مسار السينما الجزائرية مرتبط بالتاريخ
  * السينما كانت أكثر الفنون مُواكبةً لكلّ التحوّلات التي عرفها المجتمع
يعتقد الكاتب والناقد محمّد بن زيان، أنّ هواجس السينمائي الجزائري لا تنفصل عن هواجس بقية المبدعين المرتبطة بأسئلة الهوية والذاكرة ومحاولة التعافي من محنة التسعينيات وتحديات التحوّلات المُتلاحقة في زمن العولمة. مشيراً إلى بروز مؤشرات تحوّل مُتعدّد الأبعاد في السنين التالية والمُتواصلة إلى الآن، تحوّلٌ في الرؤى الإخراجية وفي التيمات والهواجس، وكذا بروز سينمائيين ترسخوا عالميًا بأفلام بعضها أعاد تَمَثُّل مرحلة الكفاح ضدّ الاِستعمار، ولكن برؤية مُتجاوِزة للنمطية.

حوار: نـوّارة لـحـرش

بن زيان وهو يتحدث عن السينما الجزائرية بين رمزية المرجعية وتحديات التحوّلات، يرى أنّ نشأة هذه السينما اِرتبطت بالقضية الوطنية ونشأت في رحم الثورة وبعدِ الاِستقلال كانت الاِنطلاقة واعدة. وأنّ البلد المُحتل من المُستعمر الفرنسي، كان فضاءً للكثير من البدايات التأسيسية للمنجز السينمائي. مؤكداً في ذات السياق أنّ مسار السينما في الجزائر لا يمكن اِستيعابه إلاّ بربطه بالخلفيّة التاريخية. وهي في ذات الوقت لها مرجعية فائقة الرمزية ومُلهِمة.
إلى جانب النقد الأدبي والمسرحي والتأليف، لكَ أيضًا اِهتمامات بالسينما. برأيك هل مسار السينما في الجزائر يمكن اِستيعابه بدون خلفية تاريخية؟
محمّد بن زيان: مسار السينما في الجزائر لا يمكن اِستيعابه إلاّ بربطه بالخلفيّة التاريخية وخصوصية التشكل المُؤثرة على الوجهة، اِقترن الاِتصال بالسينما بِمَا عَبَّرَ عنه أدونيس بصدمة الحداثة.
كانت الجزائر الخاضعة لاِستعمار اِستيطاني مجالاً لتبلور بدايات السينما، وكانت بلاتوهات لأفلام البدايات... وتلك الصدمة التي كثّفت آليات الكولونيالية أفرزت صياغة سينمائية للمشروع الكولونيالي.
السينما اِقترنت بالجزائر منذ بداياتها، ففي فترة بروزها مع عروض لومير في باريس، صور فليكس مسيجيش أحد الفرنسيين المستوطنين بالجزائر، في سنة 1896 مجموعة مشاهد في العاصمة ووهران وعرضها على المستوطنين... لكن ذلك مرتبط بالفرنسيين الذين كانوا مستعمرين للجزائر. ولقد صُوِرت أيضاً عِدة أفلام فرنسية وغربية في الجزائر، وكانت الأفلام الفرنسية مرتبطة بالتعاطي مع ما يتصل بالإيكزوتيكي ومع ضمور كلّ ما له صلة بواقع الأهالي المغلوبين على أمرهم.
فالبلد المُحتل من المُستعمر الفرنسي، كان فضاءً للكثير من البدايات التأسيسيّة للمُنجز السينمائي. وفي المرآة السينمائية كان ما حضر في رسوم تغذت بالإيكزوتيكية... وإجمالاً كان الاِتصال الجزائري بالسينما في بداياتها، اِتصالاً مركبًا، اِتصال موصول بعنف الحداثة الغربية في تجلياتها بالمستعمرات، واتصالٌ مُنتج لمَا زاد في فتح الأُفق الوجودي والنضالي. ولقد خصص المُفكر مصطفى لشرف فقرات من كتابه "أسماء ومعالم" لذلك التواصل، كما ذكر الرئيس الأسبق بن بلة في حوار أجراه معه محمّد خليفة إظهار حس الاِنتماء بالإقبال على مُتابعة الأفلام الواردة من مصر.
