جاءت أحداث غزة، لتضع مرةً أخرى المثقف في مواجهة الإشكالية الأزلية "المثقف والسياسة"، ولتفتح السؤال مجددا عن ثنائية المثقف والسياسة، ومكانة هذا المثقف وعلاقته بالسلطة ومن ثمَّ بالسياسي والإيديولوجي. فالشائع والمعروف أنّ علاقة المثقف بالسياسة والسياسي، ظلت ملتبسة ومتباينة على مر الأزمان والعصور، خاصة في الواقع العربي، حيث تأخذ جدلية المثقف والسياسة أبعادا متصاعدة ومتصادمة في أغلب وأكثر الأحوال.

أعدت الملف: نوّارة لحـرش

 كما ظلت الأسئلة في هذا الشأن تتناسل في كل مرة وبلهجات ونبرات مختلفة في مستوياتها وخلفياتها. من بين الأسئلة التي ظلت تُطرح حول ثنائية الثقافة والسياسة وعلاقة المثقف بالسياسة: هل المثقف ملزم بأخذ مواقف سياسية؟، وهل له أدوات السياسة التي تمكنه من إبداء الرأي أو أخذ مواقف في قضايا راهنية ومحورية؟، وهل على المثقف أن يكون معنيًا بالسياسة أو منتميا لها، وأيضا ما الحدود بين السياسة والإبداع؟، وهل أنّ الخوض في السياسة ودخولها يُبعد المثقف عن مجاله الحيوي والمحوري (الفكر والكتابة والإبداع)؟. وهل يجب على المُثقف أن ينتمي إلى الفِعل السياسي ويُمارس دوره السياسي من خلال رؤيته السياسيّة الخاصة؟ وهل يمتلك كلّ أدوات السياسة المنظمة أم فقط يمتلك قلمه وفكره؟ وهل يمكن لعدم اِنخراطه في الحقل السياسي أن يُقلص دوره ويحد فعاليّته؟. حول هذا الشأن "المثقف والسياسة"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الكُتّاب و الأكاديميين، من مختلف جامعات الوطن، والذين قاربوا الموضوع من وجهات نظر مختلفة وقراءات وآراء متنوعة.

 

* مخلوف عامر
 المثقف الّذي يتوهَّم الحياد فيما هو مصيري لا يدرك قيمة وجوده
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور مخلوف عامر: "ربّما القرن العشرين أبرز فترة تمَّ التركيز فيها على مكانة المُثقف ودوره في المجتمع. إذ كان لاِنقسام العالم إلى معسكرين وللفلسفة الوجودية أثرٌ واضح في بلورة مفهوم الاِلتزام ولو أنّه اتخذ منحى منطقياً خاطئاً في التمييز بين المُلتزم وغير المُلتزم بهدف الفصل بين الحرية والتقييد وكيْ يكون الاِلتزام بمعنى القيْد أُلصق بالتوجُّه الاِشتراكي".
ثُم اجتهد المنظرون -يُضيف المُتحدث- في تحديد علاقة المُثقف بالسلطة ومن ثمَّ بالسياسي والإيديولوجي، فكانت مقولة "غرامشي" عن المثقف التقليدي والمثقف العضوي، من أقوى الأدوات الحجاجية تجاه من يتنكَّرون لعلاقة المُثقف بالسياسي أو تجاه أولئك الذين يدَّعون الموضوعية والحياد. بينما تُؤكد كلّ الأشكال الثّقافيّة أنها لا تخلو من دلالة أو مضمون.
مُؤكداً في هذا السياق أنّ "الأدب والفن من أكثر أنواع النشاط الإنساني إخفاءً للخطاب السياسي/الإيديولوجي ما دعا الفيلسوف (سارتر) إلى أنْ يُخرِج الموسيقى والشِّعر من دائرة الاِلتزام، في حين وبشيء من التعمُّق يظهر أنّ الفن الناجح إنّما هو الأقدر على إخفاء السياسة والإيديولوجيا".
