناهج التي هي موضوع النقد، وقد ارتبط الوعي بسؤال الشكل أكثر من سؤال المعنى الّذي ساهم في عزلة الشّعر وهجرانه.
جنوح الرّواية لأن تصبح صناعة وبحثا يُرتّب له بمنهجية البحث العلمي من جمع للمادة وتبويبها، وطريقة توزيعها، الأمر الّذي شكّل انطباعا لدى النقاد أنّهم قادرون على حسن تدبير النص الروائي أفضل من الروائيين.
الدور الّذي لعبه النُقاد الروائيون ذوي الاتجاه اليساري في توجيه الاهتمام بالرّواية، فقد كان الزمن الإيديولوجي في الجزائر وغيرها من الدول العربية، مُؤثثا بالمشروع المجتمعي القائم على تبني الفكر اليساري وقد تحمّس له المثقفون، وانخرطوا فيه، وكانت الرّواية مصدرا مُهمًا ووسيلة من وسائل ذلك الانخراط والانفتاح على الواقع.
دور الدراسات الأنثروبولوجية المُرتبطة بالحكاية الشعبية، التي أوحت إلى بعض النُقاد بإمكانية الخوض في كتابة الرّواية باستلهام الحكاية الشعبية. خدمة النقد للرّواية وما انجر عنه من علاقة حميمية بين النُقاد والرّواية، نظرا للاشتغال عليها، والتعرف على منطقها وأساليب سردها وكيف تُبنى الشخصيات فيها والفضاءات التي تؤطرها.
أمّا الأسباب التي نعتقد أنّها ذاتية، فتتعلق بالنقاد أنفسهم، حيث لا يزال النُقاد يعتقدون أنّ الأفضل هو ما يَرِد من الضفة الأخرى.
السعي إلى تسجيل الموقف من نمط معين، واعتبار الكتابة فيه بمثابة تسجيل السبق النقدي، مثلما هو الحال على سبيل المثال في رواية الخيال العلمي، أو الرّواية ذات البعد النفسي. إشكالية المقروئية بالنسبة للنقد، فالنقد لا يلقى الاهتمام نفسه الّذي تلقاه الرّواية، ولذلك يجعل بعض النُقاد من الرّواية مطية للتوجّه إلى القارئ، وتحقيق الرغبة في كسب الأتباع. هيمنة التجارب الجديدة في مجال كتابة الرّواية التي خلقت تنافسا سرديا يُحقق طموحات الكثير من المثقفين ومن بينهم النقاد، إضافة إلى ثورة التكنولوجيات الجديدة التي وفرت قنوات جديدة للبحث عن سُبل جديدة للإبداع من أجل إثبات الذات، أمام ما يُقدم من إغراءات مادية ومعنوية تُقام لها الملتقيات، والمسابقات والجوائز.
إنّ هذه الأسباب الموضوعية والذاتية في حقيقة الأمر، ما هي إلاّ تبريرات، قد تنسف كاملة، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ الحكي هو أقرب الفنون إلى حياة الإنسان، ولذلك تبدو الرّواية في كثير من الأحيان مثل لعبة يمكن أن تخلق تمثيلات لحياة الإنسان في عالم غير الّذي يحيا فيه، فغالبا ما ينهي الإنسان حياته بكتابة رواية، أو يموت حالمًا بكتابة قصة حياته، لأنّ هناك ما يشبه النزوع الكوني بجعل كلّ واحد منا يحكي روايته.