وفي الجزائر اِرتبطت نشأة السينما بالقضية الوطنية ونشأت في رحم الثورة. بعد الاِستقلال كانت الاِنطلاقة واعدة وتكرست أفلام جزائرية لحامينة وآخرين عالميًا، وكانت الجزائر محطة لسينمائيين مُهمين كيوسف شاهين وكوستا غافراس... لكن تراجع الوضع كما تراجعت كلّ القطاعات وغابت المرافق وغابت الأُطر وغاب المناخ الجاذب.
في رحم الثورة التحريرية تشكلت أيضاً إرهاصات السينما في الجزائر، تشكلاً ربطها بالتاريخ النابض. وفي 1956 ووعيًا بأهمية السينما كلفت جبهة التحرير روني فوتيي بتصوير جيش التحرير، وفي سنة 1957 تمّ بالولاية الأولى بعث مدرسة لتكوين سينمائيين، من بينهم جمال شندرلي وأحمد راشدي ولخضر حمينة وطبعاً روني فوتيي وبيار كيلمون. لقد تمّ إنجاز عِدة أفلام تسجيلية نقلت صور الكفاح وبشاعة الاِستعمار. ذلك مستند محوري لتَمَثُّل مسار السينما في الجزائر، مساراً طغى عليه الاِلتزام بقضية تمجيد الثورة وبمعركة البناء الوطني.
بدايات السينما الجزائرية شحنتها رمزية الثورة وأحلام المرحلة التي تلت اِسترجاع الاِستقلال
اللافت والمُلاُحَظ أنّ بدايات السينما الجزائرية كانت معظمها بحمولة رصيد الكفاح
محمّد بن زيان: كانت البدايات واعدة بأفلام حقّقت دوليًا وإقليميًا حضوراً لافتًا، ولكن المد توارى ليأتي الجزر منذ ثمانينيات القرن الماضي مع تفكيك الأُطر المُكلفة بالإنتاج والتوزيع ومع غلق القاعات السينمائية التي كانت موجودة وبغلقها فقدت السينما قناة التواصل مع الجمهور. تلك البدايات شحنتها رمزية الثورة وأحلام المرحلة التي تلت اِسترجاع الاِستقلال، فكانت أفلام الستينيات والسبعينيات بحمولة رصيد الكفاح فجاءت البداية بأفلام تناولت الثورة من زوايا مختلفة، بدايةً مع "سلم فتي جدا" لجاك شاربيي، و"الليل يخاف من الشمس" لمصطفى بديع. و"معركة الجزائر" لجيلو بونتيكورفو، و"ديسمبر"، و"ريح الأوراس"، و"وقائع سنين الجمر" لمحمّد لخضر حامينة، و"الأفيون والعصا" لأحمد راشدي...
ثمّ حضرت مواضيع مرتبطة بأحلام ومعارك تلك الفترة، مواضيع الإصلاح الزراعي والتسيير الاِشتراكي للمؤسسات وقضية المرأة والهجرة... ولقد تمّ تتويج السينما الجزائرية في المهرجانات الدولية وعلى رأسها "مهرجان كان" الّذي منح فيلم "وقائع سنين الجمر" السعفة الذهبية. كما حاز فيلم "زاد" للمخرج كوستا غافراس الّذي مولته الجزائر على أوسكار الأفلام الأجنبية.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عرف العالم غربًا وشرقًا النزعة الثورية، الرافضة للجمود والتوّاقة للتشكل بتنزيل المجرّد إلى المُجسد، عرف العالم غربًا حراك الزنوج في الولايات المتحدة، وعرف ثورة مايو الفرنسية، وعرف في ما يُسمى بالعالم الثالث موجات سرعان ما اِبتلعها الجزر... وكانت السينما كفن مركب مستوعب لفنون متعدّدة في صلب تلك الديناميكية، ديناميكية بلدان كان بعضها يعيش طور التحوّل من حركة التحرّر إلى بناء الدولة الوطنية، بلدان كانت مشحونة بإرث الكفاح وبحلم العدالة والكرامة والحرية.