ومُستدركاً أضاف: "لقد كان المتصوِّفون في التاريخ العربي الإسلامي من أكثر الحركات اِلتزاماً بالسرية وأحرصها على لغة رمزية لا تفهمها إلاّ الصَّفْوة، ومع ذلك فإنّ السلطة السياسيّة لم يفتْها أن تفك شفراتها. إذْ جعلوا المعرفة درجتيْن: ظاهرية وهي معرفة العامة التي تتكئ عليها السلطة لتسوس الدهماء، وباطنية وهي معرفة النخبة ليَخْلصوا إلى أنّ الظاهر باطل، وأنّ الباطن حق وبرفضهم المعرفية الظاهرية يرفضون السلطة القائمة، ما عرَّضهم لحَرْف كلامهم والتنكيل بهم".
صاحب "الهويّة والنص السردي"، واصل مُوضحاً: "يكفي أن نعود إلى تاريخنا الوطني. فقد عرفت الحركة الوطنية قبل حرب التحرير مثقفين اِنحازوا إلى مسار التحرُّر. والأدباء منهم لم يكونوا يمنحون أهمية للجانب الجمالي، بل حرصوا على أن يجعلوا من الأدب وسيلة للتوعية بحيث اِستحال الشِّعر -وهو أكثر الفنون تلميحاً- ضرباً من النَّظْم، واستنكف أكثرهم عن الغزل لأنّه لا يليق بالمرء أن يلهو بشطحاته الذاتية في وقت يُعاني فيه شعبُه من الغبن. وخلال حرب التحرير هجر الطلبة مقاعد الدراسة ليلتحقوا بالثورة، كما هجر رياضيون ومثقفون مواقعهم ليُؤسِّسوا فرقاً وطنية في الرياضة والمسرح. ناهيكم عن الفرنسيين الذين تضامنوا مع الثورة ومنهم، أدباء وفلاسفة تحمَّلوا العسف والمضايقات وَوُصفوا بـ (بحمَلة الحقائب) تشويهاً لهم وتحقيراً".
الدكتور عامر، يرى في هذا المعطى تحديداً، أنّ السياسة في جوهرها هي الحكمة وحسن التدبير. فما فائدة الإبداع -كما يتساءل- إذا كان المبدع نعامة يدس رأسه في الرمل ليخرج مزهوّا بعدما تمر العاصفة؟ وهل بإمكانه أن يُبدع –حقاً- إذا هو لم يحمل هموم الوطن وقضايا الإنسان في قلبه وعقله؟
المُتحدث اِستشهد ببعض النماذج التي أشارت إلى مدى أهمية وحتى خطوة الفِعل الثقافي، ومدى أهمية وتفاعلية ثنائية الثقافة والسياسة، وهذا ما نلمسه في قوله هذا: "لقد أدرك وزير الدعاية النازي (جوزيف جوبلز) خطر الفِعل الثقافي يوم قال: (كلما سمعت كلمة ثقافة تحسَّسْتُ مُسَدَّسي). وحين ألقى (كاتب ياسين) محاضرته المعروفة عن الأمير عبد القادر وهو في السادسة عشرة من عمره لم يمنعه ذلك من أن يستمر مُبدعاً محترماً. وكذلك الأمر بالنسبة لـ(الطاهر جعوط) يوم قال: (إذا تكلمتَ تموت وإذا سكتَّ تموت، فقلْ ومُتْ). إنّه طريق الشهادة الّذي اِختاره من قبل: (أحمد زبانة ورضا حوحو ومولود فرعون) وغيرهم".
ولكلّ هذا -يعتقد- أنّ المثقف الّذي يتوهَّم الحياد فيما هو مصيري بالنسبة لوطنه وأمته، إمَّا أنّه لا يدرك قيمة وجوده، أو أنّه يترقَّب ما تؤول إليه الأمور ليغنم سلامته ورزقه.
