لا يختلفُ اثنان حول سِمة الفشل التي طبعت مُحاولاتنا دخولَ العصر الحديث من باب بناء الدولة الوطنية و اجتراح آفاق التنمية في شكلها الإيديولوجي الجاهز منذ الحقبة التي عرفت انتزاعَ الاستقلال الوطني.
 ورُبَّما كان هذا الأمرُ، أيضا، خصيصة عربية بامتياز لا تزال تطرحُ الكثيرَ من الأسئلة، وتدفعُ إلى ضرورة مُراجعة مسيرة التعثر التاريخي والكشف عن أسبابها العميقة في الأداء السياسيِّ أو في الفكر وأبنية المُجتمع أو في التبعية المفروضة علينا من قبل نظام دولي يُكرِّسُ الهيمنة والاستتباع.
فمن المعروف أنَّ مُجمل الأزمات التي نعيشها على كل المُستويات – وتحديدًا في الجزائر – أصبحت نموذجية وكاشفة، بصورةٍ تكادُ تكون فاجعة، عن الفشل الذي لازم عملنا التاريخيَّ. لعلنا اعتقدنا أنَّ ولوجَ باب التنمية الفعلية والانسلاخ من أوضاع الاستلاب التاريخيّ كان مُرتبطا بوسائل مُتخلصةٍ من أصداء التاريخ ومُكابدات الإنسانية عبر مُغامراتها وهي تشهدُ انكسارَ سيف الأبدية على رقبة التاريخ الذي أصبح بيتا للإنسان مكان المُطلق. وها هي جهودنا المهدورة تذهبُ كالزبد جُفاءً وتطفو كجُثثِ طيور ميتة على مُحيط حياتنا. لم ندرك، إلى اليوم، أنَّ الوسيلة ابتكارٌ لا استهلاك، وأنَّ الحداثة عقل لا آلة. ونعتقدُ، انطلاقا من ذلك، أنَّ ماردَ الفشل والتعثر قد خرج من قمقم تاريخنا الباطنيِّ الذي بقي يترصَّدُ لحظة إعلان الأزمة المُعقدة عن ذاتها ليعلنَ عن نفسه في صورةٍ مشهدية. كان الرهانُ يتعلقُ ببناء مُجتمع جديدٍ وتحرير الإنسان من ثقل التاريخ السوسيو- ثقافي المُنتصب كتنين أهوج أمام المُسافر. ولكننا فضلنا الانسياقَ – على عادة الفكر الإيديولوجيِّ العربيّ والعالمثالثي – وراءَ نزعة تبرئة الذات من كل أشكال النكوص وتحميل الآخر المُستعمِر الأمبريالي نتائجَ الفشل والتراجع. ولكننا نعتقدُ، اليوم، أنَّ هذا الأمرَ أصبح يتطلبُ نوعا من التأمل النقدي الذي لا يُعفي الذات من مسؤوليتها التاريخية سياسيا وتربويا وتنمويا.

