
ركزت رسالة اليوم العالمي للغة العربية لهذا العام 2025، من طرف اليونسكو،على موضوع «آفاق مُبتكرة للغة العربية: سياسات ومُمارسات من أجل مُستقبل لغوي أكثـر شمولاً». ويأتي موضوع أو شعار هذا العام، اِحتفاءً بقدرة اللّغة العربية على التكيف مع التحوّل الرقمي وتأكيد دور التعليم والتكنولوجيا والإعلام في تعزيز حضورها، لتصبح لغة حية ومرنة وميسرة لمجتمعات أوّسع، مع الحفاظ على أصالتها وتُراثها الغني. كما تدعو رسالة اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية (المُصادف لـ18 ديسمبر من كلّ عام)، لاِستخدام الاِبتكار لخلق مسارات جديدة للغة العربية، مِمَّا يضمن لها مكانة قوية في العصر الرقمي ويفتح آفاقاً للتنمية الشاملة. في مرحلة تشهد تحوّلاً رقميًا مُتسارعًا، يُبرز المبادرات التي تعزّز حضور اللّغة العربية في النُظم التعليمية والمنصات الرقمية. لكن، هل ساهمت المنصات الرقمية في حضور اللّغة العربية بشكلٍ أكثـر وأكثف؟، وإلى أي حد ساهمت في إشعاعها وتجذر وترسيخ وتعزيز مكانتها بين اللُغات التي تنتشر في مختلف المنصّات؟ ونقصد بإشعاعها وتجذرها وترسيخها من مستويات مختلفة: أي (نطقًا وكتابةً وقراءةً واستماعًا). أيضًا هل قدمت هذه المنصات طرائق جديدة لحضور أو لتعزيز اِستخدام اللّغة العربية في العصر الرقمي؟ وبمعنى آخر ما هو دور المنصات الرقمية في حضور وإشعاع اللّغة العربية؟، وهل تحقّقت –هذه الأخيرة- كهوية ثقافيّة في الفضاء/ والعصر الرقمي؟ حول هذا الشأن، «اللّغة العربية والمنصات الرقمية»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الكُتّاب والباحثين الأكاديميين، وقد اِختلفت وتباينت الآراء، لكنها تتقارب في الكثير من النقاط.
أعدت الملف: نوّارة لحرش

* الأستاذ والباحث الأكاديمي عبد السلام فيلالي
المنصات الرقمية ساهمت في حضور اللّغة العربية
يقول الأستاذ والباحث الأكاديمي الدكتور عبد السلام فيلالي: «إنّ التعريف الّذي نضعه للمنصات الرقمية، يكون بالنسبة للتواصل التفاعلي بين عدد كبير من النّاس من مُختلف الفئات الاِجتماعية والعمرية والمهنية. وحينما نتحدث عن التفاعل يسحب الأمر معه أدوات التواصل والرموز المتصلة وفي مقدمتها اللّغة. ومِن حيثُ هذه الرحلة الطويلة مع هذه المنصات التي صارت جماهيرية في ظرفٍ وجيز، يصبحُ التعريف شاملاً بسبب الوظيفة التي لعبتها وتلعبها هذه المنصات، إلى الدرجة التي صار يتم الحديث عن هندسة اِجتماعية».
مُضيفًا في ذات الفحوى: «وعن حضور اللّغة العربية في هذه المنصات، بودي العودة إلى الوراء حينما بدأ اِنتشار اِستعمال الهاتف النقال في بداية الألفية، وكُنا في الجزائر حينذاك نستخدمُ هواتف تستخدم لوحة مفاتيح بأحرف لاتينية، فكانت طريقة الكتابة عرجاء للذين يريدون الكتابة باللّغة العربية بِمَا أدى إلى بروز أسلوب هجين للتعبير. وعندما بَدَأَ اِنتشار الهواتف الذكية قبل عشر سنوات أصبحت الأحرف العربية مُتاحة بحيثُ سمح ذلك بالكتابة مُباشرةً بها، فزاحمت الأحرف العربية الأحرف اللاتينية في البداية ثم حسمت الأمر لصالحها».
