من القلعة و الفرس و الحوت إلى ق عاصمة الثقافة العربية
اتخذت قسنطينة لها على مر السنين شعارات خاصة، على غرار أعرق الحواضر في العالم، والتي ترمز في أغلب الأحيان إلى الشرف والبطولة أو حادثة كبرى تستحق التسجيل في التاريخ كالوقائع الحربية، وكذا طبيعة الإقليم وأشهر موارده الاقتصادية.
 ومن أبرز هذه الشعارات المرسومة على لوحها التذكاري المتواجد أعلى مبنى نزل البلدية، الذي تم بناؤه على عقار كان يضم مسجد سيدي علي بن مخلوف، في الفترة ما بين 1895 و 1902 وتم تدشينه في السنة الموالية، و الذي حمل رسومات منها القلعة، والفرس، والحوت، والأودية، والمناخ، و كل رسم منها له دلالة و خصوصية، وقد عرف الشعار تطورات خلال فترة الاستعمار، و أخرى خلال السنوات التي تلت الاستقلال، إلى قاف شعار  تظاهرتها اليوم كعاصمة للثقافة العربية.
و حسب المؤرخين و المختصين فإن تلك الشعارات التي لا زالت مدوّنة في أرشيف المدينة تحمل معان كثيرة و التي ورد ذكرها و شرح معانيها في الكثير من الكتب التاريخية، كالقلعة التي ترمز إلى حصانة المدينة ومناعتها الطبيعية، و قد اختاره سكان المدينة شعارا بعد تمكنهم من دحر الغزاة عن طريق الرّمي بالنبال أو الصخور من القلعة وشواهق الجبال الحصينة التي يشبهونها بوكر الصقر التي لم يقتحمها أحد عنوة قبل الفرنسيين كما قال شيخ المدينة"محمد بن عبد الكريم بن بدر الدين الفقون" في جوابه للرائد بيدو:" إنّ مدينة قسنطينة لم يدخلها أحد عنوة خلال تاريخها الطويل ، إلا هذه المرة ".
 وقال الأستاذ ماريون مدرس التاريخ بثانوية أومال ـ رضا حوحو حاليا " إن مدينة قسنطينة ضرب الغزاة الحصار عليها أكثر من 80 مرة خلال تاريخها الطويل، ولم يتمكنوا منها لمناعتها وتحصيناتها العسكرية.
 كما ترمز صورة الفرس التي تكرّر ظهورها في شعارات المدينة عبر الزمن،  إلى واقعة جرت بضواحي قسنطينة عام 1700م وكانت فرس الباش تارزي بن زكري بطلتها، و قد ركبها متوجها إلى الجزائر طلبا للنجدة من أجل فك الحصار الذي ضربه الجيش التونسي على المدينة في عهد الباي على خوجة و الذي دام ثلاثة أشهر، و كان الناس يلقبون هذه الفرس بلقب " حليليفة " اعجابا بها وبشجاعتها ، و اكبارا لها ولراكبها، فقد أنزلوها و فارسها باستعمال الحبال من جبل الطابية الشمالية الشاهق، خارج المدينة، إلى غاية سهل بعيد، و منه انطلقت براكبها إلى وجهته لإعلام حكومة الداي مصطفى باشا بالجزائر، والإتيان بالنجدة العسكرية التي صدت هجوم الجيش التونسي، على قسنطينة في أيام الباي علي خوجة.
الواقعة مشهورة في تاريخ قسنطينة، و قد جرت وقائعها أوّلا بالمكان المسمى "الملعب" بالجنوب الشرقي من المدينة، وسببها أن مراد بوبالة باي تونس أهدى علي خوجة باي قسنطينة هدية فلم يقبلها ، فاستشاط باي تونس غيظا، فأعلن الحرب على باي قسنطينة، وحاصره مدة 3 أشهر لكن دون أن ينال منها، سوى ما كان من هدمه لحصن الأتراك، الذي بنوه في سطح المنصورة غداة استقرارهم فيها أيام الباشا أحمد أعراب أو خلفه القايد رمضان.