لم نعرف انبثاق الفردانية سوسيولوجيا و لا العقل معرفيا و ثقافيا

     لعل هذا ما يدعونا إلى ضرورة مُمارسة النقد الفكري والسياسي الذي لا يقفُ عند الزعيق السياسوي الجاهز لينبشَ في الجذور العميقة للشلل العام الذي أصاب حياتنا وجعلها تعيشُ زمنا راكدا. إنَّ المتأمل في أوضاعنا – عبر عشريات – يستطيعُ أن يلاحظ بسهولة ويُسر بالغين أنَّ رأسيْ تنين التخلف والتعثر عندنا هما الأحادية والفساد. ونعتقدُ أنَّ الأمرين لا يرجعان إلى أهواء الحاكم أو انحرافات السلطة السياسية فحسب. فليس ذلك إلا الجزء الظاهر من الجبل الجليديّ. إنهما أثران من آثار الثقافة والبنيات الاجتماعية العميقة المرتبطة بأزمنة لم نعمل بصورةٍ جذرية على تجاوزها. وهكذا لم تكن الحداثة عندنا تدشينا لزمن الإنسان المُتخلص من مرجعيات تعلو عليه، كما لم تكن احتضانا للتاريخ والتقدم. وفي كلمة: كانت الحداثة العرجاءُ الكسيحة عندنا تحديثا شكليا لم يُلامس زمن الأرض ووجيبَ التاريخ. لقد وقعنا ضحية الافتتان بالمساحيق. وها نحنُ، اليوم، نجتهدُ في التعجيل بالشفاء من خطيئة اقتراف الاقتراب من مخدع الأرض والزمنية. لقد كان على الأبدية أن تسترجعَ بعضَ حقوقها من خلالنا بواسطة الأصولية الدينية وكل أشكال التراجع التي نشهدها فكريا وثقافيا واجتماعيا. لقد أخطأ السياسي كثيرًا عندما لم ينتبه إلى الفجوات الكبيرة التي خلفها وهو ينتشي بإنجازاته مُغتبطا كأولئك البحارة الذين تحدَّث عنهم نيتشه، ذات يوم، وهم يعتقدون أنَّ ظهرَ الوحش البحريّ الذي قذفت بهم الأمواجُ الهائجة إليه كان جزيرة الخلاص من الغرق. ولعل الفجوة التي مثلت ثقبا أسودَ كبيرًا ابتلع كل شيء هي فقرنا الإنسانيّ وتركيزنا على تنمية كمية كسولةٍ مُستعارة من تجارب كان لها ما تقول في زمنها وتحت سماوات أخر.     إنَّ الأحادية والشمولية عندنا تعني غيابَ الديمقراطية. ولكنها، في بعض وجوهها، ظاهرة حداثية بامتياز أيضا كي لا نقول إنها من نتائج العقلانية الحديثة التي بشرت بعالم تحكمه التقنية وإرادة السيطرة على الطبيعة والبشر معا. نحنُ نعرفُ، جيدًا، كوارث الشموليات في القرن العشرين. ولكننا لا نحب أن نتذكر مثالبَ الكوجيتو أثناء الحديث عن الأحادية عندنا. إنها ظاهرة تختلفُ قليلا. وهي، على كل حال، ليست ثمرة لكوجيتو عربي - إسلامي لم نتشرف، بعدُ، بميلاده في سراي ثقافتنا التي تعيشُ زمنا ثقافيا سابقا على الحداثة الفعلية بوجهيها المُشرق والقاتم معا. إنَّ الأحادية عندنا تجدُ جذرها في بنية مُجتمعاتنا الثقافية / البطريركية، وفي سيادة قيم الذكورة ومناخ التقديس المُهيمن على الفضاء الرَّمزي لكل التمثلات. إنها أساسُ علاقات القوة في المُجتمع التقليدي وأساسُ الشرعية التي ظلت ترفدُ الاستبدادَ في شكله «الشرقي» العتيق. لم نلج فضاءات الحداثة السياسية والفكرية لأنَّ الأنتروبوس لم يولد عندنا. لم نعرف انبثاقَ الفردانية سوسيولوجيا ولا العقل معرفيا وثقافيا. ومع ذلك كان يطيبُ لنا، في أحايين كثيرةٍ، أن نتحدَّث عن تجارب الديمقراطية الناشئة التي قد نواجه بها عالما حديثا تحكمه الأنسنة وإرادة القوة التي تلبسُ تاج المعرفة. كنا نطعنُ الهواءَ بالسيف. ونعتبرُ زمنَ المسيح المُخلص عهدًا لميلاد الشعوب التي تملك زمامَ أمورها وتتأهَّبُ لاقتحام قلعة التاريخ المُستعاد بشكل كاريكاتوري. ربما لم نُحسن التمييز بين الزمن والتاريخ. ظللنا نحايث العالم زمنيا ولكننا لم نستطع ردمَ الفجوات الإبستيمولوجية بيننا وبين اللحظة في امتلائها التاريخي الفاصل بين لحظتين كبيرتين: زمن السماء وزمن الأرض.      لم يكن مطلوبا من الأحادية أن تكونَ حِرابا أو سيفا مُسلطا على رقابنا. هذا ما يهمنا اليوم أكثر. كان يكفي أن تلمعَ قليلا جوهرة «العبودية الطوعية» لتحجبَ ظلاما لا يراه إلا الأحرار الذين عرفوا كيف يقفون على أرض امتلأت بمدافن الآلهة. لم يكن مطلوبا من الأحادية إلا أن تستدعيَ فضائل الشرعيات القديمة الموروثة عن طفولتنا البعيدة في بيت «الجبلاوي». كنا أطفالا لا كالأطفال. أو قل ورثنا أسوأ ما في الطفولة: الحاجة الدائمة إلى الأب. هنا المشكلة على ما نرى. لم نخرج من أزمنة نذرت نفسها لانتظار البشارة الكبرى بعودة المُخلص. ظللنا دودة بائسة في قلب شرنقةٍ تحجبُ الضوءَ وتعصمنا من الضياع في متاهة العالم. هذا ما جعل من الشرعية عندنا انبثاقا من الأزمنة التدشينية الكبرى حيثُ العالمُ مَسرحٌ لأنصاف الآلهة، وحيثُ المعنى والقيمة برعمان يتفتحان في وردة الحكايات التأسيسية التي ذبل حضورها في سياقاتٍ حضارية أخرى كان لها أن تمسح الصَّدأ عن وجه الإنسان.