ثم أردف مستطردًا: «مع مرور الوقت صارت الكتابة باللّغة العربية الفصحى هي وسيلة التواصل والتفاعل، ووجد الآخرون الذين لم تكن اللّغة العربية هي لغتهم الأولى أنفسهم مضطرين إلى اِستخدامها لأجل الولوج إلى منظومة النشر والتعليق وتبادل الآراء. هنا قدرتُ في تلك الفترة أنّ اِستعمال اللّغة العربية يشهدُ طفرة لم يسبق لها مثيل في السابق. حين تطوّر الأمر إلى حد أنّ هذا الاِستعمال صار يعني التدريب والتطوير، وبالتالي تحسين مستوى الاِستخدام. إنّ هذا تأتى بسبب التفاعل المُباشر والمُستمر بين المُتمكنين منها والمُثقفين من جهة وبين أصحاب المستوى المحدود».
وهكذا أمكن القول -يُؤكد المتحدّث- أنّ هذه المنصات الرقمية قد ساهمت مساهمة فعالة في حضور اللّغة العربية بشكلٍ أكثر وأكثف.
مشيرًا في ذات المعطى، إلى أنّه «يجب ذكر أيضًا التطور المُستمر في أدوات هذه المنصات، مثل أدوات الترجمة التي صارت تُتيحُ الترجمة الآلية إلى اللّغة المُستخدمة، وبالتالي لم يعد يوجد ذاك الحاجز بين اللغات».
ذات المتحدّث أضاف مُوضحًا: «ثم هناك أمرٌ مهم في هذا الحضور، إنه يتمثلُ في نشر محتويات تُساعد على تدعيم التمكن من اللّغة العربية وأيضا التعريف بجوانب مهمة من الثقافة العربية. حيثُ نجد روافد عديدة ومُتنوعة خاصةً التي تكون بالصوت والصورة، وبالتالي تَمَّ نقل محتوى ثقافي مُكثف ومُتميز. ذلك ما أتاحته أيضًا الفيديوهات القصيرة التي تجعلُ المُستخدم يندمج مع رسائلها. وكمثال نورد حضور اِسم الروائي الروسي دوستويفسكي، حيثُ شاهدنا اِقتباسات كثيرة من أعماله الروائية».
ومواصلاً في ذات الفكرة يقول: «يبدو لي أنّ أكثر ما دعم حضور اللّغة العربية هو النقاشات التي تدور حول قضايا مجتمعية وسياسية التي تجلب اِهتمام كلّ فئات المجتمع، هذا الاِهتمام يعني الفهم والاِستيعاب. وهنا نستحضر دور ما يسمون بالمؤثرين الذين يتناولون مواضيع مُتباينة وفي شتّى مجالات الحياة». والخلاصة -حسب رأيه- أنّه «يمكن تشبيه دور هذه المنصات الرقمية في دعم اللّغة العربية وثقافتها بِمَّا أدته المطابع في نهاية القرن التاسع عشر في نشر المعرفة والوعي وفي تطوّر اللّغة العربية وانتشارها».

* الكاتب والناقد وليد خالدي
الفضاءات الرقمية لعبت دورًا مركزيا في العربية
أما الكاتب والناقد الدكتور وليد خالدي، فيقول: «إنّ أشكال التواصل الحديثة عملت على خرق وجوه النشاط البشري المألوفة والسائدة، ونخص بالذكر، ها هنا، المنصات الرقمية مُتعدّدة الوسائط، مُمثلة في الفايسبوك، تويتر، سنابشات، إنستغرام، وآتساب، تيكتوك، ويوتيوب، وتطبيقات الهواتف الذّكيّة وغيرها من المواقع الإلكترونية».
فأضحت -حسبَ اِعتقاده- تُشكلُ قمة الهرم في تسيير فضاءات الحياة، تماشيًا مع الدور البارز الّذي لعبته في مدّ جسور التواصل، من خلال العروض المُقدمة على مستوى نقل الأفكار والآراء، وتبادل المعلومات والرسائل وغيرها من العروض، والتي أكدت حضورها الفاعل ضمن العملية التواصلية بين النّاس، أو أفراد الجماعة الواحدة داخل الوجود الإنساني.
