كثيرا ما يشتكي الكُتاب والأدباء من النقد الأكاديمي، وكثيرا ما يصفونه بــ»المُحلق» بعيدا عن الأجواء الفنية والجمالية لكتاباتهم، وهم أيضا، يقولون عنه بأنه يغرد خارج الأدب (أدبهم ونصوصهم) ولا يلمس جوهر أعمالهم من (روايات ومجموعات شعرية وقصصية)، إنما يتناولها بتهويمات ومصطلحات هلامية، بعيدة عن المعطى الفني الذي انكتبت به ومن خلاله نصوصهم.
«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ملف وسؤال «النقد الأكاديمي والنص الأدبي» مع مجموعة من الكُتاب والأدباء، فهل حقا النقد الأكاديمي يغرد خارج الأدب وخارج النص؟.

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

 

عيسى شريط/ كاتب وروائي

النقد الأكاديمي خارج التغطية ويغرد خارح الأدب

في البداية لابد من طرح السؤال التالي: «أين النقد الأكاديمي؟»، أنا لا أرى له أثرا يذكر هذا إذا ما استثنينا ما يقوم به الطلبة عبر رسائل تخرجهم وهي في اعتقادي لا ترقى إلى مستوى النقد، وهي مقتصرة وموجهة من قِبل الأساتذة منذ الأزل على ما كتبه الرواد الذين صادروا حق كتابة الرواية بالنسبة لكل الأجيال التي تَلتْهم، وإذا ما وُجِد هذا النقد الأكاديمي فإنه لا يتعدى بعض الحسابات «الرياضية والفيزيائية» التي عادة ما تنتهي إلى النتيجة الشهيرة القاتلة تنبعث من الجدران المحصنة لمختلف الجامعات الجزائرية التي تنبت كالفطريات، بألا وجود لرواية جزائرية راهنة باستثناء ما كُتب من قِبل الرواد دائما، وهم بذلك يغردون خارج الأدب تماما، وقد يلاحظ على بعضهم من يسعى إلى إثارة جدلا في الوسط الأدبي عبر تفجيره المتعمد لقنبلة «نقدية» تزيح صفة الرواية على كل النصوص النثرية الراهنة، بغرض البروز كناقد هكذا فجأة، ولم يسبق لأحد أن عرفه على الإطلاق. هذه الأحكام النقدية المثبطة والقاتلة للفعل الإبداعي ناتجة في اعتقادي عما يعتمد من قِبل بعض الأكاديميين من أدوات وقوالب نقدية جاهزة ومختلفة تتقرب من النص الروائي سردا أو بناء وغيرها، هذه المدارس والقوالب النقدية الغربية قد تصلح لتحليل ونقد النص النثري الغربي المبني على جملة من العناصر تلتصق بالبيئة والثقافة والتراث الأوروبي الصرف، وعندما توظف هذه القوالب النقدية على النص الجزائري مثلا، فإنها في اعتقادي، لا يمكنها أن تستنتج نفس الملاحظات أو لعلها توهم الناقد بأنها نصوص لم ترتق إلى خانة الرواية في قالبها الغربي، متجاهلين كل العناصر الخاصة التي بنيّ عليها النص النثري الجزائري من بيئة مختلفة جذريا وثقافة وتراث لا يمكنه أن يكون غربيا، هذه القوالب الأكاديمية المستوردة ستظل عاجزة عن الغوص في عمق خبايا النص النثري أو الشعري الجزائري، وهي أدوات سوف تكرّس تغريد الناقد الأكاديمي خارج الأدب، ولعل أنجع أداة تمكننا من نقد منصف يسمح بتفجير كل العناصر الموضوعية والجمالية من حيث الفعل السردي ورسم الشخصيات والأحداث والمواقف ووجهات النظر للنص السردي الجزائري، هي أداة التقرب العاطفي من النص مثلما يفعل الناقد الانطباعي، هذه الأداة وحدها الكفيلة التي توفر للناقد إمكانية الوقوف على كل اللحظات الوجدانية للكاتب لحظة كتابة فقرة ما أو عبارة ما في نصه النثري.
على الناقد الأكاديمي الأخذ بيد الروائيين من الأجيال الجديدة عبر تزويدهم بما يساعدهم على تطوير أدوات الكتابة خصوصا من الناحية السردية، ويستنبط ذلك من كل المدارس النقدية العالمية بشكل يساهم في ترقية وتطوير النص النثري الروائي، ولا يعمل على نكران ما يكتب، فالنص الروائي مهما كان ضعيفا من النواحي التقنية فهو بكل تأكيد مفعم بالحياة عبر شخصياته وأحداثه وعبر لغته أيضا، ولا يمكن لأي كان أن يشطب كل هذا بمجرد تصريح صحفي، ولعله لم يقرأ نصا واحد مما كتب، ولن يقرأ ما يكتب مستقبلا.
النقد الذي تناول أعمالي هو النقد الانطباعي الذي حاول تعرية خبايا نصوصي، أما النقد الأكاديمي فلم يتناول أعمالي إطلاقا باستثناء أطروحات التخرح من قبل الطلبة أو أطروحات الماجستير التي لم أطلع عليها. وهذا الجفاء لنصوصي ونصوص الكثير يؤكد أن النقد الأكاديمي خارج التغطية ويغرد خارح الأدب.