ورثنا أسوأ ما في الطفولة: البحث الدائم عن الأب

 ولكن: هل يُمكنُ أن تترسَّخ الديمقراطية الفعلية – باعتبارها قيما حديثة – دون إحداث «ثورة كوبرنيكية» حقيقية في نظام القيم التي حكمت، إلى اليوم، عمل مُجتمعاتنا وسُبل إنتاجها لتاريخها؟ من دولة «الديمقراطية الشعبية» التي رسَّخت الشعبوية والأبوية والتسلط في جُبته العلمانية إلى الاحتكار والفساد المُعمَّم: هذا هو تاريخ الدولة الوطنية. الديمقراطية الحقيقية مُمارسة بكل تأكيد؛ ولكنها مُمارسة تستندُ إلى ثقافةٍ وقيم يُجسِّدها الحوار واحترام الاختلاف وحق النقد؛ كما تقومُ على فلسفةٍ رسَّخها انتصارُ مركزية الإنسان منذ أصبح مرجعَ القيم في عالم شهدَ أفول المتعالي والمرجعيات التقليدية المعصومة. هذا ما يجعلنا نرى في مُحاولاتنا جميعا زبدًا على سطح التجارب الديمقراطية العظيمة في هذا العصر. إذ لم ننتصر كثيرًا على رواسب الماضي الأبوي في سلوكنا السياسيّ وفي مشاريعنا النهضوية والثقافية والتربوية. لم نستطع إحداثَ القطيعة مع نظام الفكر القديم ونحنُ نستنجدُ بنماذج التنمية التي اقترحتها إيديولوجيات وتجارب ناهضة منتصف القرن العشرين. كنا نريدُ خنقَ رواسب الكولونيالية فينا فإذا بنا نبعثُ صورًا كثيرة من الاستبداد والأحادية التي تجلت في غلبة العسكريّ على السياسيّ، وغلبة الانقلاب والقوة على الشرعية التي طالما تغنينا بها. أصبح الاستقلالُ يبدو، شيئا فشيئا، صورة أخرى من صُور اعتقال الشعب الجزائري في زنزانة الفكر الواحد والحزب الواحد وعبادة الزعيم. أصبحت الحرية ذكرى أو كلمة فارغة لم تجد لها موضع قدم في عالم الاحتكار الجديد الذي أبعد الشعب عن بيداغوجيا المُشاركة الواعية في صنع مصيره بكل سيادة.       لقد كان على الدولة الوطنية الناشئة أن تتحمَّل أعباءَ دخول التاريخ وأمانة صنع مُستقبل مُختلف ينبثقُ معه الكيان الوطني السيّدُ العادل، وتنبثقُ معه المُواطنة الجزائرية بعد طول غياب. ولكنَّ الديمقراطية التي اعتمدناها في صيغتها الشعبية ظلت قناعا يُخفي انتقامَ الرغبة الأبوية في إخضاع المُختلف ومحو التعددية ونمذجة الفكر والتفكير في الشعب باعتباره رعية تحتاج دوما إلى وصاية. والغريبُ في الأمر أنَّ الاستبداد السياسي كان يتبجَّحُ مُعلنا قدرته على تمثيل الشعب وتحقيق تطلعاته. تلك غنائية الديمقراطية الاشتراكية المعروفة. كأنَّ معركة التنمية والبناء كانت تتطلب كل ذلك الصخب الإيديولوجي الذي لا يُمكنه أن يزدهرَ إلا مع غياب العقل والعلم والمُشاركة السياسية الفعلية التي تكشفُ عن حيوية واقع تعدديّ ورغبة في العيش المُشترك. كانت ثقافتنا السياسية هزيلة ومُمارساتنا كاشفة عن أعماق تعودُ إلى ما قبل الحداثة السياسية والفكرية. لقد وقعنا في أسر الهرولة وراء التحديث الشكلي والتنمية الكمية وأهملنا التنمية البشرية. وقد كان فشلنا ذريعا ومُدويا لولا فضائل الريع النفطيّ الذي ظل روقة توت أخيرة تسترُ، دائما، عورة نموذجنا التنموي.