محمد الأمين بحري/ كاتب وناقد
فئة يسيرة جداً من النُقاد نجحت في الإبداع
يبدأ الإبداع بحلم وينتهي بواقع، قد يرفع صاحبه أو ينزل به، وفي هذه الخصيصة لا يختلف مبدع عن آخر مهما كان مجال تخصصه أو وظيفته في الواقع. ولأنّ النقد مجال معرفي وإبداعي معاً، فإنّ الإشكال بالنسبة لمن أراد أن يكتب عملاً سرديا من ممارسي النقد، لا يكمن في النقد كممارسة قارئة ومُحلِلة للنصوص، ولا في الإبداع السردي كفن للتخييل، وإنّما في منطقة ثالثة؛ هي القدرة على الفصل بين الذاتين: الذات المعيارية التقنية بكلّ ما تحمله من أجهزة معرفية ومنظورات وآليات ومفاهيم نقدية من جهة، ومن جهة ثانية الذات الإبداعية المتحرّرة من أي قيد خارجي سوى رهانها الفني، وهواجسها المُتسلطة على الذهن، وعوالمها التخييلية المحضة.
وهكذا فإنّ العجز الواضح في النصوص الإبداعية لكثير من النقاد والأكاديميين، يكشف للقارئ بجلاء:  سطوة الرقابة النقدية عن المنجز الإبداعي السردي، وذلك حين يمسخ روح العمل الفني فيه، ويُلقي عليه صرامة بنيوية ووصفية فيبدو كاللائحة المُعبرة عن وجهة نظر أو إيديولوجية تبتغي الإقناع والتوجيه، هي أقرب من روح البيان أو اللائحة منها إلى الفن والإبداع المتحرّر. وغالبا ما يُلاحظ القارئ تفاصل اللوحات السردية لدى الناقد الروائي، لأنّ كلّ منها مبنية على عين الرقيب النقدي ووصايته، لا بعين المبدع التي لا تلقي بالاً إلاّ للمعنى الّذي عادة ما يرسمه اللاوعي في غياب كلي عن العالم مُتبعاً أرنب آليس، ولا يرسو إلاّ حيث يسكن اضطرابه وتطوح به الفكرة ومجاهليها.
بينما سيسقط المُنجز الإبداعي للناقد في الماء بلا ريب، إذا عجز عن التخلص من صولجان القديس المُحمل بترسانة المفاهيم والآليات، والتصنيفات والمعايير، وحدود التجنيس والهالات النظرية التي تُرافق عمله. لأنّ تلك الآليات التي أعطت لعمله النقدي روحه ومعناه، هي نفسها التي ستُفقد المُنجز الإبداعي (السردي) معناه، إن ظلّت تُمارس سلطانها على ذهنه. وهي المنظومة التي يعتقد بأنّه قد تخلص منها، بينما تظل ترقب عمله من وراء حجاب.
لكن في مسألة العجز عن الفصل بين الأقانيم النقدية والإبداعية فروق واستثناءات عِدة، يجب أن نضعها في الحسبان. إذ إنّ فئة يسيرة جداً من النُقاد يمكن أن تُعد على أصابع اليد الواحدة في كلّ بلد، تجدها قد نجحت في أعمالها الإبداعية السردية، في صورة إميل زولا وبلزاك في بواكير الرّواية الفرنسية، وألان روب غرييه وناتالي ساروت في الرّواية الفرنسية الجديدة، وفي إيطاليا أمبرتو إيكو، وفي بريطانيا كولن ولسون، أمّا في العالم العربي فيمكن أن نجد ميرال الطحاوي في مصر، وشكري المبخوت في تونس ومحمد برادة وبنسالم حميش في المغرب، وفي الجزائر لم أجد من نجح من النُقاد في الكتابة السرديّة سوى السعيد بوطاجين. أمّا البقية؛ فأعتقد بأنّهم قد ألحقوا الضرر بسيرهم ومسيراتهم الشخصية، إذ لم تكن مجمل أعمالهم لتضاهي قيمة ما يكتبه روائي ناشئ، في صورة عبد الوهاب عيساوي أو الصدّيق حاج أحمد الزيواني، شهرزاد زاغز على سبيل التمثيل لا الحصر.