وفي ذلك السياق تشكلت تجارب لافتة، من ضمنها تجارب اِختارت الخروج على النمذجة النمطية والتنميطية بالذهاب في مسار التجريب... تجارب من بينها أفلام للمخرجين مثل: محمّد زينات، وعبد العزيز طولبي، وفاروق بلوفة، ومرزاق علواش... شكلت الخروج عن النمطية، والاِنخراط في تجريبٍ مُؤسس على اِستيعاب وعلى تَمَثُّل وعلى موقف، فليس هناك كما كَتَبَ دانييل فرامبتون: "صورة لم يتم التفكير فيها وليست هناك صورة من خارج الفكر إنّها دائمًا –موقف- تجاه الأشياء التي يمكن التعرف إليها (الأشياء، الأحداث) في الفيلم. لكنّه قصدٌ يأتي من داخل الفيلم، إنّه ليس قصداً خارجاً عن مادة الفيلم أو قصداً شبحيًا".
في تلك المرحلة برزت نماذج كثيرة من التجريب السينمائي، من بينها أفلام مرزاق علواش. ما الّذي يمكن أن تقوله عن هذه النماذج التي خاضت غمار التجريب السينمائي؟
محمّد بن زيان: تميّز علواش بأنّ أفلامه لم تتطرق لحرب التحرير، ولم ينجز ما كان يُعتبر مندرجًا في سياق الدعاية للسلطة الوطنية، وفي الوقت ذاته كانت اِنطلاقته مقترنة بمرحلة توهج وأحلام كبيرة، تلتها مرحلة اِنكسار وخيبة بلغت ذروتها التراجيدية في سنين المحنة الرهيبة في تسعينيات القرن الماضي. ولخَّص علواش ذلك قائلاً: "أنا من جيل عاش في ضبابية ما بعد حرب التحرير. أعتقد أنّني كنتُ مثل كثيرين، صبوراً ورومانسيًا. كنتُ مثل غيري، أحمل آمالاً كبيرة بعد الاِستقلال، لأنّ البلد كان يعيش مرحلة البناء، أمّا اليوم، إنّنا سنضطر إلى إعادة النظر، وإعادة البناء من الصفر".
يُعتبر فيلم "عمر قتلاتو الرجلة" شهادة ميلاد مخرج، ومحطة تحوّل في المنجز السينمائي الجزائري... فيلم اِنزاح عن نمطية التمجيد للثورة ولمكاسب معركة البناء كما يُقال، فيلم تعاطى مع تفاصيل ويوميّات معاناة وهواجس وخيبات جزائري في سبعينيات القرن الماضي، وغاص في المدينة المُغيّبة غالبًا في ظل محورية الريف في الخطاب المُتداول وهي محورية اِقترنت بعوامل متداخلة اِمتزجت في صياغة أيديولوجية تشكلت من تأثيرات مُتعدّدة واستحضرت مرجعيات مختلفة، جمعت بين قصيدة الأمير المُمجدة للبادية وتنظيرات فرانز فانون عن دور الريف في الكفاح.
"عمر قتلاتو" لم يكن فقط المُنْطَلَقْ، بل كان الإنجاز الأهم في مسار علواش، ورغم كثافة إنتاجه، لم ينجز ما يُعتبر تجاوزاً لفيلمه الأوّل. بعد فيلمه الأوّل، توالت أفلامه بوتيرة تجعله أكثر المخرجين إنتاجًا واستمرارية.
إلى جانب أفلام علواش، كانت هناك تجارب أخرى لافتة، على غرار فيلم "نوة". فهل ترى أنّها كانت موفقة في مسارها التجريبي؟
محمّد بن زيان: يعتبر فيلم "نوة" للمخرج الراحل عبد العزيز طولبي، صياغة سينمائية لقصة من قصص الطاهر وطار، قصة تُعيد تَمَثُّل الماضي القريب، تَمَثُّلاً مُتصلاً بهواجس حاضر مشحون بحلم العدالة وإتمام معركة التحرير بتحقيق كلّ أبعادها. وطولبي مِمَن شاركوا في الثورة. ولطولبي ميزة ضمن مخرجي البدايات، وهي أنّه كان المُنفرد تقريبًا بتكوين بالعربية، تكوين تدعم بآخر في ألمانيا. وقد أَنْتَجَ قبل "نوة" بعض الأعمال التي تَعَرَضَ بعضها ربّما للإتلاف وذلك ما يفصح عن خلفيات اِختفاءه من المشهد بعد "نوة". اِتجه طولبي نحو الخليج لإتمام مشواره في المجال السينمائي ولكن لم يستمر إنتاجه كمخرج. والجميل أنّ فيلم "نوة" تمَّ اِعتباره نقديًا من الأفلام التي لها قيمتها وموقعها في ريبرتوار السينما الجزائرية. كما يُعتبر فيلم "نهلة" للمخرج الراحل بلوفة مُنجزاً اِستثنائيًا بحمولته ووجهته والرؤية التي اِرتكز عليها، والتي مَثَلَت إضافةً للجانب الجمالي موقفًا له دلالته ووزنه في سياقٍ مُحدّد هو سياق الحرب الأهلية في لبنان.