 

عبد الوهاب بن منصور/ روائي

طغيان النظري على التطبيقي جعله يغرد خارج الأدب فلا يلمس جوهره

الحقيقة التي نعرفها ويعرفها الجميع نقادا وأدباء ومتابعون للشأن الإبداعي، أن النقد الأكاديمي يعيش داخل أسوار الجامعة، فصوته مخبوء قلما يخرج صارخا أو واعظا. والحقيقة الأخرى التي يجب أن نسلم بها أن في التعميم ظلم كبير.
فالأعمال داخل الجامعة الجزائرية تظل داخل الجامعة، فأغلب الرسائل والأطروحات الجامعية لا تنشر. والبديهي أن الكتابة، أيّ كتابة، لا معنى لها إلاّ في عين قارئة. فالذي لم نقرأه فلا معنى له. والنقد سواء كان أكاديميا أو انطباعيا فلم يعد يخرج من دائرة الحقيقة المرّة التي نعرفها جميعا، عودة السُلّم، بتعبير باولو كويلو. فما الّذي يفسر أنّ أطروحات الماجيستير والدكتوراه لازالت تقتصر على أسماء فقط دون غيرها وكأن الجزائر لم تنجب إلاّ أسماء محدودة، خاصة في بعض الجامعات الجزائرية. أحبّ هنا أن أشير أن بعض الجامعات بالولايات الداخلية تخرج عن هذه القاعدة.
يُفترض بالنقد الأكاديمي أن يكون منهجيا وعلميا وموضوعيا، لكن الملاحظ هو أنّه صار يتفنن في الحديث عن المناهج والنظريات النقدية ويغرق في طرح المصطلحات والمفاهيم بعيدا عن المنجز الإبداعي. بمعنى أنّه غرق في التنظير وابتعد عن التطبيق. ولهذا أسبابه بطبيعة الحال. وأهم الأسباب هو الخلل في المصطلحات والمفاهيم، لكثرة المنقول إلى العربية من اللغات الأخرى، وضعف الإجراء والمنهج، زيادة عن عدم قراءة الفلسفة لمعرفة الأسس المعرفية والفكرية التي يقوم عليه هذا المنهج أو ذاك.
إن طغيان النظري على التطبيقي في النقد الأكاديمي جعله يغرد، مثلما قلتِ، خارج الأدب فلا يلمس جوهره ولا أعماقه السردية وبنياته وحالاته الجمالية وتيماته وترميزاته، ثمّ إنّ الهروب لما هو جاهز دون بذل جهد كثقافة نسخ/لصق [copier/coller] الشائعة اليوم في تعليمنا بدءا بمدارسنا وثانوياتنا وجامعاتنا تساهم بشكل وفير في جعل (الباحث/الناقد) ببغاء يعيد كلام الغير دون فهم، وهو السائد اليوم في النقد الأكاديمي والدراسات الأكادمية عموما.
إنّ الجامعة الجزائرية اليوم لم تعد قادرة على إنتاج المعرفة ولا المعنى فهي تعيش حالة ارتهان لكل ما هو حداثي دون وعي لهذا الحداثي.
ببساطة صار النقد الأكاديمي مجرد استعراض لمجموعة من المفاهيم والمصطلحات وأسماء النقاد والفلاسفة دون علم بالخلفيات الثقافية والمعرفية. إننا نتحول، ببساطة، إلى مجتمع يَنْقل ويعيد ما نقل ليبرز فيما نقل مكتفيا بما النقل.