ولعلّ العلة تكمن في طبيعة تكوين العقل العربي العاجز في كلّ الأحوال عن الفصل بين مجالاته الحياتية، وميداينه الإبداعية والمعرفية، عكس الإنسان الأوربي الّذي تتناقض لحظات عيشه وممارساته المهنية والإبداعية، عند ممارسة أي نشاط. وقد أثبت على مدى تاريخه الثقافي والحضاري، قدرته العجيبة على فصل ميادين حياته واشتغاله، حتى ليبدو عند انتقاله من حياة إلى أخرى ومن ممارسة إلى أخرى؛ إنساناً جديدًا لم نعرفه من قبل. وأحسب أنّ المعايشة الفعلية للشعوب وثقافاتها، لها بالغ الأثر على صناعة القدرات الذهنية واشتغالها في حياة نُقادنا الروائيين، وإكسابهم قدرات احترافية على الفصل بين شخصياتهم المُتعدّدة عند كلّ ممارسة أو نشاط.
ولعلّ من نجح منهم في الفصل بين حياته الإبداعية ومارسته النقدية، هي تلك الفئة التي عاشت فترة من حياتها في الغرب، وعرفت معنى أن يفصل الإنسان بين ميادين حياته ومجالات معارفه والانتقال بين خصوصيات شخصياته وفق كلّ مرحلة ونشاط. ولنا من الأمثلة الجليّة المصرية ميرال الطحاوي والجزائري السعيد بوطاجين، ممن أراهم قد فصلوا باحترافية كبيرة بين الشخصية الأكاديمية المُهيكلة نقدياً، حيث يمسك القسيس بصولجان المفاهيم ومعيارية التحليل، فنقرأ في عمله النقدي رصانة التفكيك وموضوعية النقد، وبين الشخصية المبدعة التي يُطلق فيها العنان لـ:آليس كي تطارد أرانبها دون مبالاة بما يحصل في الخارج.. إنّه صنف من الكُتاب أوتي القدرة على فصم عالمي النقد والإبداع السردي باحتراف، فنجح في المجالين.

محمد معتصم/ ناقد أدبي مغربي
استحواذ المتخيل السردي على أهم الجوائز العربيّة وراء الهجرة
هل يمكن اعتماد مقولة «زمن الرّواية!» كمهيمنة في سياق الحديث عن هجرة الشعراء والقصاصين نحو المتخيل الروائي؟
إنّ انتقال القصاصين نحو المتخيل الروائي مقبول وممكن جدا، لأنّ الانتقال يكون في نوع إبداعي واحد، هو: «السرد». بينما الشّعر، ومهما تحرّر من قيود الإيقاع الخارجي سيظل مرتبطا بالإيقاعات الداخلية وبأكثر الوجوه البلاغية هيمنة واستعمالا في اللّغة الشّعرية، كالصور الشّعرية والانزياح عن أساليب التعبير (النثرية)، لذلك أضاف الشعراء إلى لغة السرد اللّغة الشّعرية والتدفق السردي باستعمال لغة الحلم والمونولوج. فكانت هذه الهجرة مُثمرة في حال توفر الشاعر المُهاجر على القدرة على السرد والتخيّل والإبداع في آن، كما أغنى القصاصون المتون السردية بتعدّد التركيب على مستوى المحكيات، فابتدعوا السرد المُركب حيث نجد في المُتخيل الروائي الواحد مثلا، عددا من المحكيات المتجاورة أو المتداخلة التي غيرت في شكل بناء السرد...
