عاد الآباء و الأمهات إلى المدارس بعد عطلة صيفية عمرها ثلاثة أشهر، قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة للبعض لأن التلاميذ هم المعنيون بالعودة إلى الأقسام، لكن الواقع يعكس صورة أخرى عن دخول مدرسي مواز لأولياء عقد هاجس الاختطاف حياتهم، و حولهم إلى حراس شخصيين لأبنائهم يتناوبون على إيصالهم يوميا إلى المؤسسات التعليمية و يقضون باقي اليوم في مراقبة عقارب الساعة حتى لا يفوتوا أوقات الخروج، حتى  و إن اضطرهم ذلك للتغيب عن العمل أو تعيين مرافق خاص بمرتب شهري.
روبورتاج : نور الهدى طابي
تحويلات اضطرارية و مرافقون بمرتبات شهرية
ظاهرة لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية سلبية، و معاناة يومية يعيشها غالبية الآباء و الأمهات بقسنطينة، سببها رحلة الذهاب و الإياب اليومية من و إلى المدرسة صباحا و مساء و عند الظهيرة، رحلة خلطت أوراق الكثيرين خصوصا بالنسبة للأولياء العاملين، الذين باتوا يتناوبون على إيصال أبنائهم إلى المدرسة صباحا و  يقلونهم إلى المنزل مساء، أما الظهيرة فهي الشعرة التي قسمت ظهر الجميع واضطرت بعضهم إلى تحويل أبنائهم من مدارسهم القديمة إلى مدارس على مستوى أحياء أخرى يسكنها أفراد من العائلة و بالأخص الأجداد، بينما وظف آخرون مرافقين شخصيين لأبنائهم مقابل مرتبات شهرية، و وجد آخرون أنفسهم أمام خيار مخالفة القوانين و تزويد أبنائهم الصغار بهواتف نقالة لضمان التواصل المستمر و مرافقتهم عبر الهاتف من باب المدرسة إلى باب المنزل.
شهادات و تجارب عديدة وقفنا عليها خلال استطلاع قادنا إلى عدد من المؤسسات للأحياء و البلديات بقسنطينة، أين قابلنا أباء و أمهات أعادهم الخوف على أبنائهم عنوة إلى مقاعد الدراسة.
 « لقد تأخرت عن عملي حتى أرافق ابني إلى المدرسة.. لم يعد هناك أمان»، هي العبارة التي ردت بها إحدى السيدات وهي تركن سيارتها وسط الطريق متسببة في عرقلة المرور أوصلته إلى باب المدرسة الابتدائية وعادت طلبنا منها دقائق فقالت بأنها متأخرة عن عملها لأزيد من نصف ساعة وهو سلوك يومي بات يسبب لها مشاكل مع مديرها، الذي لا يتفهم كونها أم لتلميذ في الطور الابتدائي بمؤسسة زغبيب محمد بعين سمارة و لا يمكنها أن تتركه يقصد المدرسة بمفرده بسبب غياب الأمن  وكثرة الاختطافات التي قالت بأنها باتت خبزا يوميا للصحافة، تركتنا و غادرت مسرعة تحت أصوات منبهات سيارات أولياء آخرين تسبب ركنها الخاطئ في قطع الطريق أمامهم.
تركناها و تقدمنا من مجموعة من نسوة يقفن عند باب المدرسة الابتدائية سألناهن عن سبب تواجدهن بالمكان على الساعة الثامنة صباحا فأخبرننا بأنهن أوصلن أبنائهن كالعادة، مؤكدات بأن رحلة الذهاب و الإياب اليومية من وإلى المدرسة باتت مضنية بعدما تحولت إلى حتمية مطلقة خصوصا بعد حادثة اختطاف الطفلين هارون و إبراهيم بالمدينة الجديدة وقتلهما، وحسب السيدة عذراء أم لتلميذ في السنة الثالثة ابتدائي، مشكل الأمن أصبح هاجسا بالنسبة لها و لغيرها من الأمهات فكثرة حوادث الخطف و الاعتداء الجنسي على الطفل نغصت حيات الأولياء و أصبح معها ترك التلميذ يغادر المنزل بمفرده باتجاه المدرسة أمرا مستحيلا حتى وإن كانت تبعد عن البيت 50مترا.