 

إسماعيل يبرير/ شاعر وروائي

أدعياء، كُتاب ونقاد لا يتبادلون الأدب

يبدو أحيانا وكأن الكاتب والأكاديمي يتكلمان لغتين مختلفتين، بل لغات عدة، ولست أدعو هنا إلى توحيد لغة الطرفين، لا لسبب إلا لأن المسافة التي بينهما إنما هي مسافة متخيلة، فلا يوجد لغتين بل أفقين ورؤيتين وتصلّب.
يكتب المبدع وهو يقترب من ذاته ويجعلها مرآة وربما مجهرا يقدّر الحالات والأوضاع والحياة، بينما يكتب الناقد الأكاديمي على الأقل –أو يفترض فيه أن يفعل- وهو يقترب من النص بأدواته ومفاهيمه الموضوعية، هل هذا ما يحصل في العلاقة بين كاتب وناقد أكاديمي مفترضين؟ لو أن هذا هو التوصيف أكاد أجزم أن المشهد بخير ولا يتطلب تذمر أحد منا، بل إننا وصلنا درجة من الكمال.
إن تجربة بسيطة مرت عليّ جعلتني أكفر بالنقد الأكاديمي، لقد سبق أن كنت في اتصال مع عدد من الطلبة ورغبوا في دراسة بعض أعمالي ضمن مسارهم الجامعي، ولم يكن هناك من مانع سوى الأستاذ المشرف الذي يسعى إلى دراسة ما تكرّس في المجال البحثي وتأسّس على أثره تراكم يمنحه أريحية في اختيار المنهج والأداة وتوجيه الطالب إلى «بلاجيا» مقنعة، عادة ما كنت أجد الطلبة في حرج، وهو مؤشر خطير يوحي بأن مفهوم «النقد الأكاديمي» غير مؤسس في الجزائر، فباستثناء بعض الممارسات الفردية لا يمكن الحديث عن نقد أكاديمي.
لقد تعرضت مؤخرا إلى موقف غريب عندما اتصل بي «دكتور» يدرس النقد في جامعة بشرق البلاد، وطلب أن يتعرف عليّ ومن أكون وما هي اهتماماتي؟ اعتقدت أن الأمر يتعلق ببحث أو اشتغال معرفي يخدم همنا المشترك، لأكتشف أن الرجل لا يعرفني ولا يعرف أغلب الكُتاب في الجزائر، دكتور ويدرس النقد، لكنه في غنى عن النص الجزائري وغير الجزائري أيضا بل ويسأل إن كنت أكتب بالموهبة أم بالخبرة؟
إن جزءا مهما من الكُتاب الجزائريين هم أصدقاء ومعارف جمعتني بهم الصدفة والرغبة والموقف والظرف غير مرة، وأستطيع أن أؤكد أن الكثير منهم بريء أدبيا، والبراءة في الأدب لا توازي العذرية من حيث المفهوم فهي تخدم عكس المعنى الظاهر لها، أن تكون بريئا يعني أن يكون أفق تلقيك ساذجا، تعبد النص في حالته السطحية، تعتقد أن الكتابة فعل منعزل عن الفكر والرمز والقصد، وأنها حالة إنسانية وجدانية، هؤلاء الكُتاب لا قِبل لهم بمصطلحات ومفاهيم النقد، ولا يمكنهم أن يستوعبوا الإجراءات النقدية والدراسية المعقدة التي تحول النصوص إلى أرقام وإحصاءات ومخططات، بل إن نقدا انطباعيا قد يكون عصيا بالنسبة لهمإن لم يكن مجرّد اعتداء سافر على قدسية الأدب. أخجل أن أقول أن النقاش الأدبي في الجزائر وفي الغالب منخرط في «ما الأدب» أو «ما دور الأدب ووظيفته في المجتمع؟»، أخجل أن أعترف أن الأدب في الجزائر يشكو من أدعياء لا عد لهم ويشكو أكثر من معرفيين وأصلاء لا ينبرون للأدعياء.
في النهاية تبقى العلاقة بين كاتب وناقد أجمل منها بين كاتب ونصه، هذه وجهة نظر كاتب لم يكتب أحد عن روايته «وصية المعتوه» مقالا أو دراسة إلا الناقد الجميل قلولي بن ساعد، فهل يبدو المشهد والنقد بخير إذا كانت رواية متوجة ومحتفى بها خارج الجزائر غير مؤهلة للدراسة والنقد؟ هناك طبعا أدعياء، كُتاب ونقاد يتبادلون الحقد لا المعرفة والأدب.