ولما يئس مراد بوبالة من قسنطينة توجه بجيشه إلى الجزائر طمعا في الاستلاء عليها، لكن عند بلوغه سهل سطيف التقى جيش الجزائر القادم لنجدة قسنطينة، ووقعت معركة بين الجيشين فانهزم فيها بوبالة وأسر معظم رجاله ففر هاربا على حصانه المسمى " كحيل " إلى أن وصل مرج فسقط حصانه من تحته ميّتا وسميت باسمه تلك البقعة "مرج كحيل".
أما صورة الحوت فلها هي الأخرى دلالة خاصة عن شجاعة أهل المدينة لأنه حوت من نوع خاص مشهور بخطورته، وفتكه بأنواع الحيوانات المائية وبالإنسان ولهذا الحوت أسماء أخرى وهو نوع من أسماك الشبوط، الذي يعيش في المياه العذبة مثل مياه أنهار قسنطينة، فيما قالت مصادر فرنسية أن الحوت رمز من الثقافة اليهودية.
و من الصور الشائعة بشعارات قسنطينة القديمة "الأودية" التي يرمز لها بالسقف أو الخطين المقترنين، و اللذين يعنيان التقاء واد" بومرزوق" أو"بولبراغت" بواد الرمال الذين يمدان المدينة وضواحيها بمياههما الغزيرة التي أنعشت الحياة بهذه المدينة، مما جعل خيراتها وفيرة، فكانت دائما مطمع أنظار شتى الشعوب والأجناس الذين حاولوا الاستيلاء عليها أكثر من 80 مرة، خلال تاريخها الطويل ، حينما كانت مياهها أوفر حسب بعض المؤرخين القدامى، منهم أبو عبيد الله بن عبد العزيز البكري الاندلسي الذي زارها في القرن 11 م وذكرها في كتابه " المغرب في ذكر بلاء افريقية والمغرب " و يعني هنا قسنطينة، التي قال عنها "على  ثلاثة أنهار عظام تجري فيها السفن ... تخرج من عيون تعرف بعيون "أشقار".. وتقع على أربع حنايا ، ثم بني عليها قنطرة ثانية ثم قنطرة ثالثة من ثلاث حنايا ، ثم بني فوقهن بيت ساوى حافتي الخندق يعبر عليه إلى المدينة . ويظهر الماء في أسفل الوادي كالكوكب ويسمى هذا البيت " العبور " لأنه معلّق في الهواء".
شعارات بحمرة صخور واد الرمال التي أحرقتها الشمس
و حملت شعارات قسنطينة القديمة ألوانا طغى عليها الأحمر يقال أنها حمرة صخور وادي الرمال، التي أحرقتها شعلة الشمس عبر تاريخها الذي يعود إلى 1300 قبل الميلاد، حين سكنها بني كنعان النازحين من فلسطين وأسسوا مدينة قسنطينة حوالي سنة 1450 قبل الميلاد، على رأي المؤرخ القسنطيني على اللنبيري ـ اليوناني الأصل التونسي النشأة ، الترجمان الشرعي بالمحكمة في قسنطينة عام 1846 الذي تحدث عن ذلك في  كتابه المخطوط " علاج السفينة في بحر قسنطينة " المحفوظ بالمكتبة البلدية تحت رقم 01 والذي تحدث فيه عن تاريخ قسنطينة من أقدم عصور التاريخ إلى أيام أحمد باي آخر بايات قسنطينة،  اتخذت الألوان تدرجات أخرى في ظل المستعمر فطغت عليها الألوان الثلاثة الأبيض والأزرق والأحمر في  سنة 1854 تاريخ إنشاء أول بلدية فيها، ليظهر الشعار في أعلى نزل البلدية لدى افتتاحه سنة 1903، قبل أن تدخل عليه تعديلات سنة 1929، مثلما ظهر ذلك في الطوابع البريدية لسنوات ما بين 1942  و1945، وبعد الاستقلال تم تعديله وتحلى بألوان الاستقلال، واختفت منه القلعة والفرس "حليليفة"  وظهر فيه ما يدل على ارتباط قسنطينة بالعلم والدين الإسلامي.
ويذكر أن ذات الشعار كان يسوق في شكل جامع مفاتيح، و يرمز لقسنطينة حاملا النسخة الفرنسية المعدلة بالألوان الوطنية .                   ص. رضوان

الرجوع إلى الأعلى