أمّا هجرة النقاد إلى الرّواية، فلها دوافع مختلفة، ومنها: العودة إلى الإبداع والتخييل السردي بعد فترة من الانقطاع، وهي غالبا فترات الدراسة والتحصيل العلمي، أو فترة التدريس والانغماس في فهم المناهج والنظريات النقدية الحديثة التي غزت الغرب منذ الشكلانيين الروس والبنيوية بفروعها وامتداداتها والتحليل السيميائي للسرد إلى التداولية والتفكيكية والتأويلية وتحليل الخطاب والتحليل النصي أو نحو النص... فانخرط النُقاد في هذه التجربة منذ بدايتها حتى فترة انسحاب بعض الرواد والهجرة بدورهم نحو الدرس الفلسفي أو السياسي أو التاريخي وإطلاقهم دعوة «موت الأدب». فتوقف الاجتهاد مع هجرة النقاد الغربيين. أيضا استحواذ المُتخيل السردي (الرّواية) على أهم الجوائز العربيّة، لما يمنح ذلك الكاتب من انتشار وشهرة ومورد مالي، كما يفتح أمامه الباب نحو المشاركة في أعمال اللجان المُحكمة بصفته ناقدا من جهة وبصفته روائيا من جهة ثانية، كما يفتح له، في حال فوزه بإحدى الجوائز، إمكانية الإقامة الدائمة في صفحات بعض المجلات التي تُسوق سلعتها اعتمادا على الأسماء المُكرسة والرنانة.
ومن جهة اعتقاد الناقد بأنّ حيازته الثقافة النقدية وتمرسه على تحليل النصوص وتدريسها كمعرفة علمية وأدبية بأنّه قادر على كتابة الرّواية، مُوظِفا الحيل السردية الشكلانية أو إعادة إنتاج نماذج سردية عالمية عربيا بنسخه للموضوعة ومسخه الصيغة الكتابية، أو العكس. أو استناده على مقولة مارت روبيرت «بأنّ الرّواية خطاب مُنفتح على كلّ أشكال الخطاب» ويمكن للرّواية أن تتحوّل إلى «كولاج» تشكيلي تحت مُسمى الحداثة السردية أو إنتاج نصوص سردية تنهض على فكرة تدمير النمط (النمطية) وتكسير السرد (السردية).
والحقيقة أنّ الاهتمام الّذي لاقته الرّواية في العصر الحالي، عربيا، أغرى حتى كُتابا كان اهتمامهم العلمي والتدريسي والكتابي مرتبطا بالفكر والفلسفة (العربيّة والغربيّة) فكتب محمد عابد الجابري سيرته الذاتية «حفريات في الذاكرة» وكتب عبد الله العروي عددا من الروايات التي ارتبطت بأفق تفكيره منذ «الغربة» و»اليتيم» حتى المذكرات. وكذلك فعل سعيد بنسعيد العلوي في روايته «مسك الليل» وروايته الجديدة «سبع ليالٍ وثمانية أيّام» وقبلهم كتب محمد عزيز لحبابي «إكسير الحياة» وعبد الكبير الخطيبي سيرته الذاتية بالفرنسية «الذاكرة الموشومة»، ثم عبد الإله بلقزيز وعبد الله الساعف وكتب عبد الحي المودن روايته الأولى «فراق في طنجة»... وهؤلاء المفكرون من النُقاد كذلك.
وهمْ حجر أساس لهجرة النُقاد نحو الرّواية، لكن نقادا يتسلحون بأدوات التحليل ونظريات النقد دون إغفالهم الطبيعة الجوهرية للرّواية: السرد والتخييل والبناء. فكلّ عمل روائي هو في أساسه تخييل وإبداع، وهو كذلك نص سردي ووصفي، ثم بناء لعالم مُتخيل سواء أكانت مرجعيته واقعية أو تركيب يمزج بين الخيال والحقيقة، والأهم أنّ الرّواية لغة.