وبالتالي -يضيف المتحدّث-: عكست في واقع الأمر عصرنا الحالي، بِمَا حظي به من خصائص وسمات ومزايا، جعلت من المُمارسة داخل الشعوب والمجتمعات على اِختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها وعاداتها وتقاليدها؛ تعيشُ نمطًا حياتيًا مُغايرًا.
من هنا، فإنّ كسر منطق الاِنعزال تجاه الآخرين، -حسب رأيه- جاء تلبيةً للحظة الزمنية التي فرضت نفسها على إيقاع الحياة المُعاصرة.
ثم أردفَ مُتسائلاً: «واِنطلاقًا من هذه الصورة الحية والملموسة، فإنّ التحدي الكبير الّذي يُواجهنا في هذا السّياق، يتمثلُ في الإشكال التالي: هل كان لمواقع المنصات الرقمية إسهامٌ فعليّ في تعزيز اللّغة العربية وخدمتها على أكمل وجه أم كانت نقمةً ووبالاً عليها؟. وأينَ ندرج مكانة اللّغة العربية ضمن التقنيات المُعاصرة، أو من خلال المنصات الإلكترونية، وذلك تبعًا لمستخدميها من حيثُ درجات الشعور والاِهتمام والقيمة بين بني جلدتها مقارنةً بالأجناس البشرية الأخرى؟». وفي ذات المعطى يُؤكد قائلاً: «تقتضي منا الحقيقة الموضوعية، الإشارة إلى أنّ هذه الفضاءات الرقمية المتنوعة، لعبت دورًا مركزيًا في اِنتشار اللّغة العربية، من خلال بناء محتوى عربي وَسَّعَ من حضورها وتأثيرها، فاستطاعت أن تصل إلى جمهور واسع وعريض على المستوى الثقافي واللغوي، والحالة هذه، تجاوزت الحدود الجغرافية التقليدية في التعليم والإعلام، فجعل منها لغة عابرةً للحدود داخل الوطن العربي وخارجه».
من هنا، -يُشير الدكتور خالدي- «أصبحت اللّغة العربيّة في جوهرانيّتها؛ تُشكلُ وعاءً للهوية الثّقافيّة والقيم الحضارية، ويبرز ذلك بجلاء، في اِستعمال المحتوى الرقمي الّذي خَلَقَ مساحات تفاعلية على مستوى الحوار والنقاش، أو عبر المُبادرات الفردية والمؤسساتية».
الأمر الّذي أَدخلَ -حسب رأيه- اللّغة العربية فضاءً معرفيًا جديدًا عبر منصات رقمية مُتعدّدة، مثل: شبكات التواصل الاِجتماعي، منصات التعليم الإلكتروني، وتطبيقات الهواتف الذكية، وفي نشر المقالات، القصص، الشِّعر، الروايات، فيديوهات، كُتب إلكترونية، كذلك إنشاء مسابقات، حملات ثقافيّة.
كما تجلى -حسب رأيه دائمًا- في اِستحداث قنوات تعليمية للأطفال والكبار لتعليم اللّغة العربية وفنونها، وأيضًا من خلال تطوير أدوات الذكاء الاِصطناعي بالعربية: مُمثلة في الترجمة، التصحيح الآلي، توليد النصوص..
وبالتالي، فزيادة منسوب إنتاج المحتوى العربي، -كما يُؤكد- جَعَلَ من دور اللّغة العربية يقفز على المدلولات الضيقة، بالنظر إليها على أنّها مجرّد وسيلة اِتصال.
ومُستطردًا يُضيف: «بل أضحت تُمثلُ رمزًا للاِنتماء والهوية في الفضاء الرقمي، فهذا الحضور المُتجدّد للخطاب العربي، والمُساهمة في تطوير أساليبه التواصلية والإبداعية المُتجدّدة، عَزَّزَ من هذا التفاعل، من حيثُ الاِنتماء الجماعي للناطقين بها، وساهمَ بشكلٍ أو بآخر في تقوية الوعي الثقافي».