وخَلُصَ في الأخير إلى القول: "يمكن أن نجد -عبر التاريخ- سياسياً كبيراً من غير أن يكون مبدعاً، لكنْ يستحيل أن نجد مبدعاً عظيماً من غير أن يكون سياسياً أيْضاً. فالمُثقف ضمير وموْقف وليس شرطاً أن يتحزَّب أو يعتلي كرسياً. وإذا ما تمَّ تهميشه أو اِستدراجه، فلأنّه لم يُبدع أدواته الثّقافيّة والتنظيميّة التي تمكِّنه من التأثير والقدرة على التغيير".

* الحبيب السائح
 المُثقف الجزائري في قلب السياسة  ولا إبداع خارج السياسة
يرى الروائي والكاتب الحبيب السائح، أنّ المثقف الجزائري في قلب السياسة وهو يعلو السياسي منصةً ولا إبداع خارج السياسة.
مُضيفاً في ذات السياق: "المُثقف الجزائري، بهذه الصفة التي تعني (التورط) الإرادي في حياة المجتمع العامة، هو في قلب السياسة: تاريخ الجزائر، منذ الاِحتلال إلى الآن، يقول عنه هذا. لذا، فهو مَحل جذب غالبًا لهذه النزعة السياسيّة أو تلك. إنّه في مَحط عين السياسي التي تنظر إليه دومًا باِرتياب".
صاحب "زمن النمرود" واصل قائلاً: "في الأحوال كلها (برغم خساراته على رهانات مشروعات مجتمعيّة تبناها فترجمها في خطابه الفكري أو الأدبي أو الفني أو الإعلامي بفعل الاِنقلاب عليها أو فشلها أو اِنحرافها) تبقى للمُثقف هذه الخصوصية التي تُميزه عن غيره من الكفاءات الأخرى ذات الفِعل المُتخصص جداً، فهو أقدر الأفراد على التأثير في الرأي العام لاِمتلاكه الأدوات التي تجعل خطابه يصل وسائط الاِتصال التي تُعيد نشره على نطاقٍ أوسع، ومن ثمّة حصول الإثارة التي يُحدثها رفْضاً أو تبنّياً"ـ
إنّه يسهم -حسب رأيه- في حركية لدى الأفراد كما عند الجماعات، إنّه، هنا، أقوى من السياسي. كما هو أقدر من غيره على "اِختراق" القرارات بنقده إياها، بأسئلته، حول جدوى ما تقترحه. المُثقف، بهذه الصفة، يعلو السياسي منصةً، إنّه يستطيع أن يرى بشكلٍ بانورامي وبدرجة دوران حول النفس كاملة.
ثم أردف مُؤكداً: "إنّها حتمية أن يكون المُثقف معنيًا بالسياسة. إن هو لخطأ في التقدير تصوّر نفسه خارجها فهو يفقد صفته، إنّه يفسح لأنواع شتى من الوصوليات والاِنتهازيات والفولكلوريات والشطحات والدروشات والرداءات أن تحاصر النزاهة وتُكبل الكفاءة وتُطارد العقل. أليست تلك حالَنا الآن، لتصور المُثقف نفسه خارج السياسة؟ ألم يكن للخطأ في التقدير تخلى عن مجاله الحيوي للسياسي أن يُقرر بدله في ما يعود إليه هو المثقف؟".
وهناَ قال مُؤكداً: "لا إبداع خارج السياسة، أبداً! وإذاً، لا حدود صارمة فاصلة بينهما. إن كانت السياسة، في تقديري، هي أسلوب إدارة شؤون الدولة فإنّ الإبداع الأدبي والفني هو أحد محركاتها الأساسية، لاِرتباطه بالوجدان الجمعي الجزائري. غير أنّ الظاهر، بحسب تجربتنا، هو أنّ السياسة سعت دوماً إلى (تكييف) الإبداع وتوجيهه إلى ما يخدم الأنظمة أكثر من تنميته نحو تعبيرية أوسع عن طبيعة مجتمعنا ذات التنوع الثقافي الهائل، بِمَا يبرز خصوصيتنا".
فالمُثقف، بهذا المعنى، -حسب رأيه دائماً- لا خيار له تجاه السياسي غير اِستقلاليته إن أراد أن يكون في قلب سياسة مجتمعه كما يتصورها، كما يسعى إلى تجسيدها بإسهاماته.

