لم يكن بحاجة إلى أكثر من نومة على ذلك الجسد الضعيف يفرغ فيه شهوته لينبت ذلك الطفل الذي هو أنا. كان يمكن ألاّ يُخرج ذلك البطن كتلة خرقاء هي هذا الجسد، الكائن، ليرميه لقدره في عالم بائس موحش تلعنه الشياطين من كل جانب. كان هذا في الواحد والعشرين من نيسان قبل ثلاثين سنة تماما. كم هي تعيسة هذه الثلاثون.كان أبي، أمي أيضا في توحدهما المنتج لهذا الأخرق المسمى الـ"أنا" يمثلان الإنسان في تعريفه السيوراني «الكائن الذي يفرز الكارثة». 
ياسين سليماني
مشهد آخر يخطو بسرعة غزالة (كلاسيكي هذا التعبير أليس كذلك؟ !) له لون أحمر هذه المرة: ربما ما كان لتلك السيارة الحمراء التي لا أعرف نوعها أن تخطئ طفلا ذي سنتين، عرفتُ بعد زمن أنه «أنا» إلاّ بالمصادفة العمياء أنا الذي تذكرني حالتي اليائسة بهمنغواي وهو يقول «من وجهة نظر الطبيعة ليس هنالك فرق بين موت إنسان وموت قطة». عزيزي همنغواي: ربما تعني أيضا ألاّ فرق عند هذه الطبيعة بين مولدِ"ي" ذات نيسان ومولد قط أو فأر أو حتى خنفساء في اليوم ذاته. مع أنّني أحيانا، ولأنّي أمضي «يوميات رجل آرق» على منوال رواية لبوجدرة، أحسّ بشكل خانق عندما أنتبه إلى أنّ جميع من حولي نائم، وأطل على الشارع فأجد مدينتي الكئيبة غارقة في سباتها بأنني «كتلة زائدة على ظهر هذه الأرض المثقلة بالهموم» إلى درجة تمثّل مقولة تنسب لآلان جلاسكو يعلن فيها أنه لن يندهش لشيء بعد كل الذي قاساه «إلاّ أن يجد من يفهمه».
أخيرا، ولأنّني أعيش في مسرحية هزلية كبيرة، هي هذا العالم البائس، فإنّ العودة إلى المسرحيات ليست إلاّ من قبيل المسرح في المسرح كما عند بيرانيدلو المجنون لذلك ليس غريبا أن أعود إلى تشيكوف الذي تملأ مسرحياته وقتي واهتمامي إلاّ أنّ من الغريب أن أعود إلى «النورس» فأقرأ منها هذه العبارات بالضبط دون غيرها «إني وحيد في هذا العالم..وحيد، ليست هناك عاطفة تشرنقني بدفئها، أشعر بصقيع الغربة..ببرد الوحشة كما لو كنتُ أحيا في قبو معتم».
عند «هزيود» كان البشر وفي وقت موغل في القدم يعيشون مثل الآلهة وقد تحرّرت قلوبهم من كل المشاغل بعيدا عن العمل والألم. وحدها الكتابة، ربما الجنس والسكر أيضا، الموسيقى كذلك تحاول أن تملأ بمائها المتدفق عطشي الذي تخطّيت الكثير من المصاعب دون أن أرويه. لقد استهلكتُ نفسي حقا، وكثيرا ما أشعر بإفلاس حقيقي يجعلني على شفير الجحيم..هل أخادع نفسي عندما لا أعترف بأنني فكّرتُ في الانتحار أكثر من مرة؟ أظنُّ نعم هي الإجابة المثلى.
  لكلّ البدايات معي مذاق البرتقال الحامض الذي أعشقه. هذه الثلاثون تذكرني بالحب الذي تراءى لي كحب لا يشبه الحب... الكتاب الأول، الحبيب الأول، الجرعة الأولى، العلاقة الأولى ، الوجودية، والتصوف، والماركسية، الإيمان بإله لا ينطبق على أي دين يتم التسويق له. كنت في تحد مع الأرق، مع الكتابة، مع الحزن، مع الحب ومع جسدي الذي صار كالثور المجنون الذي يخرج عن طوع صاحبه: النشاط الصارخ ، الدائم. والرغبة الدائمة في الاطلاع. أمضي وقتي في استهلاك المعرفة قراءة وكتابة. وأحسُّ في نفسي ارتقاء متعاظما كلّما قرأتُ ما أحسُّ أنّه إضافة نوعية لعقلي المتعطّش دوما. لا أزال شغوفا بالحياة، فـ»لأنها حياة واحدة فيجب أن تكون رائعة» كما يقول آرثر ميلر، مع أنّ لا شيء يؤكد هذا..على الأقل بالنسبة لي أنا أكثر الناس اصطناعا للتفاؤل. (كم أنا شهواني يقول صديقي غير الشهواني)، بصعوبة، استطعتُ أن أحبّ هذا الجسدَ الذي دخلته قبلَ ثلاثين ولا يدري شيطانٌ متى أغادره فالحقيقة الوحيدة القابلة للتأكيد أنّ طريق الرحلة لا أحد يعلم متى يدوم، ومتى سأسقط في بياض العدم.
