حين يتجلى التسامح  في عناق الكنيسة و المسجد
لم يجتمع في أي معلم تراثي عالمي من الخصائص والمتناقضات ما اجتمع في أيا صوفيا باسطنبول التركية؛ فعبر 15 قرنا من عمرها تعاقبت عليها حضارات متباينة المشارب؛ مسيحية وإسلامية، رومانية وبيزنطية، وعثمانية، فقد كان مبنى آيا صوفيا على مدار 916 عاما كتدرائية ولمدة 481 عاما مسجداً ومنذ عام 1934 أصبح متحفاً، حضارات صبت بروافدها في أفنيتها وغمرت جدرانها وأعمدتها، بفنها وزخارفها وفلسفتها وإشراقاتها وبصماتها، فاجتمع في كنفها الوحي والتاريخ، الحقيقة والأسطورة، النبوة والخرافة، الدين والفن، التسامح والعنف، الفلسفة والتصوف، البدر والكسوف، المقدس والمدنس، مشكّلة الأنموذج الواقعي لما يؤول إليه العمران والإنسان حين يحتك الشرق بالغرب دمويا في صدام الحضارات، وحين تكتمل دورة حضارية فتسلّم مفاتيح العمران لدورة حضارية جديدة عشية الأفول.
يخترق بنا قطار الترامواي مدينة اسطنبول من أقصاراي مرورا بساحة بايزيد قبل أن ينفتح بسلاسة على ساحة مسجد السلطان أحمد؛ لحظة الوصول تزامنت وأذان الظهر منطلقا من المنارات الست للجامع الأزرق، مسجد السلطان أحمد بصوت جهوري؛ يستدرجك حتما لتلبية النداء؛ لكن الصوت السلطاني سرعان ما يجد له صدى ينطلق من منارتي أيا صوفيا؛ كان الأذانان يتقاطعان بشكل تراتبي متفق عليه مسبقا، مشكلان سنفونية راقية تختلج النفس لتعود بك حقبا إلى تجليات الصوفية وإشراقاتها، حِرْص الأتراك على هذا التداخل بين الأذانين مقصود؛ تأكيدا منهم على الارتباط الأبدي بين جامع السلطان وأيا صوفيا، والحفاظ على الطابع المسجدي لأيا صوفيا التي حولها أتاتورك إلى متحف سنة 1934م في خضم نشر العلمانية وقطع العلاقة مع الشرق، لبينا نداء أيا صوفيا، وصلينا الظهر في جانبها الأيمن الذي حول إلى مسجد بينما بقيت هي متحفا، وبعد الصلاة كان علينا الوقوف في طابور طويل لدخول الكنيسة/المسجد/المتحف، في قلب الطابور عدنا إلى الماضي البعيد، نفتش فيما حفظناه في الذاكرة التاريخية عن ملحمة الفتح وتداعياتها، فاستحضرنا جيش الفاتح محمد الثاني يدخلها في أبهة المنتصر بين كوكبة من فرسانه؛ ويرفع الهلال بدل الصليب.
عام 532م قبل ميلاد الرسول محمد (ص) بأربعين سنة بدأ الإمبراطور جوستنيان في بناء كنيسة آيا صوفيا، ليفتتحها عام 537م، ويروى أنه من شدة إعجاب الإمبراطور بالمبنى أطلق عليه اسم الحكمة الإلهية أو المقدسة «سان صوفيا» ونقل أيضا عنه قوله: «يا سليمان الحكيم لقد تفوقت عليك».كان بناؤها على أنقاض كنيسة أقدم أقامها الأمبراطور قسطنطين؛ والصرح المبني حاليا الذي افتتحه الأتراك العثمانيون والصرح القائم في يومنا هذا هو الصرح الذي بني في المرة الثالثة.

