الاثنين 17 جوان 2024 الموافق لـ 10 ذو الحجة 1445
Accueil Top Pub

الحياة التي تعاش يجب أن تكتب

“حلم غاية ما”.. سيرة كولن ولسون بالعربية
قراءة: محمد خطّاب
صدرت عن دار المدى بسوريا ولبنان، الترجمة العربية لسيرة الكاتب والروائي والفيلسوف الإنجليزي "كولن ولسون" بعنوان "حلم غاية ما" ويتعلق الامر بكتاب سيرة ذاتية كتبه في مرحلته الأخيرة، وترجمته إلى اللغة العربية المترجمة والكاتبة العراقية لطيفة الدّليمي. وتحرص دار المدى على إغناء المكتبة العربية بكل أنواع الكتب العالمية ذات الطابع الكوني، وهي السباقة في تكريس النصوص الكبرى لفائدة القارئ العربي، ومكتبة نوبل أكبر دليل على ذلك. تمتاز هذه السيرة الذاتية بخصوصية اللغة التي تحكي اليومي والمطلق معًا، اندماج الروحي بالجسدي في لغة واحدة. وتعطي للقارئ -العربي خصوصًا- انطباعا بأهمية القراءة والكتابة بخاصة. فالحياة التي ينبغي أن تُعاش يجب أن تُكتب، والحياة التي تستحق الكتابة يجب أن تكون ذات معنى، والمعنى لا تحدده فقهيات القارئ العادي، بل تحدده التجربة الإنسانية في طبيعتها المطلقة. القارئ يخرج من قراءة سيرة ولسون الذاتية البالغة خمسمائة وثمانين صفحة بما في ذلك تنويعات المترجمة وإضافاتها الرائعة، بالمعنى الحقيقي للإنسان كقيمة غير محدودة، الإنسان بدون رتوشات.
جاء الكتاب في قسمين أساسين بعد مقدمة المترجمة، القسم الأول وفيه إضاءات في فكر الكاتب وحياته موزع على عناوين صغرى اختارتها المترجمة، والقسم الثاني تضمن سيرته الجديدة، إذ سبق للكاتب أن كتب منذ سنوات خلت سيرته الذاتية التي تحمل اسم "رحلة نحو البداية" وترجمها إلى اللغة العربية سامي خشبة وصدرت عن دار الآداب ببيروت في طبعتها الثالثة سنة 1988، ثم الخاتمة مع ملحقين، الأول عن أعمال الكاتب التي تشمل كتبه الفلسفية ورواياته ومسرحياته ومقالاته، والثاني عن الدراسات التي كُتبت عنه.
لا أظن بأن المهتم بالأدب لا يعرف أو لم يسمع على الأقل باسم "كولن ولسون".  لقد ترك كتبًا استثنائية في الفلسفة والأدب والنقد تثير شهية القارئ، لنتذكر مثلا "اللامنتمي" و"ما بعد اللامنتمي" و"سقوط الحضارة" ورواية "الشك" و"ضياع في سوهو" و"أصول الدافع الجنسي" و"الشعر والصوفية". وعادة ما يخرج قارئ هذه الكُتب بانطباع واحد هو كيف استطاع كاتب عصامي لم ينل شهادات عليا أن يحقق هذا المنجز الفلسفي أو النقدي أو الإبداعي بشكل عام؟ إنّ ما تركه من مذكرات ويوميات مبثوثة في صفحات كتبه التي هي انعكاس لحياته، تشير إلى تناغم الروحي بالوجودي، ليس هذا فحسب، بل التناغم وصل درجة التوحد بين التجربة والكتابة من حيث الاهتمام وطبيعة النصوص التي شكلت تفكيره ورسمت حركية وجوده.
تحدث "ولسون" كثيرا عن نفسه، وكثيرا ما تكون أحاديث النفس ضاربة في الأنانية المطلقة والتفاصيل المملة. إذ ما الفائدة من سماع كاتب يملي علينا تفاصيل حياته الجسدية مثلا أو طفولته أو قراءاته؟ يبدو أن بعض القراء الأكثر حساسية مع الفكر والفن والفلسفة لا يميلون إلى الأحاديث الشخصية التي قد تسيء إلى كاتبها أكثر مما تحسن إليه، لكن المفارقة عند "ولسون" أنه يكتب بطريقة تشعرنا بالاندماج المطلق في السيرة وكأنها سيرتنا المحتملة، لأنها بكل وضوح سيرة النجاح في عالم المعنى، وهذا مقتضى فلسفة "ولسون": البحث عن المعنى حتى في تمام اليأس والفقد والجنون والموت. هناك شيء ما يستحق الحياة هو الوجود الإنساني الذي يبرهن على نفسه بكل الطرق الممكنة.
