افتُتحت أول أمس الخميس رسميا بالجزائر، فعاليات الطبعة الخامسة للمعرض الإفريقي للتجارة البينية، التي تعد أكبر تظاهرة إفريقية للتجارة والاستثمار، وسط دعوات لتعزيز النمو في مجال التجارة البينية الإفريقية وتسريع وتيرة الاندماج الاقتصادي.
وقد جرت مراسم الافتتاح الرسمي لهذا الحدث الإفريقي بالمركز الدولي للمؤتمرات عبد اللطيف رحال، (غربي الجزائر العاصمة)، في أجواء طبعتها روح الوحدة والإصرار على بناء مستقبل اقتصادي مشترك.
و لم يكن الحدث مجرد موعد للتعارف بين العارضين والمستثمرين، بل منصة جمعت القادة الأفارقة وصنّاع القرار والخبراء الاقتصاديين حول رؤية واحدة: ‘’إفريقيا الجديدة قادرة على صناعة استقلالها الاقتصادي مثلما صنعت استقلالها السياسي’’.
وقد جسدت الكلمات التي أُلقيت في الجلسة الافتتاحية هذا الطموح الجماعي، من خلال الدعوة إلى تجاوز معوّقات البنية التحتية وتكثيف المبادلات التجارية بما يعزز النمو ويوفر فرص العمل ويحمي الاقتصاديات الإفريقية من التقلبات العالمية، والإجماع على أن منطقة التجارة الحرة القارية «زليكاف» هي رافعة استراتيجية لتحويل القارة إلى قوة اقتصادية صاعدة، مع التأكيد بأن الوقت قد حان لانتقال إفريقيا من اقتصاد المواد الخام إلى اقتصاد التحويل والقيمة المضافة.
وتقاطعت المداخلات لتشدد على أن التكامل القاري لا يقتصر على الأرقام والمؤشرات، بل يشمل بعدا سياديا وثقافيا واجتماعيا، يضع الإنسان الإفريقي في قلب التنمية، مع اعتبار أن هذه التظاهرة هي «منصة كفاح جديدة من أجل الاستقلال الاقتصادي لجميع الأفارقة».
التكامل القاري ببعد سيادي وثقافي واجتماعي
بدا افتتاح المعرض أكبر من مجرد تظاهرة اقتصادية، بل يشمل بعدا سياديا وثقافيا واجتماعيا ، وترسيخ قناعة بأن إفريقيا قادرة على أن تكون كتلة موحدة وقوة صاعدة إذا ما عززت الاندماج الاقتصادي وحررت طاقاتها الإنتاجية و الابتكارية.
وفي كلمته خلال مراسم الافتتاح الرسمي التي حضرها قادة من إفريقيا والكاريبي، إلى جانب رجال أعمال ومسؤولين، دعا رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الدول الإفريقية إلى تعميق الروابط الاقتصادية من خلال رفع حجم المبادلات التجارية، بما يسهم في تحقيق النمو وخلق فرص العمل وحماية الاقتصاديات من تداعيات التحولات الجيوسياسية العالمية الراهنة.
وشدد الرئيس تبون على ضرورة تعزيز الربط عبر القارة من خلال معالجة العجز المسجل في البنى التحتية، بما ييسر حركة التجارة البينية، مشيرا إلى المشاريع الإقليمية الكبرى التي تنجزها الجزائر على غرار الطريق العابر للصحراء الرابط بين الجزائر وعدة دول إفريقية، وأنبوب الغاز الجزائري لتأمين حاجيات المنطقة من الطاقة، إلى جانب مشروع الألياف البصرية لضمان السيادة الرقمية، فضلا عن تعزيز شبكات النقل الجوي والبحري مع الدول المجاورة.
وخلال مراسم الافتتاح كان رئيس المجلس الاستشاري للمعرض والرئيس الأسبق لنيجيريا، السيد أولوسيغون أوباسانجو، الذي ستحتضن بلاده تنظيم الطبعة الخامسة للمعرض، وفق ما تم الإعلان خلال مراسم الافتتاح، أول المتدخلين، حيث أوضح أن 48 دولة إفريقية تشارك في معارض هذه التظاهرة، مؤكدا بأن هذا يعد أكبر عدد منذ تأسيس المعرض سنة 2018.
وقال إن المعرض أثبت خلال الدورات السابقة قدرته على ربط الفاعلين الاقتصاديين من مختلف دول العالم، وأسهم منذ انطلاقه في استقطاب أكثر من 4500 عارض و70 ألف مشارك من 130 دولة، وإبرام صفقات تفوق قيمتها 118 مليار دولار، مبرزا صفقة سد روفيجي في تنزانيا كنموذج للنجاحات الإفريقية.