* حمدي أحمد
المثقف الحقيقي يجب أن يكون في طليعة المجتمع
من جانبه الكاتب والأكاديمي الدكتور حمدي أحمد، يقول: "لا شك أنّ المُثقف هو جزء أساسي وفاعل في المجتمع بغض النظر عن مدى مشاركته في قيادة هذا المجتمع، ويأتي ذلك من كون منتجه الثقافي يُساهم في تنوير الرأي العام والتأثير فيه وتعديله، لأنّ الثقافة هي زبدة الوعي الاِجتماعي، ومُؤشر على مدى التقدم الّذي بلغه المجتمع، لكلّ ذلك فإنه يمكنني القول أنّ عمل المثقف هو عمل سياسي باِمتياز، ولذلك فإنّه من العبث في عصرنا هذا الّذي أصبح فيه الاِتصال عِلْماً واضح المنهج والمفاهيم، أن نتحدث عن اِلتزام المثقف بأخذ مواقف سياسيّة، وهو يقوم بفعل اِتصالي ذي طابع إبداعي هدفه التأثير في الذوق والرأي العام لأخذ مواقف في هذا الاِتجاه أو ذاك وهذا هو عين الموقف السياسي".
وبصفته من نُخب المُجتمع -حسب اِعتقاد الدكتور حمدي- "فإنّه يتمتع بقدرة بالغة على التعبير والتوصيل وتلك هي أهم الأدوات التي يطمح إليها السياسي، بيد أنّ السياسي معنيٌ بشكلٍ مباشر إلى تحويل التصورات والأفكار إلى ممارسة وواقع معيش، يظل المثقفين مختلفين في ذلك فبعضهم يندمج في الممارسة السياسية بينما يحجم البعض الآخر عن ذلك، وهنا تختلف الرؤى، لكن بكلّ تأكيد أنّ المثقف الحقيقي هو الّذي يكون في طليعة مجتمعه، من أجل التقدم والازدهار والحفر في ذاكرة الزمن".
ولذلك -يرى ذات المُتحدث- أنه لكلّ الأحداث الكُبرى في التاريخ نجد وراءها عباقرة من المبدعين، ثمّ هي في حد ذاتها تصنع مبدعيها الذين يتحسسون نبضها ويرصدون تطلعاتها، إنّ السياسة أيضاً إبداعٌ في تجلياتها الصادقة، ومن ثمّ تنعدم الحدود في هذا الظرف، ورداءة السياسة تنجر عنها رداءات أخرى تماماً مثل رداءة التفكير تنجر عنها كوارث تصيب هناك.
واختتم بملاحظة يمكن التنبيه إليها وهي أنّ عملية الإنتاج الإبداعي ينبغي ألا تتورط في عاديات الفعل السياسي التي تؤدي ابتذال المنتج الإبداعي، وبكلّ تأكيد فإنّ مفهوم البرج العاجي في الإبداع قد زال في عصرنا مثلما رحلت الرومانتيكية وتخيلاتها.

* عبد الله العشي
الأفضل للمثقف أن يكون هو نفسه حزبًا موازيًا
يقول الكاتب والناقد الدكتور عبد الله العشي: "ينبغي أن نفرق بين الفعل السياسي المُنظم داخل مؤسسات مُحدّدة، والفعل السياسي الحر الّذي لا يرتبط إلاّ بنسق فكري خاص منفصل عن الأفراد والمؤسسات. ومن ثم نُفرق بين المُثقف السياسي، والسياسي المُثقف. فالفعل السياسي المنظم يقتضي الاِرتباط بمنظومة تفرض على منتسبيها رؤية موحدة مسبقة، أمّا الفعل السياسي الحر فهو وعيٌ مُستقل عن أي اِرتباط، إنّه يتعالى نظريًا على مواثيق الأفراد والأحزاب والمؤسسات السياسيّة".