2
المثير في الكتاب ليس فقط النص الأصلي، بل أيضا ما تضمنه القسم الأول من إشارات من المترجمة عن تفاصيل تخص الفيلسوف ورؤاه للعالم والكون والإنسان، حتى التفاصيل الصغيرة تأتي ضمن توصيف ظاهرة ثقافية نادرة في المجتمعات العربية برمتها، الكاتب وضرورة الانتماء إلى عالم الكتابة والإخلاص القوي لفعل الحياة التي تمليها ضرورات القيم الإنسانية التي تأخذ أبعادها من هذا الوجود المترامي: "صارت الكتابة لي بمثابة البئر العميق الذي أطرح فيه كل ما يمثل عائقا أمامي من قلق وشك متعب في قدراتي الذاتية وتعلمت أنني عندما أفعل هذا أعيش بعدها في حالة تفاؤلية جميلة وداعمة لنوعية الحياة التي أعيشها" ص166. فعالم "كولن ولسون" ليس فقط ما كُتب باللغة الإنجليزية، بل هو ميراث ما تركت الإنسانية بكل اللغات والألسنة. إن هذا التنوع الذي يشعر به قارئ "كولن ولسون" هو في حد ذاته دافع لمحبة المتعدد والمختلف والانخراط في وضع ثقافي ركيزته القراءة الناقدة والواعية. لقد قال في ذلك: "كانت تجربة الكتابة تلك أول اختبار لي لعالم من الفرح والابتهاج لم أعهد له مثيلا من قبل واكتشفت معه الآفاق الرائعة لعالم من الأفكار الذي طار بي إلى آفاق سحرية لم أتصور أني سأبلغها يوما ما" ص 188.
إن مفتاح عمل "ولسون" هو الجملة السحرية التي قرأها لويلز: "إذا لم تكن حياتك تعجبك فبإمكانك تغييرها" ص 200. والسيرة الذاتية في تفاصيلها الدقيقة هي انتقال من مستوى إلى مستوى آخر، ومن حياة إلى حياة أخرى، إن النص هو سفر دائم من السطح إلى العمق ومن العمق إلى السطح، الحركة التي تتطلبها الكتابة وتمليها الطبيعة الإنسانية، هذا التنويع الفائض الذي يغني حياة الإنسان ويجعلها ذات معنى. وسبب هذا الغِنى كله هو الكِتاب الذي لا يمكن أن تتخيل فرح الكاتب به وشغفه بقراءته وتدوين الملاحظات حوله، حتى في المقاطع التي تستند إليها المترجمة في القسم الأول من الكِتاب تبين هذا الشغف اللامحدود بالمكتبة والبحث عن المكان أو البيت الذي يسعها لأن حياة الكاتب بدون كُتب لا يمكن تخيلها. يقول عن نفسه: "وقد اقتنيت الكُتب بلا هوادة كمن يطلب الخلود لأجل أن يتوفر له الوقت الكافي لقراءة كل هذه الكتب." ص79. وبات يحق لزوجته أن تسمي الرفوف الملأى بالكُتب بمصيدة الشمس ص 80 لأنه لم يعد بالإمكان وجود مكان يخلو من الكُتب. ونجد الإحصاءات بالأرقام مثلا في ص 423 حين يذكر "كولن ولسون" بأن لديه 25 ألف كتاب أو ما يقارب ذلك فضلا عن الأسطوانات.
ما الغاية من قراءة الكِتاب؟ لا يمكن التحديد وذلك لأن سيرة كولن ولسون "حلم غاية ما" ليست كتابًا من النوع الذي يُسلي القارئ ويبعث فيه بعض المتعة لما يتضمن من تعليقات نقدية ورؤى شخصية للأحداث التي جرت للكاتب، ولكنها سيرة مبدع يعاني كل التحولات الروحية والجسدية ويغامر تجاه المجاهيل ويحاول تجريب الكتابة في الموضوعات العصية ومؤمن بصيرورة الكتابة في مقابل فناء هذا الوجود.
إن عالم "كولن ولسون" على الرغم من كونه واحدا في كل كتبه إلا أنه –وهذه هي المفارقة– يتضمن عوالم صغرى تتضاد وتتناغم في كون واحد. يشعر القارئ بهذا التنوع الخصب الذي يؤدي في النهاية إلى البحر الذي يتسع لكل الجداول الصغرى. ففي السيرة نلمح التنقلات والأسفار من مضمون إلى مضمون مختلف ومن معنى إلى آخر بشكل يجعل الكِتاب وجودا قائما بذاته، ولذلك قلنا بأنه مفيد لقارئ عربي يختلف من حيث الطبيعة والتكوين عن بقية القراء، ربما نلمح من خلال انتشاره وتداوله في الأيام المقبلة تقدما في الروح العربية وتطورا في ذهنية التقبل والتلقي الذي يجب أن تؤمن بالمتعدد والمختلف وبالجدية مع عالم لا قيمة فيه للكسل.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com