بعد قرن من بنائها؛ توفي رسول الإسلام دون أن يدخل هذه الكنيسة أو تطأ قدماه الشريفتان أرض القسطنطينية؛ لكنه ترك حديثا سيكون له أثر نفسي وسياسي مستقبلا؛ يتغير بموجبه تاريخ الشرق والغرب معا؛ بنبوة خارقة تتخطى المكان وتعبر الزمان؛ فقد ورد في مسند الإمام أحمد بن حنبل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ(ص)  يَقُولُ: (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْش)؛ وهو حديث كان كافيا ليلهب طموحات الخلفاء والأمراء، ويفتح شهية الانطلاق غربا في الفتوحات الإسلامية؛ فقد تلقوه وطمع كل واحد في أن يكون هو المبشر به؛ لذلك بدأ الخلفاء المسلمون يطرقون أبواب القسطنطينية باكرا منذ العهد الأموي، طمعا في كسب فضل هذا الحديث، حتى قيل إن المدينة حوصرت من قِبل المُسلمين 11 مرَّة قبل هذه الأخيرة. راود حلم فتح القسطنطينية السلاطين الأتراك على غرار من سبقهم؛ لكن شاءت الأقدار أن يولد من رحمهم شاب سيتلقى تعاليمه وتربيته الأولى على يدي متصوفة كبار وفي مُقدمتهم زغان (زغانوس) باشا والشيخ آق شمسُ الدين والمُلَّا أحمد بن إسماعيل الكِوراني. يروي المؤرخون أن الكِوراني كان يُشدد على تلميذه مُحمَّد في صغره بلزوم وضرورة فتح عاصمة الروم، وكان الشيخ آق شمسُ الدين قد بثَّ في نفس السُلطان مُنذُ صغره أمرين، هما: ضرورة مُضاعفة حركة الجهاد الإسلامي ضدَّ الروم وحُلفائهم، وأنَّه هو (أي السُلطان) المقصود بالحديث النبوي؛ فشكَّلت له هذه العوامل دوافع قويَّة ضاغطة ومُحفزة في الوقت ذاته لتحقيق حلم آبائه وأجداده؛ بهذه النفسية يستلم السلطان محمد الثاني السلطنة ولا حلم له سوى فتح القسطنطينية، حاصر المدينة بجيش كبير بلغت أصداؤه نفوس الأهالي وتشكل في مخيالهم جيش بربربي يتلذذ بالقتل والبطش، أو هكذا صور لهم من قبل زعمائهم الدينيين والزمنيين؛ لكن ذلك لم يدفعهم للاستسلام أو إبرام الصلح على عادة الكثير من المدائن التي لحقت بدار الإسلام؛ لذلك تجهز جيش الفاتح بمدافع لا قبل لهم بها، وطوق المدينة وقصفها حتى انهارت حصونها، وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة، وطوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل مدرب وفق الأصول العسكرية الحديثة، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في السبت 6 نيسان 1453وطلب السلطان مجدداً من الإمبراطور “قسطنطين” أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم؛ لكن الإمبراطور رفض معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول المسيحية له. قبل أن يقف على الحقيقة التاريخية والحتمية الحضارية لحظة دخول الفاتح في أبهة الفاتحين،كان ذلك يوم 29 ماي 1453م/ 21 جمادى الأولى سنة 857ه؛  وقد شكَّل فتح القسطنطينيَّة خاتمة المُحاولات الإسلاميَّة لضم هذه المدينة لحظيرة الخلافة، ونهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وأصبح بإمكان العُثمانيين المضي قُدمًا في فتوحاتهم دون التخوُّف من ضربةٍ خلفيَّة تُثنيهم عن أهدافهم. وعلى الصعيد العالمي اعتبره العديد من المؤرخين خاتمة العصور الوسطى وفاتحة العصور الحديثة.