وقالت محدثتنا بأن برنامج دراسة ابنها مختلف عن برنامج عملها كموظفة في الخزينة لذلك فإنها عانت كثيرا في عملية إيصاله و من ثم إيصاله للبيت مجددا و إعادته بعد الظهر فالعودة لأخذه مساء، ما اضطرها لتعيين مرافقة شخصية له هي ابنة أحد الجيران، أوضحت بأنها تمنحها 2000دج شهريا مقابل أن تنتظره عند خروجه على الساعة الحادية عشر و الربع لتعيده إلى المنزل قبل أن تصطحبه مجددا إلى المدرسة عند الظهر و تعود لانتظاره بعد الثانية زوالا، بينما تتكفل الأم بإيصاله كل صباح على الساعة الثامنة.
هواتف نقالة في الإبتدائيات
 بحي شعبة الرصاص معاناة أخرى يعيشها الأولياء بالرغم من أن أبناءهم تخطوا مرحلة الابتدائي و باتوا أكثر نضجا إلا أن بعد المتوسطة الوحيدة المتواجدة على مقربة من الحي وهي متوسطة  قجور محمود، جعل يومياتهم أشبه بالجحيم، فالمدرسة تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن أقرب منزل لذلك يضطر الأولياء يوميا إلى الاستيقاظ رفقة أبنائهم على الساعة الخامسة و النصف صباحا و الخروج في حدود السادسة و النصف للبحث عن وسيلة نقل باعتبارها نادرة المرور وأيضا تأمين تنقل أبنائهم، ما يضاعف مسؤوليتهم اليومية و يجعلهم أمام إلزامية العودة مجددا إلى الحي بالاستعانة بسائقي « الفرود» حتى يتسنى لهم الذهاب إلى وظائفهم، و أما هذا المشكل فإن غالبية الأولياء ممن لا يملكون سيارات كما عبر السيد عبد الغاني اضطروا إلى تحويل أبنائهم نحو مدارس قريبة من منزل الجدة و الجد  اللذين أوكلت لهما مهمة مرافقتهم يوميا إلى المتوسطة، وتأمينهم إلى غاية الدخول إليها، لأن الأمن كما قال لم يعد موجودا و كل يوم حسبه نسمع عن حوادث يندى لها الجبين.
من جهتها أوضحت سيدة قابلناها عند مدخل المتوسطة بأنها اضطرت لمخالفة القوانين التي تمنع التلاميذ من حمل الهواتف النقالة، وزودت ابنتها بهاتف يسمح لها بالبقاء في اتصال معها إلى غاية وصولها إلى باحة المؤسسة و خروجها منها مجددا خصوصا في حال تغيب أستاذ عن حصة معينة وتم تسريحها رفقة زملائها إلى الخارج، أو في الحالات التي تقصد فيها المدرسة رفقة أحد الجيران و أبنائه صباحا، بسبب تعذر اصطحاب والدها لها الذي يغادر المنزل في حدود الخامسة ليقصد مركب الإسمنت بالحامة، وعجزت هي عن مرافقتها.
بالمدينة الجديدة علي منجلي تشغل أمهات كثيرات وظيفة المرافق الشخصي لأبنائهن خصوصا على مستوى أحياء المرحلين الجدد بالوحدات الجوارية 18 و 17 و 20، رغم كون المدرسة الابتدائية قريبة إلا أن  الخوف من تعرض أبنائهن للاختطاف أو تعرفهم برفقاء السوء، جعلهن يتفرغن يوميا لاصطحابهم صباحا و مساء حتى أن التردد يوميا على المدرسة كون علاقات صداقة بين الأمهات اللواتي يقضين أحيانا كل الصبيحة بمحاذاة المدرسة يتبادلن أطراف الحديث إلى غاية خروج التلاميذ وكثيرا ما يتناوبن على  نقل عدد من أبناء الحي الواحد إلى المدرسة عوضا عن أمهاتهم، مع ذلك أكدن بأنهن زودن أبنائهن بالهواتف النقالة للاطمئنان عليهم بمجرد خروجهم من المدرسة.
هارون و إبراهيم و كلمة السر
الظاهرة ليست حكرا على المؤسسات التربوية وفقط بل وصلت حتى المساجد، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، وهو ما وقفنا عليه  قبالة مسجد عقبة بن نافع بتحصيص حداد « حي الزاوش» بقسنطينة، أين احتشدت عشرات النسوة في انتظار أبنائهن في حدود الساعة العاشرة صباحا، والحديث بينهن لم يخلو من «تذكر حادثة اختطاف‮ ‬وقتل‮ ‬الطفلين‮ ‬هارون‮ ‬وإبراهيم‮». جميعهن كن يردد بأن  « الأمان عاد ما كانش».
