لا تفلحُ الكتابة الأدبيّة في الانفلات من الذات إلا في حالات نادرة، فكل كتابة هي «رسالة» صاحبها عن ذاته وحتى وإن تستّر فإنّه لن يستطيع إخفاء رؤيته للعالم.
ويمكن رُؤية أشباح الآباء المؤسّسين للرّواية الجزائريّة في نصوصهم بطريقة مموّهة، كما هو الحال في روايات مالك حداد أو بطريقةٍ سافرةٍ كما في روايات رشيد بوجدرة، انطلاقا من «الإنكار» التي حوّلت التاريخ الشخصي إلى مادّة روائيّة سينهض عليها معمار روائيّ يمزج السيرة بالتاريخ الوطنيّ.
وإذا كان المبدعون الكبار قد كتبوا الذات بعقدها ووضعياتها الهشّة فيما يشبه الهذيان أو اعترافات جلسات العلاج، فإن بعض النّصوص المتأخرة حاولت أسطرة الكاتب بتقديمه كضحيّة لمجتمع لا يستحقّه، يبدو ذلك من صورة البطل المثقّف المنهار الذي ظل يتكرّر منذ تسعينيات القرن الماضي، ويمكن بكلّ سهولة رصد الصّدق في الحالة الأولى، والصّورة «الملفّقة» في الحالة الثانيّة، حيث يتحوّل فعل الكتابة إلى احتفاءٍ بالذات أحياناً في تماه مع سيّر شّائعة أو استسلام إلى غيبوبةٍ نرجسيّةٍ يعالج فيها «السّارد» جراحه ويستعرض وهمه اللذيذ.
قد ترتكزُ الروايةُ على السيرة دون أن تفقد هويّتها كعملٍ فني له «قواعده»، لكن السيرة غير مطالبة بأن تكون رواية، وهي شائعة في المجتمعات الغربيّة التي تعودّت على تقبّل «الاعترافات» وعدم مواجهتها بالسخط أو الازدراء والتكفير.
وقد يرجع العزوف عنها في الجزائر والعالم العربي عموماً، لسيّادة الثقافة الشفويّة وغياب تقاليد الكتابة و لأسبابٍ اجتماعيّةٍ ودينيّة وسياسيّة، أيضاً، حيث يُؤخذ ردّ فعلِ الجماهيرِ والسلطات السيّاسية والدينيّة في الحسبان، ما يجعل كلّ راغبٍ في إلقاءِ سيرته متردّداً أو يلجأ إلى الحذف على حساب «الحقيقة» التي هي الغاية والدافع في هذا المجال من الكتابة، فالاعتراف ليس فضيلةً في «ثقافتنا» بل قد يتحوّل إلى فضيحةٍ تعرّض ما تبقى من حياة «الكاتب» إلى خطر وقد يفقد قبل ذلك عائلته وأصدقاءه ومقربيه إن هو تجاسر وفتح خزانة المحفوظات، فنحن نعيش، كما هو معروف، حياتين، حياة حقيقية تُلعب في السّر، تُعاش ولا تُحكى، وحياة ظاهرة، كاذبة، تجري في العلن وغير ممنوعة من التداول.
سليم بوفنداسة