  العذراء لم ترجع لتدافع عن المؤمنين والسيف أصدق إنباء من الكتب
يروي المؤرخون أنه لحظة سقوط حصون القسطنطينية هرع عموم سكان المدينة والجنود إلى كنيسة آيا صوفيا مع الإمبراطور قسطنطين وكل قادته وجيشه الصغير بكامل عتادهم، اجتمعوا للصلاة الجامعة وتناولوا جميعهم القربان المقدس، رجاء أن العذراء مريم لن تترك مدينتهم مدينة المجد الرومي وحامية الإيمان القويم طيلة عشرة قرون زاهية لمصير يرونه مدمراً، وكانوا يهتفون للعذراء المنقذة بأن تحمي مدينتهم بهذه الترتيلة التي رتلها أجدادهم حين انتصرت المدينة على حصار الفرس بفضل العذراء وبدون أي قتال، وكانت هذه الترتيلة الرائعة: (إني أنا مدينتك يا والدة الإله أرفع لك رايات الغلبة يا قائدة محامية وأقدم لك الشكر كمُنفذة من الشدائد لكن بما أن لك العزة التي لا تحارب أنقذيني من صنوف الشدائد حتى أصخ إليك افرحي ياعروساً لا عروس لها)، وهي الترتيلة التي رتلوها للعذراء باسم المدينة بعدما أنقذتها من جحافل الغزاة الفرس في القرن السادس وهي من نظم القديس رومانوس الحمصي المرنم… لكن ذلك لم يجدهم نفعا، فقد أسدل الستار في هذه اللحظة التاريخية الفارقة عن القرون الوسطى وعصر الظلام والخرافة والأساطير وانبلج فجر جديد في الأفق، لم تخرج مريم ولا ابنها المسيح شاهرين سيفيهما من جدار محراب الكنيسة ليدافعا عن المؤمنين ويصدا أعدائهم؛ بل باغتتهم سيوف الأتراك من خلف ظهورهم، فالسيف أصدق إنباء من الكتب، ومات الكثير من قادتهم تحت أقدام أتباعهم في فوضى عارمة، سرعان ما عاد لها الهدوء بعودة الهدوء للمدينة، والأمير الفاتح يعتلي العرش ويطمئن الناس على دينهم وأنفسهم وأملاكهم. وروي أنه بعد دخول قلب المدينة، توجه محمد الفاتح إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفًا عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
الكنيسة تحوّل إلى مسجد بتجليات مسيحية وإضافات إسلامية

فتحت القسطنطينية عنوة ولم تفتح صلحا؛ بل رفض أهلها الصلح؛ لذلك فقدوا حق الاحتفاظ بالكنيسة كما احتفظ أهل القدس بكنيستهم لما فتحها المسلمون صلحا زمن عمر بن الخطاب؛ لهذا؛ قال المؤرخون بمجرد أن حل وقت الصلاة وكان لا يوجد للمسلمين في المدينة «جامع» ليصلوا فيه «الجمعة» التي تلت الفتح، ولم يسعف الوقت لتشييد جامع أمر السلطان بتحويل «آيا صوفيا» إلى جامع، ثم بعد ذلك قام بشرائها بالمال، وأمر كذلك بتغطية رسومات الموزائيك الموجودة بداخلها ولم يأمر بإزالتها، حفاظًا على مشاعر المسيحين، وما زالت الرسومات موجودة بداخلها إلى الآن.
فطليت الأيقونات الجدارية والسقفية (الفريسك) بالكلس والدهان وتم تهديم الايقونسطاس والهيكل، وأقام المحراب فيها واسماها أيا صوفيا، وقد غير السلطان محمد الفاتح المبنى ليكون مسجدا، وأضاف إليه منارة، ثم أضيف إليها منارات أخرى زمن السلاطين لتكون أربع منارات زادت الصرح رونقا وجمالا ولم تؤثر على عمارته البيزنطية؛ وقرر الفاتح أو «أبو الفتح بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم “إسلام بول” أي “دار الإسلام”، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم وأملاكهم، وعاد عدد كبير من الروم إلى القسطنطينية واستقروا حول مركز البطريركية وكان لهم من ثروتهم القائمة على التجارة ومن براعتهم في السياسة ما ضمن لهم مركزاً رفيعاً في مختلف العهود؛ لكن قبل هذا كان قد غادر عددٌ كبيرٌ من عُلماء وفلاسفة المدينة، من رومٍ وغيرهم، إلى الدويلات والإمارات والممالك الأوروپيَّة المُجاورة؛ كما تتحدث الروايات، كان فتحُ القسطنطينيَّة حدثًا مُهمًّا على الصعيدين الإسلامي والعالمي، حيث تحققت نبوءة الرسول مُحمَّد التي يؤمن المُسلمون أنَّه بشَّر بها مُنذ زمنٍ بعيد، وكان ذلك بمثابة تتويجٍ لسلسلةٍ من الانتصارات الإسلاميَّة ودافعًا ومُحركًا قويًّا للجهاد ضد الممالك الأوروپيَّة مستقبلا؛ أما الفاتح فقد  توفي سنة 1481 بعد أكثر من ثلاثين عاما وتشير بعض الروايات إلى أنه مات مسموماً من قبل طبيبه اليهودي وهو متجه لفتـح إيطاليا ...وبعد وصول خبر وفاة السلطان إلى البندقية التي كانت ألد أعداء العثمانيين والتي أصبحت مهددة بالسقوط بتوجه السلطان لإيطاليا أعلن مجلس شيوخها الخبر للجماهير بجملة تاريخية معروفة حتى الآن: (لقد مات العقاب الكبير) !