مُضيفاً في ذات المعطى: "من هنا، فإنّ المُثقف ينتمي، أو يُستحسن أن ينتمي، إلى الفِعل السياسي الحر، ويُمارس دوره السياسي، في نظري، من خلال رؤيته السياسية الخاصة، وليس، بالضرورة، من خلال اِنخراطه في حزب سياسي. وخاصةً إذا تعلق الأمر بالأحزاب السياسيّة في بلداننا التي لم تعرف، إلى الآن، طريقها إلى الديمقراطية. قد يُضيِّق الحزب، بوصفه تنظيمًا بنيوياً إيديولوجياً، مساحة الحرية المطلوبة لدى المُثقف المبدع، ويعطل طموحه المثالي، ويحد من رحابة أحلامه، ويعيق حركة فكره وخياله، وهما كنزه ورأسماله. لأنّ الحزب مؤسسة جماعية لها خطابها الجاهز وسلطتها الملزمة المسبقة".قد يجبر الحزب المُبدع -حسب ذات المتحدث- أن يغير مواقفه المبدئية أم يجبره على الثبات على فكرة تتحوّل إلى دوجم، وهذا ما لا يتناسب مع قناعات المُثقف المثالية.
فالأفضل للمُبدع -كما يُضيف- أن يَكُون هو نفسه حزبًا مُوازيًا، له رؤيته وله خطابه، وله نشاطه السياسي، لا يأتمر إلاّ بأمر نفسه، ولا يخضع إلاّ لسلطته هو. المثقفون الذين اِنخرطوا كليٌا في الأحزاب والمؤسسات فقدوا كثيراً من قناعاتهم وتحولوا إلى ناطقين باِسم أفكار لا تنسجم مع قناعاتهم، مِمَّا اِضطر بعضهم إلى الاِنسحاب من أحزابهم ومُمارسة الفِعل السياسي الحر، لكن عدم اِنخراط المُثقف في الحقل السياسي سوف يُقلص دوره ويحد فعاليّته ويبعده عن حماية المعاني الكُبرى التي يكتب من أجلها. من هنا كان لا بدّ للمُثقف من العمل خارج التنظيمات المُغلقة.
ومُستدركاً أسهبَ في توضيح فكرته: "والمُثقف، بالتأكيد، لا يمتلك كلّ أدوات السياسة المنظمة، لكنه يمتلك قلمه الحر وفكره الأصيل ورأيه الصلب، وتلك، في رأيي، أهم الوسائل وأقدرها على الفعل وأكثرها فعاليّة وأجداها وأدومها. ويمتلك، إلى جانب ذلك، وأهم من ذلك، وسيلته الأساسيّة، أعني منظومته الرمزية ومخياله المبدع، وذاكرته الخصبة، وبصيرته المستشرفة، التي بواسطتها ينجز خطابه الحقيقي. ويمارس المثقف المبدع نشاطه السياسي من خلال خطابين مختلفين: إمّا خطاب مباشر وإمّا خطاب غير مباشر، وهذا الأخير هو ما يعتمد عليه ويطمئن إلى أهميته، وأقصد به الخطاب الأدبي: الشِّعري والسردي، فالخطاب الأدبي يمتلك قدرة على حمل المواقف السياسية ولكن بصورة تضعها في سياقاتها المختلفة وتقدمها في أشكال حسية، تضع الواقع وكأنه حي أمامنا بكلّ مكوناته، فيأتي خطابه كأنّما هو تعبير عن الكلي، أي السياسي في علاقته بالاِجتماعي والأخلاقي والاِقتصادي والثقافي. وفي علاقته بالذاتي والموضوعي، وفي علاقته بالحقيقي والوهمي، وبهذا يأتي خطابه شاملاً ومُبرراً بتحليلات مُتعدّدة".
وخلص إلى القول "إنّ تقاطع السياسي والثقافي أمر عادي، فمنذ أن كانت السياسة وهي موضوع شعري وروائي وقصصي ومسرحي، العبرة في طاقة المبدع وقدرته على تحويل تلك الموضوعات السياسية إلى أعمال ثقافية عامة أو أعمال أدبية، ونقلها من دائرة الخطاب المباشر المجرّد إلى الخطاب الجمالي المجسد. لكن الأسئلة الأكثر إلحاحاً: هل يُسمح للمُثقف الحر أن يُمارس دوره السياسي؟ وإلى أي مدى وما مقدار التضحية التي سيقدمها أو التنازل الّذي سيدفعه؟ وما العوائق أمام المُمارسة السياسيّة للمُثقف؟ ما زلنا نتذكر عبر التاريخ إلى اليوم أشكال العنت التي لقيها المُثقف وما يزال يلقاها".