ثم أردفَ مستدركًا: «ولكن التحديات المُصاحبة لهذه النقلة النوعية للغة العربية، يُطالعنا أحيانًا في إضعاف الذائقة اللغوية العربية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: نشيرُ في هذا السّياق إلى المحتويات السريعة والسطحية، وهي محتويات لا تُراعي في مضامينها السلامة النحوية والعُمق الدلالي، فضلاً عن ذلك هشاشة التعبير في الاِستعمال الهجين للغة الواحدة، وللخلط الحاصل بين اللّغة العربية والأجنبية، نتيجة الاِهتمام المُتزايد بلغة الآخر». ويظهر ذلك -حسبَ رأيه- جليًّا، وبشكلٍ عام، في نشر المفردات اللغوية الهشّة والغريبة والركيكة، في ظل تراجع الفصحى لصالح العامية، وبلكنات ولهجات تضر بسلامة اللّغة العربية؛ من جراء تداخل الثقافات واللهجات المُختلفة. وهي -كما خلص في الأخير-: «ظاهرة تكون لها تداعيات خطيرة، ونعزو ذلك، إلى الاِنفصام المُلاَمِس للجوانب السيكولوجية والعقلية، والاِنقسامات الحاصلة على المستوى الذهني والوجداني، الأمر الّذي يحدُ من حضور اللّغة العربية الفصحى كمُمارسة حية، مُقارنةً باللغات الأخرى، والفارق في هذا الصدّد، تصنعه طبيعة الاِستخدام في ظل غياب جودة المحتوى، والوعي الثقافي».

* الناقدة والباحثة الأكاديمية منى صريفق
حضور مميز للغة العربية عبر مختلف الوسائط
ترى الناقدة والباحثة الأكاديمية الدكتورة منى صريفق: أنّ اللّغة العربية باِعتبارها إحدى أهم اللّغات الحية العالمية تحافظ على أهمية دورها ومكانتها الفريدة والمُتميزة في الفترة المُعاصرة، كما أنها تُواجه تحديات كبيرة مُتعلقة بالثورة الرقمية من جهة والعولمة من جهة أخرى.
وتردف موضحة: «ولو حاولنا الاِقتراب من هذا الموضوع لوجدنا أنّ المعلومات التي تتوفر لدينا بخاصة في مجال الإحصاء بخصوص الناطقين باللّغة العربية تقول: إنّ أزيد عن 450 مليون شخص يتحدثون اللّغة العربية، فهي لغة بالفِعل أسست لاِنتشارها لِمَا لها من علاقة بالأُمم التي تتكلمها، واتخذت منها لغة دستورية ولغة لديانتها».
في ذات السّياق تواصل: «وكما كان الحضور الفعلي للغة العربية على مستوى المُمارسة واقعًا كان كذلك على مستوى المُمارسات الرقمية المُختلفة. فقد ساهمت هذه الأخيرة في تشكيل حضور مُميّز للغة العربية عبر مُختلف وسائطها».وتستطردُ قائلةً: «أعتقد -شخصيًا- أنّ هذه الوسائط قد ساهمت ومازالت ليومنا هذا تُساهم بشكلٍ جوهريّ في حضور اللّغة العربية، ولا يخفى على الكثير منا الموجات الهائلة المُتعلقة بوسائل التواصل الاِجتماعي مثل اليوتيوب والمدونات الشخصية والعامة، والبودكاست المصور صوتًا وصورة والّذي يتخذ من لغة محتواه اللّغة العربية؛ مِمَّا أتاح المساحة لعدد لا يُستهانُ به من المستخدمين للتعبير باللّغة العربية وإعداد محتوى فيها وعنها على حد السواء. وهذه نقطة حيوية تُساهم في تعزيز التواصل العابر للحدود اليومي السهل والسلس بين الأفراد».
كما أنّ فكرة وجود هذا العدد الهائل من المُستخدمين للوسائط الرقمية والمنصات العالمية -حسب الدكتورة صريفق- جعل من مطوري التقنيات التكنولوجية الداعمة يبحثون بشكلٍ جدي للغاية في ضرورة تطوير أدوات المُعالجة الآلية للغة العربية والذكاء الاِصطناعي؛ بخاصة تلك الآليات التي تُعنَى بِمَّا يُعرف بالترجمة الفورية والآلية وذلك لجعل فكرة مُعالجتها رقميًا أسهل وأسرع.