ولأنّ المصادفات في حياتي كثيرة فعلاقة الحب تلك، وحدها يد مرتعشة رسمتها في لوحة أيامي كان يمكن ألاّ تكون. كان يمكن ألاّ أعمل في تلك المدينة، ولا أن أكون في تلك الجامعة، ولا أن ألتقي في مساء خريفي كائن الشغف الأكبر حيثُ أحببتُ من داخل القلب وكنتُ مغمورا بالنور والوهج وألوان الليلك. وبسرعة تاهت مني كلّ الألوان وعندما حلّ موسم هروب الملائكة بقي قلبي الذي ظننته ملكا لي يلعن الوجود بائسا قبيحا..قلبي الذي كنتُ أظنه طيبا جميلا. وظللت لأشهر أنهض من نومي المتقطّع بفزع فأستيقظ فجأة لأفتح عيني على عتمة سحيقة لتبدأ صور حلم يكون حبيبي بطله تقبض على رقبتي. كنت الفائز الأول في مسابقة البؤس العالمي عن استحقاق. كم مرّة بكيتُ؟ التفكير في هذا يستعيد كآبات طويلة، فقد عبر روحي بمشرط من حديد ثمّ كان عليّ أن أقف بنفسي في مواجهة حادّة مع دعوة للنسيان...
هكذا بالضبط أخذ عني من يعرفني ستيريوتايب لم يتغيّر، الشاب النشيط الذي يكتب دوما، يعمل دائما، ينهض باكرا حتى في أيام العطل، (كم ليلة لم أنتبه فيها إلى مرور الوقت إلى ظهور أولى ارتسامات الصبح تتسرب إلى غرفتي !)، أبيض القلب (هكذا يقولون) بينما في داخل الداخل توق باذخ للحظة صفاء حقيقي يتطابق فيها ادعائي بالسعادة مع حياتي لا اكتشفت منذ زمن أنها تتسرب من يديّ دون أن أعرف اللحاق بما تبقى منها.
عندما نشر «أيمن الدبوسي» كتابه «حماقات السبعين» وسئل عما سيكون بعدها أجاب بتلقائية لطيفة:»بعد السبعين؟ إنها حماقات الثمانين» هكذا سأبقى أرتكب المزيد من الحماقات وأحاول أن أخلط ..كلّ حسابات تحاول تنظيم اليوم المقبل. تبقى مشاريع كثيرة في الكتابة، في النقد خاصة، الأعمال المشتركة مع الباحثين، السفر، حيوات أخرى تلمس وتر القلب وتجعل العمر الهزيل معيشا بكثافة وكلانية وغنى.
إنه عمر هزيل نعم، يلهث إلى محطة لا أدري رقمها، وتحتضر فيه الكثير من اللحظات الرقيقة، كما تغيب فيه الكثير من الصدمات الحادة التي شكلت لي تحوّلا مفارقا، أحاول فيه ما أمكنني أن أبقى قيد اللهفة، أن أكون سعيدا مستمتعا حيث لا أفقد الأمل بعد أن حلّت الكارثة وجئت إلى هذه الحياة الموحشة دون اختيار مني.
الخيبات تتكرّر، العينان تنفتحان على أشدهما في انتظار المزيد من البؤس والضجر والتعاسة..أحاول ما أمكنني ألاّ أُخيّب ظنَّ نفسي بي أكثر..
يقول أوشو: «لا تطلب المستحيل...ابحث عن قانون الحياة ومن ثمة اتّبعه»
من يدري؟ ربما سأكتب في يوم ما «أربعون» وقد وجدتُ هذا القانون واتّبعته..لكن، مادامت الثلاثون هي ما يتراءى لي الآن فلا أقلّ من أصرخ عاليا كما سقراط:» خير لي أن أظل ياسين قلقا، من أن أظلّ حملاً غير قلق». قلقي الذي جعلني أكتب هذا في أواخر الليل بينما ينتظر عمل على الثامنة وطائرة مساء وهو القلق نفسه الذي واءم بين سيوران وأوشو وهما فيما قرأت يكادان يكونا على طرفي نقيض.

الرجوع إلى الأعلى