 

بشير مفتي/ روائي

أغلب الدراسات الأكاديمية بعيدة عن تقديم رؤية متكاملة للنصوص والمنهج فيها أهم من النص ذاته

أعتقد أن النقد الأكاديمي يساير ما يُكتب في الرواية والقصة والشعر، خاصة وأن معاهد الأدب أصبحت كثيرة اليوم، والمشكلة أن ما يُكتب إلا في حالات نادرة يشكل قيمة مضافة أو مهمة للأدب، وغالب الوقت هي دراسات يهدف منها الباحث أو الطالب لنيل شهادة، وكثير منها لا نجد فيه ما يمتع أو يسر، ولكن طبعا لكل ذلك أسبابه ولا أحب من جهتي تجزئة المشاكل لأنها مترابطة ولا يمكن أن يكون حال جهة أحسن من الجهات الأخرى فنحن نعيش فترة اضطراب وفوضى وعدم وضوح الرؤية، أي نعيش أزمة ثقافية شاملة وواسعة والنقد جزء منها، ورغم ذلك لا أحد ينكر أهمية بعض النقود الأكاديمية التي قدمت حول النصوص الروائية مثلا، لكن تظل الأغلبية بعيدة عن تقديم رؤية متكاملة للنصوص فهي تميل لدراسة جانب واحد أو وفق منهج محدد يصبح المنهج فيه هو الأهم من النص ذاته، ثم هنالك تكرار الأسماء واللهاث خلف الإجترار حتى إننا لا نستطيع أن نميز بين دراسة سيمائية لبن هدوقة أو وطار،..الخ.
النقد الخلاق، هو نقد يدرس بعمق ورزانة النصوص ويتتبع خطواتها الجنينية ويساير تطورها ويكشف نقاط جمالها وقوتها، ونحن عندنا لا أشعر أنني أستفيد من هذا النقد. طبعا كما قلت الخلل في المنظومة الثقافية بكاملها وفي غياب النماذج/القدوة، وغياب الحس بالمسؤولية والأمانة حتى عند دارسين كبار، تصوري دكتور روائي يشرف على طلبة يدرسونه أين حدث هذا بربكم؟، لا يحدث هذا إلا عندنا وبشكل وقح ولا يندد به أحد.