وفاروق بلوفة اِنطلق بتأسيس قوي، نظريًا وعمليًا، اِشتغل في منابر النقد السينمائي، وحاور مخرجين كرومان بولنسكي وليشينو فوسكنتي.. درس السينما في الجزائر ثمّ في باريس، تابع دروس الناقد المُنظِر رولان بارت في المدرسة التطبيقية للدراسات العُليا واشتغل مساعد مخرج مع يوسف شاهين في فيلم "عودة الاِبن الضال".
هل تعتقد أنّ السينما الجزائرية كانت أكـثـر الفنون مُواكبةً للتحوّلات التي عرفها المجتمع؟
محمّد بن زيان: بعد المد جاء الجزر ولذلك ملابساته المرتبطة بالسياق، سياق التحوّل في الثمانينيات وما ترتب عنه من تفكيك باِسم إعادة هيكلة المؤسسات، تفكيك جمَّد ديناميكية الصناعة السينماتوغرافية ورافق ذلك تعرض القاعات للغلق أو تحويل النشاط.. وتفاقم الأمر في التسعينيات التي شهدت محنة دفعت المبدعين إلى الصمت أو الهجرة. ويمكن أن نذكر معطىً آخر مثّلَ تحديًا واجهته السينما العالمية، وهو مخرجات التطور الهائل في تكنولوجيا المعلوماتية وانتشار وسائط تواصلية دفعت إلى إعادة تكييف آليات الصناعة والتسويق في المجال السينمائي.
ورغم ذلك واصل سينمائيون الاِجتهاد وبرزت مؤشرات تحوّل مُتعدّد الأبعاد في السنين التالية والمُتواصلة إلى الآن، تحوّلٌ في الرؤى الإخراجية وفي التيمات والهواجس، وبرز سينمائيون ترسخوا عالميًا مثل: رشيد بوشارب، ولياس سالم، بأفلام بعضها أعاد تَمَثُّل مرحلة الكفاح ضدّ الاِستعمار، ولكن برؤية مُتجاوِزة للنمطية. وهواجس السينمائي الجزائري لا تنفصل عن هواجس بقية المبدعين المرتبطة بأسئلة الهوية والذاكرة ومحاولة التعافي من محنة التسعينيات وتحديات التحوّلات المُتلاحقة في زمن العولمة.
ويبقى الإشكال الّذي يُعاني منه السينمائيون هو المرتبط بغياب قاعات عروض وما ترتب عن ذلك من عدم مواكبة الجمهور للمنجز إلاّ إذا كان هناك مهرجان. ويمكن أيضًا إضافة بعض النقاط حول هشاشة المنتوج السينمائي: منها إشكالية النصوص، فهناك ضآلة الاِهتمام بالكتابة السينمائية وغياب اِستثمار النصوص الأدبية باِستثناء تجارب قليلة اِرتكزت على نصوص لبن هدوقة ومولود معمري وياسمينة خضرة وأمين الزاوي... ولقد اِنخرط بعض الكُتّاب في الكتابة للسينما مثل بوجدرة، والراحلة آسيا جبار التي جمعت بين الرواية والسينما وهي تجربة ليست منفردة، ففي مصر أقنع صلاح أبو سيف الكاتب نجيب محفوظ بالتمرّن على كتابة السيناريو فلم يقف عند اِقتباس نصوصه سينمائيًا بل اِشتغل على نصوص كُتّاب آخرين وصاغها سينمائيًا.
السينما الجزائرية لها مرجعية فائقة الرمزية ومُلهِمة، ورصيدٌ له اِعتباره والمنشود اِستثماره لاِستعادة الزخم والحيوية. يمكن القول بأنّ السينما كانت أكثر الفنون مُواكبةً لكلّ التحوّلات التي عرفها المجتمع من معارك إزالة آثار الاِستعمار إلى معركة تجاوز الإرهاب.

الرجوع إلى الأعلى