 صرح عمراني بفسيفساء من الرسوم والزخارف المسيحية الإسلامية
هذا فيض من التاريخ يتداعى على الذاكرة خلال الوقت الطويل في طابور الزوار والمبنى يتراءى صرحا عظيما، ومن لم يقرأ تاريخ هذا الصرح العمراني لن يكتشف شيئا عن تحولاته التاريخية؛ لأن المبنى من الخارج يبدو مسجدا كباقي مساجد المدينة التركية؛ بيد أنه سرعان ما يصل بك الطابور إلى المبنى فتدخل من أبواب خشبية قيل إنها من بقايا سفينة نوح محفورة بأشكال هندسيّة للدلالة على عظمة هذه الكنيسة؛ تدخل أيا صوفيا ويحتضنك صحن الصلاة، ليسلمك إلى لحظة من لحظات الزمن الماضي؛ حين تعود بك مشاهد الأعمدة الرخامية والسقف والزخارف والرسومات، ويعود بك التاريخ أدراجه قرونا إلى الوراء فتخال جيش الفاتح يقترب مكبرا ومهللا من المحراب، وصورة مريم تعلوه جامدة لم تدب فيها حياة منتظرة لإنقاذ مريديها، لا أثر لدم أو ضربة سيف أو صراخ أو أنين؛ لكن ذلك كله حدث لحظة الصدام العنيف بين حضارتين؛ صدام سرعان ما هدأت ارتداداته حين انتصر التسامح على العنف والتعايش على الشقاق، ليستلم الفاتح المبنى ملكية للفاتحين؛ مهابة المكان ألهمت الفاتح خيار المحافظة على طابعه التعبدي؛ وإن كان تعبدا على أسس جديدة اقتضت إضافات هيكلية على المكان من منبر وشرفات وصحون، تستشكل عليك الرسومات المنتشرة فوق الأعمدة والسقوف والجدران لتي تجلب نظرك من مختلف زواياها في الأعلى والأسفل؛ لتتساءل من الغالب ومن المغلوب؟ ففوق محراب المسلمين نصبت صورة السيدة العذراء تَحمل ابنها فوق المذبح في سقف الكنيسة، وفوقهم وفي الزوايا الأربع طائر يحلق بجناحين ورأس آدمي؛ وصور المسيح جالسا يحمل كتابا بيده منقوشا عليه باليونانيه  (السلام عليكم أنا نور العالم)، ويحيط المسيح حليات لمريم العذراء والملاك جبريل في فسيفساء تعود إلى 912 م، ثم صور العذراء وقسطنطين.. وبجوار هذا كله يرفع لفظ الجلالة (الله) واسم الرسول (محمد)، وبجواره أسماء أبي بكر وعمر وعثمان السنية، وأسماء علي والحسن والحسين الشيعية، ففي قاعة واحدة اختصر تاريخ الشرق والغرب، حيث اجتمعت حضارتان وأمتان ودينان ومذهبان، أبت الجدران أن تستسلم لحتفها وقاومت يد الإنسان فقبلت التكيف ورفضت الاندثار والأفول، لتكذب مقولة نهاية التاريخ وتكشف أن التاريخ محض دورات تتداولها الأمم.