وهُنا تستدركُ المتحدّثة، مُواصلةً في ذات الفكرة: «بالإضافة إلى ذلك نجد بأنّه وإن كان التطوير قد مَسَ الآليات الداعمة للمنصات الرقمية على مستوى آلياتها فقد مَسَ اللّغة العربية في حد ذاتها لكي تُنتج مُصطلحات تُعَبِرُ عن مدى مرونتها ضمن البُعد الرقمي، فقد حَفَّزت التكنولوجيا على توليد مفاهيم رقمية جديدة وجب الاِهتمام بها في جانب التعريب. كما ظهر بقوّة جانب التعليم والتعلم عن بُعد وهو في نظري أهم المعطيات الرقمية المُعاصرة التي تُساهم في اِنتشار اللّغة العربية، وانتشار أساليب جديدة في هذه اللّغة كالأساليب المُختصرة والألفاظ المُبتكرة؛ بحيث نجدها تستخدم في الرسائل النّصيّة عبر الهواتف النقالة».وفي المُقابل، تُشير –المتحدّثة- إلى أنّ تتبع كلّ هذه المعطيات التي ساعدت على اِنتشار اللّغة العربية رقميًا يفتحُ أمامنا المجال مُباشرةً نحو العديد من التحديات التي تمر بها كذلك.ثم تواصل في ذات المعطى: «فالمُمارسة إن كانت ذات بُعدٍ إيجابي في مُعظم الأحيان إلاّ أنّها كذلك تنحى بجوهر الموضوع نحو مناح سلبية وأوّل تلك التحديات هو المستوى الفعلي للغة العربية الّذي يتمُ تداوله رقميًّا؛ إذ نجده بالرغم من العمل الدائم على زيادة عدد المنصات الرقمية التي تُعالج المواضيع باللّغة العربية إلاّ أنّ المحتوى في حد ذاته يحتاجُ إلى إعادة نظر في أغلب محاولاته، فالمحتويات التي تشتغل وفق لغة عربية مُتقنة وخالية من العيوب اللغوية والأسلوبية تكادُ تُعدُ على الأصابع».
وذلك -حسب تأكيدها-: «لأنّ فكرة الأساليب الهجينة وغير الرسمية ودمجَ الكلمات العربية بنظيرتها الإنجليزية أو الفرنسية قد اِنتشر وساهم بطريقة عكسية في اِنتشار الأخطاء وإضعاف المهارات الكتابية لهذه اللّغة. بخاصة كذلك لو علمنا أنّ الأدوات التي ذكرناها سابقًا والمُتعلقة بالترجمة الفورية والآلية التي يشتغل المطورون التكنولوجيون على تطويرها مازالت ليومنا هذا تُلاقي صعوبة بالغة في تطوير هذه الآليات على المستوى العميق للغة العربية، لِمَا لها من أبعاد لغوية عميقة ومُعقدة مقارنةً باللُغات الأجنبية الأخرى».
بعدها اِختتمت بقولها: «في الأخير نستنتجُ أنّه قد اِستطاعت المنصات الرقمية بالفعل توسيع دائرة اِستخدام اللّغة العربية إلاّ أنّها فتحت أمامها تحديات كُبرى عليها أن تتجاوزها وأن تسعى فعليًّا لتطوير حضور فاعل عميق لها وليكن بعيدًا عن التهجين والبساطة الفجة».

* الأستاذ والباحث الأكاديمي محمّد بن ساعو
البرمجة واحدة من أبواب الرقمنة وثيقة الصلة برهانات اللّغة
يرى الأستاذ والباحث الأكاديمي محمّد بن ساعو، أنّ اللّغة بوصفها إبداعًا بشريًا وفضلاً عن كونها آلية تواصل كما عرّفها الكثير من المفكرين واللسانيين، فهي كائنٌ يتطوّر ويتفاعل مع الواقع باِستمرار، ومن ذلك الثورة الرقمية التي عرفتها العقود الأخيرة، والتي لم يبق مجال من المجالات بعيدًا عن تأثيراتها وانعكاساتها.