من جانبها، أبرزت نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، السفيرة سلمى مليكة حدادي، أن مساهمة إفريقيا في التجارة العالمية لا تتجاوز 2.9 بالمائة، وأن التجارة البينية ارتفعت بنسبة 27 بالمائة بين 2017 و2023، لكنها ما تزال محدودة عند 15 بالمائة فقط من إجمالي التجارة الإفريقية. واعتبرت أن التجارة الداخلية تتميز بنسبة 45 بالمائة من المنتجات المصنعة، مقابل 20 بالمائة فقط في الصادرات نحو العالم، ما يجعلها قاطرة حقيقية للتصنيع يمكن تعزيزها بخيارات سياسية واقتصادية رشيدة.
أما الأمين العام لأمانة منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وامكيلي مين، فقد دعا إلى تسريع تنفيذ اتفاقية AfCFTA لمواجهة الصدمات العالمية، مؤكدا أن التجارة البينية بلغت 220.3 مليار دولار في 2024 بزيادة 12.4 بالمائة مقارنة بـ2023، مع تنويع ملحوظ في الصادرات نحو الآلات والمواد الغذائية والسيارات والإلكترونيات، ما يعكس انتقالا تدريجيا من الاعتماد على المواد الخام إلى التصنيع.
منصة صلبة للشراكات و المبادرات الناجحة
بدوره، شدد رئيس البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد، البروفيسور بنديكت أوراما، على أن المعرض أضحى منذ 2018 منصة صلبة لبناء الشراكات وتعبئة التمويل وإطلاق المبادرات الناجحة، واصفا إياه بـ»منصة كفاح جديدة» لتحقيق الاستقلال الاقتصادي لجميع الأفارقة. وأكد أن ما تحقق من إنجازات يبرهن على قدرة إفريقيا على تأسيس منظومة متكاملة تتيح للشباب إحداث تغيير عالمي، معتبرا طبعة 2025 محطة بارزة في مسار التحرر الاقتصادي للقارة.
وفي أعقاب مختلف الكلمات الرسمية التي تم تقديمها خلال مراسم الافتتاح تم تنظيم جلسة نقاش تفاعلية بحضور قادة عشرة دول مشاركة في المعرض أدارها باقتدار كبير رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، خُصصت لموضوع المنطقة التجارية الحرة الإفريقية «زليكاف».
وفي هذا الإطار، عبّر رئيس تشاد محمد إدريس ديبي عن تقديره لدور الجزائر الريادي في تعزيز التعاون الإفريقي، مؤكدا أهمية الطريق العابر للصحراء كجسر للتبادل مع دول الجوار والوصول إلى المتوسط. واعتبر أن «زليكاف» رافعة استراتيجية لتحقيق السيادة الاقتصادية للقارة. من جهته، أشاد رئيس موزمبيق دانييل شابو بالجهود الكبيرة التي بذلتها الجزائر لإنجاح المعرض، مؤكداً التزام بلاده بتحويل المشروع إلى واقع ملموس.
أما نائبة رئيسة ناميبيا لوشيا ويتبوا فثمّنت احتضان الجزائر للتظاهرة «في وقت تحتاج فيه إفريقيا لاتخاذ قرارات مصيرية»، داعية القارة إلى قيادة مسار تطورها بنفسها. من جانبه، وصف الوزير الأول البورندي نيستور نتاهونتويي المعرض بفرصة لتجاوز العوائق أمام تنمية التجارة البينية، فيما أبرز رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي الطموح الليبي في المساهمة في خلق قيمة اقتصادية مشتركة.
وشدّد الرئيس التونسي قيس سعيد، على أن «زليكاف» حلم أفريقي متجدد، ودعا إلى مقاربة حضارية تعيد الشعوب سيادتها على مواردها.
أما الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني فدعا لتسريع الاندماج الإفريقي عبر مشاريع استراتيجية مثل طريق تندوف-الزويرات، مشددا على ضرورة الانتقال من اقتصاد المواد الخام إلى اقتصاد التحويل والتثمين المحلي.
بدوره، أكد نائب رئيس كينيا كيتور كينديكي أن التعاون هو السبيل لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والتحرر من الفقر، بينما أبرز رئيس وزراء غرينادا ديكون ميشل أهمية توسيع الشراكات بين إفريقيا والكاريبي واستقطاب استثمارات إفريقية أكبر.وكان آخر المتدخلين خلال الجلسة الرئيس الأسبق للنيجر محمدو إيسوفو بالتأكيد على المكانة البارزة التي اكتسبتها الجزائر بقيادة الرئيس تبون كقوة اقتصادية ثالثة في إفريقيا، ما يجعلها – كما أكد - دولة محورية في مسار التكامل والانفتاح الاقتصادي القاري.