ويمكننا تقديم الناقد الروائي محمد برادة نموذجا لهذا النوع من الهجرة نحو التخييل السردي. لقد سبق للكاتب أن كتب القصة القصيرة وتفرغ لكتابة الدراسة النقدية والبحث الأكاديمي فترة مهمة من تاريخه الأدبي، ليفاجئ القُراء نهاية الثمانينيات (1987م) بروايته «لعبة النسيان» التي أسالت مِدادا كثيرا، فاعتبرها مثلا إبراهيم السولامي سيرة ذاتية قبل انتشار مفهوم التخييل الذاتي في الساحة الثقافية والنقدية المغربية، لكن أغلب الدراسات النقدية انبهرت بثقافة الناقد التي وافقت الانفتاح على النقد الحواري (الحوارية) لميخائيل باحثين، واستثمرها محمد برادة الّذي ترجم جزءا مهما من كتاب باحثين إلى العربية، وكان هذا الإشكال الثاني الّذي طرحته هجرة محمد برادة مجددا نحو التخييل السردي، أي الاستفادة من الدرس النقدي في توسيع فضاء الكتابة الروائية بعدما استفاد من تقنية التخييل الذاتي وتعدّد الرواة وتعدّد الأصوات ومفهوم الأسلبة وتعدّد الخطابات المُتخللة للمتن السردي المُتخيل. إلاّ أنّ نجاح هذه الرّواية نقديا لم يكن وراءه فقط العُدة النقدية لمحمد برادة، بل كان الأساس في ذلك الانتشار والاهتمام والملكة الإبداعية وقدرة الكاتب على التخييل السردي، وهو ما سيتجلى في باقي أعماله ومنها روايته «موت مُختلف» التي تجلّى فيها الناقد كمفكر يُعيد إنتاج مرحلة تاريخية برمتها، عبر السرد، أي التفكير في الواقع والثقافة والسياسة سرديًا.
هذه التجارب التي تُضيف إلى الرّواية تكون هجرتها إضافة نوعية تطور الشكل وتوسع مضمون وموضوعات الرّواية كتخييل سردي ووصفي. ولعلّ هجرة النقاد والمفكرين نحو قلاع الرّواية ليست بالحديثة تماما، إذا ما استرجعنا إلى الأذهان تجربة عميد الأدب العربي طه حسين في سيرته الذاتية «الأيّام» وفي «دعاء الكروان» مثلا، وكذلك تجربة عباس محمود العقاد في روايته «سارة»...
إنّ مثل هذه الهجرات من الشّعر والقصّة والفكر والنقد نحو التخييل السردي الروائي، تُعد محمودة إذا كانت تطور مدونة السرد العربي وتغنيها سواء على مستوى الموضوعات أو البنيات والأشكال، أمّا تلك التي تلهث وراء الشهرة والجوائز والإقامة الدائمة في المهرجانات وصفحات المجلات السخيّة الدفع، المُوَجَّهَةِ نحو أهداف غير أدبية فهي لن تُصيب أبعد مِمّا صبت إليه.

محمد الأصفر/ كاتب وروائي ليبي
الجوائز تدفع بعض النقاد إلى «تعليب» روايات
الهجرة دائما تكون نحو الضوء، ولا غرابة في هجرة الشعراء والنقاد إلى فن الرّواية، بعد أن فرضت الرّواية نفسها على القارئ، الّذي صار يفضلها على كلّ الأجناس الأدبية، ففيها يجد كلّ شيء: المتعة، المعرفة، والتاريخ الّذي لم يكتبه الأقوياء وكتبه الخيال، بالإضافة إلى القصيدة والاستطلاع والمقالة والقصة في الروايات الجديدة التي تتجه حثيثا نحو المزيد من الانفتاح والتجريب.