* محمّد تحريشي
لا سياسة دون ثقافة ولا ثقافة دون سياسة
يقول الناقد وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار، الدكتور محمّد تحريشي: "منذ القِدم عرفت هذه العلاقة بين الثقافة والسياسة، وهي علاقة متلازمة وجدلية وضرورية، وهي علاقة قائمة على تبادل المنفعة والمصالح، فلا سياسة من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون سياسة، حتى لو آمنا بالفن للفن، ومن أبجديات القول في أي مجتمع الحديث عن السياسة الثّقافيّة، والثقافة السياسيّة، ويقودنا هذا المنحى من التفكير إلى الإشارة إلى الاِستثمار السياسي للثقافة لتمرير مجموعة من الخطابات السياسية، وفي المقابل هناك الاِستثمار الثقافي للسياسة للحصول على مجموعة من المكاسب المادية والمعنوية، ومن ثم تتبادل السياسة والثقافة المنفعة، ويجتهد رجال السياسة كما رجال الثقافة في سبيل التوظيف الأمثل لقنوات البث الموصولة بينهما، على الرغم من أنّ في بعض الفترات قد تظهر بعض القطيعة المؤقتة بظهور بعض الانكسارات بسبب خيبة أمل طرف من طرف آخر".
إنّ هذا الحديث -حسب الدكتور تحريشي- يجرنا للوقوف عند المثقف، كونه مُمارسًا للثقافة عبر ما ينتجه من ممارسات أدبية من شعر ونثر ومسرح، أو عبر الفن من رسم ونحت وفن تشكيلي على العموم، وهو بذلك يعبر عن رؤيته للعالم وشعوره المرهف تجاه الواقع مراً كان أو سعيداً، ومن ثم يكون ما ينتجه مرآة عاكسة للواقع.
وفي ذات السياق، أضاف قائلاً: "لكونه أيضاً منتجا للثقافة عبر ممارسات للفكر الفلسفي والعلوم الاِجتماعية والإنسانية، ومن ثم يكون على المثقف وفق هذا التوجه تقديم معرفة منظمة وعقلانية للواقع الإنساني لما يتوفر عليه من أدوات إجرائية للتحليل والمُعالجة للوصول إلى مواطن الخلل التي تعتري الإنسان في مسيرته في تنظيم حياته داخل المجتمع، ومحاولة تقديم حلول لتلك الانكسارات".
موضحاً: "أنّ السياسة لما كانت فن سوس النّاس وإدارة مصالحهم وجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم، ومن ثم فهي تتعامل مع الواقع كما تفعل الثقافة، ومن ثم فالسياسي يتعامل مع المعطيات نفسها التي يتعامل معها المثقف، ويرى بعض الباحثين أنّ الفعل السياسي يغلب عليه اليومي والآني في حين أنّ الفعل الثقافي يجرد اليومي من معطيات الواقع ويستخرج الكلي من الجزئي".
واختتم بقوله: "إن هذه العلاقة أنتجت جهازا مفاهيميا من مثل الاِلتزام السياسي للمثقف، المثقف العضوي مع غرامشي، المثقف المدجن، والمثقف الحالم، والمثقف المشروع، المثقف الاِنتهازي، المثقف النموذج، ومن ثم فالثقافة هي مجموعة من الأفكار النيرة، وهي في الوقت ذاته ممارسة يومية لنشاط فكري، ومن جهة أخرى هي إنتاج مادي ولا مادي، وهي كذلك كلّ أثر لما تقدم ذكره في الواقع والمجتمع وأثر في النفس، وهي في كلّ ذلك مسيرة في التاريخ الإنساني".

 

الرجوع إلى الأعلى