وأضاف: «ما من شك أنّ اللّغة العربية كان لها حظٌ من هذه الثورة؛ التي مسّت جل جوانب الحياة، إذ ونحن نتّجه بخطى مُتسارعة في هذا المجال، فإنّ الحديث عن رقمنة اللغات لم يعد أمرًا بعيدًا عن مرامي العاملين في هذا الميدان، فهل تشهد اللّغة اِستنساخًا لتجارب اتخذت من معطيات مادية قيمية كالعملة مثلاً مجالاً لذلك؟».
وفي ذات المعطى، أردف قائلاً: «يُشكلُ حجم المعارف والمواد المُتاحة على شبكة الانترنت واحدًا من أهم المعايير لتقييم مدى حضور أي لُغة في الفضاءات الرقمية، وإن لم تتمكن العربية من حجز موقع يعكس عدد الناطقين بها، إلاّ أنّ هناك مشاريع تبنتها بعض الجهات الأكاديمية والمُستقلة تستحق التشجيع والتنويه».
ومُستدركًا يُضيف: «لكن ما ينبغي أن يُطرح أيضًا في سياق التحوّلات الرقمية ذاتها هو موضوع البرمجة؛ التي تعدّ واحدة من أبواب الرقمنة وثيقة الصلة برهانات اللّغة، ويبدو أنّ هذا المجال لم يَلْقَ من الاِهتمام الشيء الكثير، خاصةً وأنّ الأمر ليس تقنيًا بحتًا، بقدر ما هو مُرتبطٌ أيضًا بمدى مُواكبة الثورة المصطلحية التي تُرافق هذا التحوّل والاِنخراط».
بن ساعو، -وبالمقابل، أوضحَ- أنّ هذه ليست دعوة لأن تُنافس اللّغة العربية اللّغة الإنجليزية الرائدة في مجال البرمجة والتي تستأثر بأكبر حصة في هذا المجال، لكن المأمول أن يكون للعربيّة مكان بين لغات البرمجة في أنظمة التشغيل والتطبيقات وهندسة التكنولوجيا.
مُضيفاً: «مع وجود لُغات برمجة عربية على محدودية توظيفها وضيق مجالات اِستخدامها، فإنّ السؤال المُحرج الّذي يُطرح هو كيف تتم المُناداة بإدماج العربيّة في التطبيقات والبرامج في وقت يختار الكثير من العرب أو المستخدمين للغة العربية لُغات أخرى لتشغيل البرمجيات حتّى في ظل وجود العربية ضمن قائمة الاِختيارات المُتاحة؟».
يُعيدنا هذا التساؤل -حسب المُتحدّث- إلى الإقرار بأنّ هذا التواري والخجل اللغوي ليسَ مطروحًا فقط على مستوى وظيفية اللّغة العربية في ظل الرهان الرقمي وخطورة الاِستمرار التقليدي لهذه اللّغة على نفسها بِمَا يُشكله من اِنغلاق وتهديد لكيانها، لكن أيضًا على مستوى تلقي مستخدم اللّغة العربية ذاته وتعامله معها كلغة تُراثية.