الأحادية عندنا تجدُ جذرها في بنية مُجتمعاتنا الثقافية / البطريركية، و في سيادة قيم الذكورة و مناخ التقديس المُهيمن على الفضاء الرَّمزي لكل التمثلات

      رُبَّما يطرحُ هذا الأمرُ مشكلة الديمقراطية في جزائرَ ما بعد الاستقلال. فلم نعرف إلا صُورًا مُشوهة ومُبتسرة من «الديمقراطية الشعبية» وأسلوبها الديماغوجي المُبتذل في إدارة الأمور وتناول المُشكلات. كانت ديمقراطية النخبة العسكرية التي ادَّعت، طويلا، أنها وكيلة على الشعب المُغيَّب قسرًا من حقه في بناء المُستقبل المُشترك. كانت ديمقراطية الحزب الواحد الذي شوَّه كثيرًا اسمَ «جبهة التحرير الوطنيّ» قائدة النضال ضدَّ الاستعمار الفرنسيّ. لقد كان هذا النموذج السياسي / التنموي تجليا لرغبة سلطوية استبدادية تناغمت مع روح اللحظة آنذاك إقليميا ودوليا والزمنُ الأمبراطوري يلفظ أنفاسه. ولا داعي، هنا، للحديث عن فشل هذا النموذج وسُقوطه المُدوي أواخر القرن العشرين. فلم يكن من المُمكن أن تستمرَّ ثقافة الغولاغ السياسي والشمولية الفكرية / الإيديولوجية والأحادية الحزبية في اعتقال الشعوب وخنق تطلعاتها المشروعة إلى الحرية والكرامة والانفتاح السياسي والتعددية والمُشاركة الفعلية في بناء البيت المُشترك. لقد كان فشل هذا النموذج كارثيا في بلادنا أيضا وكان حصادُه مُرّا. ونحنُ نعرفُ أنَّ الجزائرَ شهدت انتفاضة الشباب ضدَّ انسداد آفاق الأمل وضدَّ الاحتكار والتهميش والفشل في تحقيق التنمية المُتوازنة. وما زاد من خطورة الأوضاع طلوع شجرة الأصولية الدينية اللعينة على أرض خيباتنا وجحيمنا بأوجُههِ الاقتصادية والاجتماعية. لقد أدَّى فقدان البوصلة في الجزائر المُستقلة إلى اعتصام الشباب بقشة الخلاص الوحيدة التي وفرتها الاتجاهاتُ الدينية المُتطرفة. كان يجبُ البحث عن الانتماء في عالم فككته الإيديولوجيا الغوغائية، وعن دفء المعنى في بلدٍ لم يستطع تحصينَ أجياله الطالعة تربويا وثقافيا ضدَّ إمكان السقوط في التطرف. لم ننجح في بناء دولة حديثة تستجيبُ لتطلعات الشعب كما حلم بذلك رُوَّادُ حرب التحرير ومُحّررُو بيان الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954. ما زال ينقصنا الكثيرُ من أجل تحقيق نموذج الدولة العصرية ودولة المُؤسَّسات الديمقراطية المُعبّرة فعلا عن حيوية الشعب ومُكوناته بعيدًا عن منطق الاحتكار وتهميش القوى الحية المُبدعة ولجم حركية المُجتمع التعدّدي الناهض. فمنذ تمَّ إبعاد النخب السياسية المُستنيرة غداة الاستقلال لا تزال دودة الأحادية ورغبة الهيمنة الخفية على الفضاء السوسيو- سياسي تنخرُ كل مُحاولاتنا في ترسيخ التقاليد الديمقراطية في بلدنا.                      

الرجوع إلى الأعلى