بالنسبة لهجرة النُقاد نحو فن الرّواية، لا أعتقد أنّ الرّواية مشروع حياتهم الأدبية وإنّما الهدف هو الحصول على جائزة ما، يعتقد الناقد أنّه بحكم علاقاته الشخصية وامتلاكه لأدوات النقد التي ستمكنه من صنع أو تعليب رواية تقليدية ليس بها هنات فنية أو أخطاء إملائية أو نحوية أو أسلوبية سوف يحوز على الجائزة التي تَــقدم لها، فيستفيد ماليًا وهو الهدف الأساسي بعدها يستفيد من الشهرة وما تجلبه من مشاركات واستكتابات ذات قيمة مادية أيضا، وعادة ما يفشل هذا الناقد أو حتى الشاعر الّذي قفز لفن الرّواية بمجرّد أنّه يعرف كيف يُصيغ كلمات بطريقة عذبة قريبة من الشّعر وذات إيقاع مُتناغم يمكنك أن تهز رأسك معه وأنت تقرأ نصه الروائي وكأنّك في حفلة موسيقية، فيتوقف طبعا عن مواصلة جهده في الفن الروائي الّذي يحتاج كتابة يومية وتأمّلات طويلة وحذف الكثير من الصفحات التي لا يمكن أن يتنازل شاعر أو ناقد أو صحفي على حذفها فهو يمكنه أن يبيعها أو يجعلها عمودا في المطبوعات العديدة التي يكتب فيها. ومن هنا بعد أن تظهر نتيجة الجوائز، ويجد نفسه خارجها رغم جهده المُسبق في ضبط الأمور مع أمناء الجائزة وشيوخها ومُحكميها الذين يظنون أنفسهم سريين، حيث وعدوه بأن يرتبوا له الأمور. فكلّ –حسبهم- من يكتب الرّواية حاليًا في الوطن العربي لا يمتلك ما يمتلكه من أدوات فنية ولياقة بدنية عالية، وحتما ستفوز يا رجل، فأنت مشهور واسمك يصمغ الأذان ودار النشر المشارك باسمها مافيا ثقافية. وطبعا لن تجده قد واصل الكتابة في العام القادم واعتبر الأمر مجرّد تجربة قام بها واللجان الفنية الخاصة بالجوائز أشباه كُتاب مُتخلفين ولا يتذوقون الأدب الراقي الرصين والأكاديميون منهم جهلة.
الآن لم يعد هناك نقد، كلّ النصوص التي يتم تناولها نقديا يتم ذلك عن طريق العلاقات العامة والتملق فلا ناقد نزيه يمكنه أن يجلس ليقرأ عددا لا بأس به من الإنتاج الثقافي في كلّ الدول ولكلّ الأسماء ويكتب مقارباته فالأمر حاليا يتعلق بالمصالح، كأن يقول كاتب ما، ما الّذي سأستفيده من الكتابة عن كاتب آخر من هو هذا الكاتب بالضبط بغض النظر عن نصه الّذي كتبه، فيبدأ مقارباته وهو ينظر إلى وجه الكاتب والمصالح التي يحققها من النظر إليه وليس النظر والتأمّل في كلماته، ومن هنا تفطن الكثير من الكُتاب لأمر هؤلاء النُقاد فتم تجاهلهم. ولا تجد كاتبا حاليا يرسل كتابه لناقد كي يقرأه أو يرسل مخطوطا لناقد كي يقول رأيه فيه ويبدي ملاحظاته القيمة للكتاب، ما عادوا يؤمنون بالنقاد الذين تحوّل أكثرهم إلى مرتزقة، ومن هنا تحوّل الناقد الّذي كان يُنظر إليه كأستاذ وكشبه إله أدبي إلى شخص عادي ربّما القارئ العادي وما يبديه من ملاحظات أفضل منه بكثير، وصار الناقد بعد أن كان يعيش وسط بؤرة الضوء يقبع في الظلام. ومن هنا يقول الناقد أين هو الضوء عليه اللعنة، إنّه هناك في الرّواية ويقفز بكلّ ما يحمل في جرابه من أدوات مستهلكة حاليا إلى فن الرّواية الّذي يقول له مرحبا، لكن لا تغضب إن قالت لك الرّواية أنّ ما جئت به يحتاج إلى روح هي الآن ميتة في خيالك.