* الشاعر والمترجم ميلود حكيم
وضع اللّغة مرتبط بمدى تطوّر مستعمليها
يقول الشاعر والمُترجم ميلود حكيم،: «إنّ الوضع الاِعتباري لأي لغة، مُرتبطٌ بمدى تطوّر وحيوية مستعملي تلك اللّغة، ومستواهم الحضاري، ورقيهم.. ولا يمكن لأي لغة أن تكون قوية، حضورًا وفعالية، في وسط مُتخلف، لهذا لا يمكن الحديث عن اللّغة العربية، ونحن نحتفل باليوم العالمي لها، دون أن نلتفت للحالة التي توجد فيها، والتي لا تدعو للسرور، ذلك أنّها تُعاني من أمراض تصيبُ كلّ اللغات القديمة، التي تتحجر وتُرمى في المعاجم، لأنها تفقد تلك العلاقة الحيوية مع العالم والأشياء، وتصيرُ لغة ماض، لا لغة حاضر ومُستقبل». مضيفًا في ذات السّياق: «ما يحدثُ للعربية، مرتبطٌ بتخلف العرب، ثقافيًا وعلميًا، وتحولهم إلى مجرّد مُستهلكين لِمَا يُنتجه الآخرون في مُختلف المجالات. هذا السقوط الحضاري واكبهُ تقهقر لمكانة اللّغة العربية، وتراجع في أهميّتها، لأنّها لم تعد لُغة إبداع وابتكار، ولم تُجدّد محتواها وأشكالها، ولم تنفتح على الواقع المعيش، والراهن الفكري والعلمي، وذلك لعدة أسباب، على علاقة بكونها لغة قديمة ومُقدسة، لا تستجيب لحيوية التغيير بسهولة، ومحروسة بأسيجة دوغمائية، تُحنطها في تصوّرات ثابتة لم تتغير».ذات المتحدّث واصل مُستطردًا: «رغم كلّ المزاعم المُتداولة حول مكانة اللّغة العربية في العالم، وانتشارها الكبير، إلاّ أنّ هذا الاِدعاء لا يصمد أمام إحصائيات بسيطة للحضور النوعي لا الكمي لهذه اللّغة.. إذ هي لغة لا يتقنها أبناؤها، في غالبيتهم العامة، كما أنها لغة تكاد تغيب في الاِستعمالات اليومية في البلدان العربية، خاصةً في الخليج، ومدعو اِستخدامها، يُفضلون اللّغة الإنجليزية، ولغات أجنبية أخرى.. هذا كله يجعلنا نطرحُ أسئلة أخرى، ونوجهُ النقاش إلى أُفقٍ مُختلف. إذ كيف نُعيد لهذه اللّغة في ظل التغيرات التي يشهدها العالم، حيويتها وفعاليتها».
مُشيرًا في هذه النقطة تحديدًا، أنّه «يجب في البداية إعادة النظر في قواعدها القديمة، وتجديدها، كما فَعَلَ العرب في عصورهم الذهبية، كما يجب أيضًا إعادة ربطها بالحياة والواقع المعيش، من خلال اِستعمالها في حاجاتنا اليومية، وتفكيرنا وإبداعنا وعلومنا، على نحوٍ مُختلف وفعّال».والحل الوحيد -حسب رأيه-: «هو ربطها بالتحوّلات التكنولوجية، وجعلها لغة سائلة وشفافة، قادرة على الاِنخراط في العوالم الاِفتراضية، والاِستجابة لمتطلبات السرعة والتغير.. أي جعلها مرنة، مطواعة، وحيوية».
مُؤكدًا بهذا الخصوص: أنّ دور المنصات الرقمية في إشعاع اللّغة واِنتشارها، وسهولة تداولها، فلا شك أنه ضروري.
مُضيفًا في ذات السّياق: «يكفي أن نُلاحظ أنّ العربية المُتداولة الآن في هذه الوسائط، صارت أكثر خفة، وسيلانًا، وأكثر بساطة.. تقتربُ من لغة الحياة والواقع، وتُعبرُ عن أمزجة الأجيال الجديدة، وهي مزيجٌ من مستويات عديدة، تضمُ الكلام الدارج، وسُنن التواصل وشفراته. وتشف هذه اللّغة لتخرج من البنية المعجمية، إلى الأُفق السيميولوجي، حيثُ العلامات هي التي صارت تقود اللّغة، وتُثري محتواها». وأردفَ مُؤكدًا: «نحنُ في عوالم الصورة، والأزمنة السائلة، والسرعة المُذهلة، وعلى اللّغة أن تستجيب لذلك، وأن تتخفَّف من أسمالها البالية، وتصير لغة إبداع وابتكار.. دون هذا لن تُفيد المنصات الرقمية اللّغة العربية، لأننا سنبقى في الاِستهلاك، ولا نضيف شيئًا للعالم».واختتمَ بقوله: «المطلوب الآن أن تحدث اِنتقالة في المفاهيم والتصوّرات، وأن نخرج من حالة التبعية إلى حالة النهوض الحضاري، واستيعاب التطورات التي تحدث بسرعة، لا بمنطق التلقي السلبي، بل بمنطق المُساهمة النوعية، في اِبتكار مجالنا الحيوي، وأدواتنا التي نُواجه بها أسئلة العالم.. وفي هذا الأُفق تكون اللّغة العربية هي بؤرة هذه الرؤية».