 عجوز قالت لنا بأنها تصطحب يوميا حفيدها سيف الدين إلى المسجد في الثامنة و تعيده للمنزل عند العاشرة، وأن المسكين يقيم عندها و لا يعود لمنزل والديه سوى في عطلة نهاية الأسبوع، لأن أبويه يعملان و يعجزان عن الاهتمام بتعليمه لذلك اضطرا إلى تركه في عهدتها، أما سيدة أخرى فقالت بأنها تعاني كثيرا خلال عودة أبنائها إلى المدرسة فهي تقل الطفلين الأكبر إلى الابتدائية وفي طريق العودة تترك الصغير في المسجد لتعود إليه بعد ساعتين و من ثم تخرج مجددا لاصطحاب الطفلين عند الحادية عشرة و الربع، لكنها وخوفا من التأخر اتفقت معهما على كلمة سر إن لم تحضر هي أو تأخرت واخبرهم أحدهم بأنه جاء لاصطحابهما عوضا عنها يسألانه عنها فإن لم يعرفها سارعا إلى الهرب.
وقد علمنا من سيدات أخريات بأن كلمة السر باتت ثقافة منتشرة بين الأولياء و أبنائهم المتمدرسين، وذلك منذ حادث الطفلين المختطفين هارون و إبراهيم، إذ يتفقون مع الأطفال على كلمة تجنبهم خطر تحايل الغرباء.
المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ
 يجب  تدعيم المؤسسات بمساعدين اجتماعيين و نفسانيين و برمجة نشاط ثقافي
تحول سلوك نقل الأولياء للتلاميذ إلى المدارس يوميا لأربع مرات متتالية الى ظاهرة تستدعي التوقف حسبما أكده رئيس المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ علي بن زين، مؤكدا بأن هذا الإشكال بات يطرح للنقاش خلال كل مناسبة على اعتبار أن له انعكاسات اجتماعية و اقتصادية سلبية، فالأولياء الذين يتأخرون يوميا لنصف ساعة صباحا و يغادرون مقرات عملهم لثلاث مرات متتالية يوميا من أجل اصطحاب أبنائهم من و إلى المدارس، يعتبرون مقصرين في أدائهم الوظيفي إذا ما علمنا أن معدل الوقت الضائع يعادل ثلاث ساعات يوميا وهو ما يساوي مردودا مهنيا وماليا ضائعا، له تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني، كما أن وقوف سيدات طيلة صبيحة كاملة أمام المؤسسات التعليمية لتبادل الحديث يعكس صورة غير حضارية، فضلا عن أنهن يسببن إزعاجا كبيرا للتلاميذ داخل الأقسام.
و أوضح المتحدث بأن هيئته سبق وأن قدمت مقترحات عديدة للمسؤولين على قطاع التربية خلال لقاءات سابقة، قال بأنها مقترحات من شانها أن تكون حلولا نهائية للمشكل، و يتعلق الأمر بإشراك كل من وزارة التضامن الوطني و الثقافة في نشاط المؤسسات التربوية، بحيث يتم الاستعانة بمرشدين نفسانيين و اجتماعيين و حتى منشطين ثقافيين، على مستوى كل مؤسسة، يكونون بمثابة موجه للتلاميذ خلال السويعات التي تفصل الفترة الصباحية عن المسائية بما يسمح باستيعاب التلاميذ  وإبقائهم في المؤسسات و كذا استغلال الوقت فيما ينفعهم.
مضيفا بأن التطبيق الفعلي لمثل هكذا مقترحات سيسهم بشكل كبير في الحد من الظاهرة خصوصا وأنه بموجب تعليمة وزارية صدرت في 2013 ، فإن المؤسسات التعليمية ممنوعة من تسريح التلاميذ للخارج في حال تغيب الأساتذة خلال الساعة الأولى للفترة الصباحية أو المسائية.
 أما بخصوص مشروع تأمين محيط المدارس فقال المتحدث بأن التطبيق الفعلي لهذا المشروع شبه مستحيل، واقعيا لأنه من غير المنطقي أن نضع لكل تلميذ شرطيا لحمايته أو نشيد مقابل كل مدرسة مفتشية أمن.

الرجوع إلى الأعلى