إبراز مواقف الجزائر في الدفاع عن القضايا الإفريقية
وقد تابع المشاركون في افتتاح الطبعة الرابعة لهذا الحدث الإفريقي، شريط فيديو تم خلاله إبراز مواقف الجزائر المستقلة في الدفاع عن القضايا الإفريقية.وتضمن هذا الشريط عرضا حول التزام الجزائر المستقلة بالدفاع الثابت عن القضايا الإفريقية، حيث تضمن مقتطفات من خطابات الرئيس الراحل هواري بومدين، كان قد شدد من خلالها على ضرورة تحرير اقتصاد الدول الإفريقية.
ومن بين ما جاء في هذه المقتطفات، تأكيد الرئيس الراحل على أنه «مادام اقتصاد الدول الإفريقية تابعا للدول التي استعمرتها، فهذا خطر وحاجز يمنع هذه العلاقات من التطور والنمو».
كما تم تقديم عروض فنية لفرقة من نيجيريا وفرقة الفنون الشعبية للديوان الوطني للثقافة والإعلام.
إبراز مزايا الجزائر كوجهة واعدة للاستثمار
وفي ختام فعاليات اليوم الأول شهدت القاعة الكبرى للمركز الدولي للمؤتمرات، تنظيم منتدى «يوم الجزائر» تحت شعار «الجزائر: منصة ناشئة للاستثمار والتجارة في إفريقيا»، للتعريف بمزايا البلاد كوجهة واعدة للاستثمار، وإبراز فرص الشراكة المتاحة في مختلف القطاعات، مع تعزيز التكامل الاقتصادي على المستويين الإفريقي والعالمي.
وفي هذا الصدد أعلنت الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار أنها سجلت منذ انطلاق نشاطها في نوفمبر 2022 أكثر من 16 ألف مشروع استثماري، منها 300 مشروع يخص مستثمرين أجانب من 40 دولة.
وأوضحت مسؤولة بالوكالة، إيمان تومي، خلال تدخلها في أشغال الندوة، أن هذه النتائج تعكس الإصلاحات الجارية لتحسين مناخ الأعمال، عبر تبسيط الإجراءات وتوفير تحفيزات للمستثمرين، مع اعتماد آلية الشباك الوحيد وتطوير المنصة الرقمية، التي يجري العمل على دمج الجمارك ضمنها لتسهيل تعاملات المتعاملين الاقتصاديين.
من جانبها، أكدت ممثلة وزارة التجارة الخارجية وترقية الصادرات، ليلى مختاري، أن الاستراتيجية الوطنية تركز على تنويع الاقتصاد وتشجيع الصادرات خارج المحروقات، إضافة إلى تعزيز المشاركة في التظاهرات التجارية الدولية. واعتبرت أن تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (زليكاف) سيفتح آفاقا واسعة أمام المؤسسات الجزائرية للاندماج في الأسواق الإفريقية، ما يساهم في رفع تنافسيتها واستقطاب استثمارات جديدة، فضلا عن دعم سلاسل التوريد الإقليمية.
ويستقطب المعرض، الذي تستضيفه الجزائر على مدى سبعة أيام، آلاف الزوار وأكثر من 2000 عارض من مختلف دول العالم.
ويُنظم الحدث بالتعاون بين البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد (أفريكسيم بنك)، مفوضية الاتحاد الإفريقي، وأمانة منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، مع توقعات بإبرام صفقات تجارية واستثمارية تفوق قيمتها 44 مليار دولار.
ويتضمن برنامج المعرض نقاشات استراتيجية، مفاوضات رفيعة المستوى، وعروضا ثقافية غنية، كلها تصب في تسريع التكامل والتحول الاقتصادي للقارة.
وتزخر أجندة هذا العام بمحطات مميزة أبرزها: اليوم العالمي للشتات الإفريقي، ومنتدى الاستثمار الجزائري لإبراز دور الجزائر كبوابة للقارة، يوم التصنيع «Arise» لتعزيز القيمة المضافة، و ‘’منصةCreative Africa Nexus ( CANEX) لتسليط الضوء على الصناعات الثقافية الإفريقية، فضلا عن معرض السيارات الإفريقي الذي يجمع منظومة تصنيع السيارات في القارة، إلى جانب منصة شباب الاتحاد الإفريقي لدعم رواد الأعمال الجدد.
كما يشارك في هذه الفعاليات نخبة من أبرز الأصوات المؤثرة في مستقبل إفريقيا والكاريبي، إلى جانب شخصيات من الحكومات والأعمال والابتكار والطاقة والزراعة، بهدف صياغة رؤى مشتركة لمستقبل القارتين.
عبد الحكيم أسابع