 

علاوة كوسة/شاعر وروائي

هناك مقاربات أكاديمية قليلة جدا استطاعت أن تكون  في مستويات النصوص

لم يُكتب النصُّ الأدبي إلا ليُقرأ، ولم ينشد إلا ليُسمع، واختلفت مذاهب الكتابة والإبداع وتشظت النصوص أجناسا وفنونا، وتناسلت القراءاتُ مناهجَ نقديةً وطرائقَ للتلقي بأدوات مختلفة، وظلت الكتابةُ والنقدُ خطّين متلازمين يتقاطعان أحيانا ويتقاربان فعلا وتلك القراءة السليمة المنتِجة التي تستبطن النصَّ الأدبي وتحاول الإقتراب من جوهره وتكشف بعض جمالياته بروح علمية ولمسة فنية لا تفقده سحرَه الإبداعي ولا عذريتَه الفنية بمصطلحات جافة تصم الأذنَ الموسيقية والعينَ الكاشفة والقلبَ المدرك لبواطن تلك النصوص، لكن أنا مع الرأي القائل بأن الكتابة الأدبية ونقدَها يظلان خطين متوازيين لا يلتقيان على فائدة ولا يجتمعان على غاية علمية فنية مشتركة، وذلك منذ أن صار النقد مصطلحات وترميزات وتهويمات غامضة مثقلة بالإحالات والتخفي وراء المقولات الجامدة التي نجهل محاضنها الأصلية ولا نقوى على فهمها في أغلب الأحوال ونتجرأ ونطبقها مغتصبين كثيرا من النصوص، بطرائق أبعد ما تكون عن قراءة النص وبمناهجَ أشد غموضا من أن تتعرف على مقولاتنا ومقولات النص ومفاتيحه، مخادعين بها الناصّ َومن يتلقى النصّ ونقدَه.
وحين نتحدث عن النقد الأكاديمي للنص الأدبي ليس علينا أن ننظر إلى الموضوع بغرابة ودهشة أبدا، بكل بساطة، للأكاديمي أدواته القرائية ومنهجيته التي تضبط مقارباتِه ومنظومتَه النقدية التي يحاول أن يتسلح بها مستقويا على سلطة النص، راغبا في فك شيفراته وفك مغاليقه للاستماع لمقولاته واستكناهه والاستمتاع به وتمتيع القراء به. ولكن هل كل من يمتلك الأدوات النقدية يمكنه قراءة النص أم إن الأمر كمقص في يد طبيب وآخر في يد خيّاط محترف وآخر في يد سفاح؟؟
النقد الأكاديمي ببساطة لا يحكم له أو عليه إلا الأكاديميون، وذلك لأن الكثير من قراء هذا النقد هم من الأدباء الذين ينتظرون منه شيئا يمدحهم ويظهرهم كفاتحين ولا يستوعبون كثيرا من مصطلحاته ومقارباته ومساءلاته، فيحكمون على أنه بعيد عن عوالم النص فراسخَ دلالية وأنه لا يمت بصلة لما يقولون ويقصدون في زمن أن الأديب لا يقول ما يقصد إنما النص هو الذي يقصد ما يقول.
في الجزائر، كما في الوطن العربي، هناك مقاربات أكاديمية قليلة جدا تلك التي استطاعت أن تكون في مستويات النصوص التي قاربتها بالدرس والتحليل، وفي هاته المقاربات القليلة الجادة والعميقة ما يستحق الإشادة والفخر، لأنها مقاربات كانت بعيدة عن أي إشهار أو تشهير.
وكمخرج من هذا الجدل، أرى على الكتاب والأدباء أن يقرؤوا النقد بجد، مثلما على النقاد والأكاديميين أن يعيشوا النصوص التي ينقدونها ويقاربونها بروح حميمة وفائض جمال لأنها من سلالات الفن والإبداع، رغم أنني أتساءل دوما: هل يمكن أن ينقد الشعر إلا شاعر ومَن الأجدرُ بولوج عوالم النصوص الأدبية أهو الأكاديمي العادي أم الأكاديمي المبدع الذي يعرف النص من الداخل؟؟ وهل يمكن أن نتحدث عن نقد غير أكاديمي؟؟.

