من زاويّته الصغيرة كان يرقبهم: أخيرا جئتم، مرحى!
لا تعتذروا عن التأخّر، فمن جاء خير ممّن ابتلع الدّرب خطوته.
من زاويته الصّغيرة، من اسمه المعفّر بغبار الأرصفة، من غيمته المهملة، من معطفه الثّقيل الذي يحميه من شموس الصيف والبرد المحتمل، كان يرقبُ الجموعَ الملوّحة بالأيدي ويقول في سرّه مرحى !
لم يسأل أيّ فريق فاز كما كان يفعل، فالفوز بأيّ شيء لم يعد حصيلة تبارٍ ولا نتيجة كدٍّ، بل عمليّة يأخذ فيها الدافعُ ما أراد: نتائج المباريات، القلوب، المواقف، النّساء، الرّجال، البيوت، الأفئدة، الأرض المقسّمة إلى حصصٍ والأرض التي لم تقسّم بعد، تسبيقات عن المستقبل، حصّة الجد.
لذلك، خرج هو من المباريات كلّها واختفى في غيمته وكلّما ناداه أحدهم ردّ بحدّة: ما أنا بلاعبٍ !
في البداية كان يركض في شوارع المدينة وهو يشتم "الأسماء المخيفة"، وفي السّنوات التي تلت تبليط الأرصفة وغرس أشجار نخيلٍ وتعليق صوّر رجلٍ يضع يده على قلبه، غاص في نفسه واكتفى بالهمهمات.
في الليل، حين تتنفّس المدينة، يتمدّد هو في زاويته ويشرع في مجادلة "العائلة" على خيارات قديمة، وقد يستمرّ الجدل إلى ساعات الصباح الأولى.
وحين فاجأته الجموع المتدفّقة على الشارع انتبه: أنا أيضاً كنتُ أسيرُ. كنت ألوّحُ و أحاججُ. لم يدفعني أحدٌ إلى الغضب. غضبي من صلبي ربّيْته حتى اشتدّ ثم أطلقته في نفسي. لم يسمعني أحدٌ حين كنتُ أصرخُ. مرحباً بكم. كنت وحدي حين لم تكونوا هنا. كنتم مطمئنين في أقفاصِ الحمام التي أقامها لكم "المربّون" المهرة الذين وعدوكم بالجّنة وسكنوها وحدهم. أما أنا فقد اخترت سلالم النّزول إلى بيتي الواسع هنا في العدم الفسيح. أخيراً جئتم. مرحى، من جاء خير ممّن أضاع خطوته.
لم ينتبه السائرون في مرحٍ ظاهرٍ إلى الرّجل الذي يرقبهم من روحه المهملة، وهو الذي انتبه باكراً إلى اختلال القواعد ورفضَ "اللّعب" فدفع إلى الخروج من "الملعب".
حين مرّت الجموع. ازداد الرّجل الوحيد المستلقي في الزاّوية وحدة وهو يردّد في سرّه: لن ألعب مع أحدٍ.
سليم بوفنداسة