عزت القمحاوي/ روائي مصري
من أسباب الهجرة جاذبية الرواية والجوائز
من حيث المبدأ، الكتابة عمل فردي حر، ومن حق كلّ كاتب أن يكتب ما يقوده إليه ولعه، وهناك العديد من الكُتاب زاوجوا بين النقد والإبداع الروائي طوال مسيراتهم، من بينهم إدوار الخراط في مصر ونبيل سليمان في سورية، كأكثر اثنين خطرا لي حالاً، بينما يُزاول مُعظم الكُتاب النقد، ولو الصحافي الانطباعي بحكم انتمائهم لمهنة الصحافة أو لتقديم ما يرونه جديرًا بالتنويه بنوايا طيبة أو شريرة؛ حيث مارس بعض الروائيين المتنفذين لعبة التبشير بأحصنة يعرفون أنّها لن تُكمل السباق، لكنّها ضرورية لإثارة الغُبار في الحلبة لتعويق الأحصنة المُنطلقة، وهذا موضوع يحتاج إلى بحث، سيكون طريفًا وكاشفًا!
بعيدًا عن هذا الاستطراد غير الضروري، ليس الناقد بغريب في ساحة الإبداع، لكن عندما يأخذ الأمر شكل ظاهرة الهجرة، يصبح التساؤل مشروعًا.
ربّما للأمر علاقة بتقلص مساحة الرضا التي يُحققها النص النقدي لصاحبه؛ فالمساحات الأدبية في الصحافة تتقلص والمجلات التي اعتاد النُقاد نشر دراساتهم فيها تتوقف الواحدة بعد الأخرى، وفي الوقت نفسه لا يجب أن نغفل عن أثر النص النقدي المناوئ الّذي ولد في صفحات التواصل الاجتماعي وموقع جود ريدز Goodreads الّذي ظهر عام ٢٠٠٨. هو وإن كان نصًا بدائيًا وحماسيًا في أغلب الأحوال (مدحًا وقدحًا) فإنّه يلغي وساطة الناقد الأدبي، ويجعل من كلّ قُراء المبدع نُقادًا له.
هكذا بدأ النص النقدي يعيش انسداد الأفق الّذي تعرض له الشّعر من قبل، وفي المقابل تبدو الرّواية فنـًا تحت الضوء وجذابًا، وتلعب الجوائز الأدبية المُخصصة للرّواية دورًا لا يمكن إنكاره في هذه الجاذبية التي ساهمت في اتجاه الشعراء، ثم النقاد إلى كتابة الرّواية، التي تتفوق كذلك بقدرتها على قبول المقترحات في التقنيات والأساليب والموضوعات. ولا يمكن لأحد أن يعترض على حق الناقد الّذي يتمتع بالفهم النظري في الهجرة إلى الرّواية، والعبرة بالنتائج.

عبد الوهاب الملوح/ كاتب وشاعر تونسي
الكاتب الحقيقي هو من يكتب في جميع الأجناس
قال الكاتب التونسي شكري المبخوت في معرض حديثه عن العلاقة بين ما يكتبه من أعمال روائية قصصية وما يُنظّر له من أفكار نقدية علمية بخصوص الأدب أنّه لا علاقة بين هذا وذاك، وأنّه لا يُطبق نظرياته الفكرية على إبداعاته وأنّه إنّما يكتب قصصه ورواياته بمعزل عن شكري المبخوت المُنظر الأدبي... نعم لقد بادر الكثير من النُقاد والمفكرين في الشأن الأدبيّ العربيّ إلى كتابة أعمال روائية من ذلك عميد الأدب العربي طه حسين وعباس محمود العقاد، كذلك فعل محمّد برادة المغربي ومحمود طرشونة التونسي والأردني إبراهيم السعافين ومن مصر إدوارد خراط، وصبري موسى.
شخصيا لا أفضل الذهاب إلى تسمية الأمر بالهجرة، فكتابة النُقاد الرّواية تدخل ضمن ما أسميه بالكتابة الإبداعية عموما أو ما يسميه «تودورف» الكاتب الشامل، فالكاتب الحقيقي هو من يكتب في جميع الأجناس كذلك. كان بريشت يكتب الشّعر والمسرح والنقد.... لهذا لا أحبذ كلمة هجرة لأنّها تعني التخلي عن الوطن الأم بينما هؤلاء ظلوا في نفس الوطن وهو الكلمات... يبدعونها في شتى تشكيلاتها.

الرجوع إلى الأعلى