 

عبد الكريم ينينة/ قاص

النقد الأكاديمي يمجد نفسه ويستعرض عضلاته  أمام الإبداع

النقد الأكاديمي، هو فعل قرائي علمي تتعاطاه في الغالب النخبة المتخصصة، له أدواته ومناهجه العلمية المؤسسة على قواعد ثابتة، ومعالم واضحة، هدفه إستكناه خبايا النصوص وجمالياتها سواء قصدها المبدع أو لم يقصدها. إذ يستنطق النقدُ الإبداعَ بعيدا عن الكاتب، ومن داخله أيضا، ومن حوله.
ولعل كثيرا من الدراسات النقدية ينأى عنها القارئ العادي، وأقصد به المتلقي المتذوق للنصوص الأدبية، وذلك بسبب اعتمادها في تناولها للنصوص على هذه الأدوات الأكاديمية المدججة بالمنهج، المصفح بدوره بتراكمية معرفية وفكرية، تقتحم النص أو إحدى زواياه التي لا يمكن أن يصلها النقد الانطباعي أو الكلاسيكي، لقد صار النقد في عصرنا يعتمد على علوم أخرى خارج علم الأدب واللغة، فعلم النفس، والاجتماع، والتاريخ وعلوم أخرى صارت من روافد أو من دعائم النقد في عصرنا، لهذا يجد المتلقي العريض صعوبة في تقبل هذا النقد الذي لا يتوخى المتعة على حساب التفكيك أو التشريح والبحث في أغوار النفس أو الرجوع إلى التاريخ والأنثروبولوجيا، هذا القارئ الذي لا يريد بديلا عن متعة النص الذي يتلقاه بذوقه أو ملكته أو ثقافته البعيدة عن عالم النظريات والركام الهائل من المصطلحات والتسميات غير الثابتة، وأحيانا حتى صاحب النص يجد نفسه من خلال هذا النقد مكتشفا لكاتب آخر غيره، ولمعاني لم يفكر فيها إطلاقا، وكثيرا ما رفع النُقاد من شأن نصوص متواضعة حين قولوها أو نسبوا إليها من المعاني السامية ما لم يكن يرمي إليه صاحبها.
أحيانا يكون النقد إبداعا آخر بجانب النص، وهذا يتطلب قدرات خاصة ومجهودا من الناقد، لكي يصل نقده العلمي إلى مرتبة الإبداع بجمالياته وانسيابيته، شخصيا، ما حدث مع نصوصي على قلته، أعتبره من الاستثناءات التي يصنعها بعض الدارسين والنقاد عندنا، إذ أسعدتني تلك القراءات التي صاحبت نصوصي، فهي قراءات أصحابها دارسون مبدعون، (وهذا ما يصنع الفارق) مما جعلها تصل مرتبة الإبداع، وتحقق شرط الإمتاع فيها، وأنا محظوظ بذلك، أما في الغالب فما نجده هو دراسات صارمة موجهة إلى الدارسين والمختصين فقط، إذ لم يعد النقد ذلك الفن الذي يعتمد على ملكة الفهم والذكاء اللغوي الذي يتلقف المعنى ويحتضنه، ليعيد إنتاجه ويضعه أمام المتلقي، بل صار النقد يهتم بنفسه فقط، لقد صار نشاطا يمجد نفسه بعدما كان يمجد النص، ومن ثم يصاحبه في حله وترحاله، صار يستعرض عضلاته أمام الإبداع، فأغلب الدراسات الأكاديمية حول الأعمال الإبداعية بعد أن تقرأها تخرج بانطباع هو أنها تقول لك: ها أنا ذي، زيادة على أنها غارقة في النظرية و»المصطلحاتية» التي إلى حد الآن لم يتفق الدارسون العرب على توحيد ترجمة المصطلح في النقد الأدبي، إذ هاته المناهج والنظريات وافدة علينا وغربية بالأساس، وكما هو الحال دائما فإن الغرب ينتج الشيء ونحن نختلف في تسميته، لقد ساهمت الدراسات النقدية الأكاديمية في رفع المستوى العلمي داخل أسوار الجامعة فقط، ولم تخدم النص خارجها، حيث فضاء مقياس رواج وانتشار الإبداع.

 

 

الرجوع إلى الأعلى