   

   تقترب من المحراب فيختلجك خشوع من صدى أنفاس عبقت هذا المكان قرونا بتراتيل وأذكار، بيد أن الشعور ذاته سرعان ما يأتيه صدى خافت لترانيم مريدي المسيح والعذراء كانت تنشد هي الأخرى هنا قبل القبل، في عصر امتزج فيه الدين بالخرافة والحقيقة بالأسطورة، كفت يد الأتراك ولم تمتد لرسومات الجدران بل اكتفت بتغطيتها إلى حين؛ لأن لحظة الفتح كانت لحظة تداول حضاري سرعان ما انتصر فيه التسامح والتعايش على الصدام والصراع، من قبل جيش كان الصوفية قادته الروحيين دون أهل الظاهر الذين كثيرا ما عبثوا بالمدن والآثار الحضارية لحظة الانتصار !
 شرائح من مختلف الأجناس تتنفس عبق حضارتين تصادمتا ثم تعايشتا: لنعش معا بسلام
تطوف بين أروقة وطوابق أيا صوفيا فتجد أماكن الوضوء والصحون وتتجلى لك المشاهد والمناظر ذاتها التي تركتها خلفك في قاعة الصلاة، ففي كل زاوية يتجلى الرخام والفسيفساء المزينة بالأحجار الثمينة لتنطق بصوت أمة ومظهر لدين، تطل من شرفة الطابق الأول مجددا على قاعة الصلاة فترى المحراب بجانبه مساند كانت تُوضع فيها الشموع أثناء الخطبة قبل اكتشاف الكهرباء وانتشار المصابيح؛ وبجواره المنبر العثماني، وفوق الأرضية المحاذية له نقوش مرصعة بالجرانيت الفاخر تتوسط المكان الذي يقال إن المؤذن يقف فيه أثناء أداء أذان الصلاة؛ وغير بعيد عن هذا شرفة صلاة السلطان مقابلة للمنبر تحاذي أعمدة عملاقة، وضع بالقرب من إحداها صنبور صغير مثبت للوضوء لصلاة المسلمين بعد أن كان قديما حسب بعض الروايات يحتوي في اعتقاد البيزنطنيين على الماء المقدس؛ وفي بوابة غير بعيدة نقشت نبوءة النبي محمد حول فتح القسطنطينية.
وبالفناء تراكمت جموع بشرية من مختلف الأديان والأوطان واللغات والألوان، وحدها أيا صوفيا جمعت كل هذه المتناقضات البشرية، أين ترى كل شريحة منها صورة لحضارتها وتتحسس حقا تاريخيا لها فيها؛ لكنها تتفق على أن أيا صوفيا: الكنيسة/المسجد/ المتحف؛ تعكس أبرز مظهر من مظاهر التسامح الديني والتعايش الحضاري والتثاقف بين الشرق والغرب؛ وفي ضوئها ينبغي أن تعاد صياغة الحياة الحضارية المعاصرة بعيدا عن صدام الحضارات، والحروب الطائفية والإثنية.
 فتحت القسطنطينية وضاعت غرناطة
لقد شكل فتح القسطنطينية انتصارا كبيرا للمسلمين وفتحت بموجبه أبواب أوروبا للفاتحين الذين توغلوا في دروبها وفتحوا مدائن كثيرة ووسعوا الرقعة الجغرافية للخلافة العثمانية؛ لكن ما غفل عنه الأتراك وكان عليهم الاحتياط له هو تحصين قلاع وحصون المدائن الإسلامية المفتوحة قبل الانطلاق في فتح مدائن جديدة، نعم لقد غفل العثمانيون عن الأندلس وهم يرون سقوط مدائنها الواحدة تلو الأخرى، قبل أن تسقط آخر مدائنها غرناطة بعد 50 سنة من فتح القسطنطينية وذلك في 2 ربيع الأول عام 897 هـ ما يوافق 2 يناير 1492 بتسليم الملك أبو عبد الله محمد الصغير إياها إلى الملك فرديناند الخامس بعد حصار خانق دام 9 أشهر لم يجد فيه المحاصرون دعما من الأتراك، فهل جلب المصالح أولى بدفع المفاسد والأضرار؟ لقد انجر عن هذه الغفلة زحف صليبي كبير على المغرب والجزائر وتونس من اسبانيا دفع الجزائريين للاستنجاد بالأتراك وتنبيههم أن ثمة شعوبا وأمما ومدائن إسلامية يجب عليهم الدفاع عنها والمحافظة على دينها قبل التفكير في التوسع غربا.
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى