عبد الرزاق بوكبة

برع شاعر المحكية الليبية سالم العالم [1968] في استحضار أنثاه، من زاوية طفولية، فهي دائماً محلوم بها، حتى وإن كانت بين ذراعيه، فكأنه لا يريد أن يلتقيها، كي يحافظ على شعلة الشوق/ الحلم، على قيد الاشتعال/ الإضاءة، أو كأنه ينفي بهذا التناول، كونه ليس من زمرة الشعراء/ الفحول الذين يجدون متعتهم في امتلاك معشوقاتهم، وضمّهن إلى جملة المتاع « مازال تقرأ في قصيدة شعر ليا. قبل ما ترقد. وإنها من فرحة لقاها بيا ناسية إن في بيناتنا موعد».
حالات حب متداخلة، ومفتوحة على الوصال، لا على الهجر، والقرب لا على النأي، فهي أنثى محققة، وما على القصيدة إلا أن تكون واعية بدورها في التقاط اللحظة. ولعل ولادته في إيطاليا، وإتقانه للغات الأجنبية، هو ما أحاله على زاوية التناول هذه، فعادة ما نجد المدونة المحكية العربية، خاصة في لبييا والجزائر، غارقة في شعرية الحرمان « كلوديا يا مربط فرس ما راودت فارسها/ يا خطوة على بساط الطريق، ومراية المشوار تعكسها/ يا توهة شواطي الريح عن نوارسها».
من هنا تراهن قصيدة سالم العالم، منذ ديوانه الأول «أنا والليل خوت»/ 2006، إلى مخطوطه الذي لم يُنشر بعد «ديوان لأنثى واحدة»، على خطابين، عادة ما يُطرحان عربياً بصفتهما متنافرين، أو ما يسمّيه عبد الله الغذامي بالثنائيات الغبية. يتوجه الخطاب الأول إلى الأذن، حفاظاً على الميولات المتوارثة في التلقي عند العرب، بينما يتوجه الخطاب الثاني إلى العين، قصد إشراكها في رسم اللوحة الشعرية، وخلق لذة أن يُرى المعنى.
هذا الخيار جعل الشاعر حريصاً على حضور القافية، مع الحرص على ضبط حضورها وتحديد الحيز المتاح لها في المشهد، حتى لا تطغى رقصتها/ رنينها، على باقي الحالات، ومنها الحالات الجوانية التي تدرك بالصمت، أو بالموسيقى/ فن السماع عند المتصوفة، أين يصبح الصمت والموسيقى شبيهين/ حليفين في استدراج الدلالة «زادي عليْ طول الطريق حروف، وشوّشت في سَمعْ البحر حرفين، ودسيت باقي حروفي، لا اْلمْد باحْ بسرّي، لا الْجَزْر بيّن خوفي».
خرّيج كلية الاقتصاد عام 1991، يُحكّم الحالة في تحديد ملامح جسد النص، طولاً وقصراً، هدوءً ورقصاً، مهادنة ومشاكسة، فهو في ديوانه «محكيات» مثلاً، تارة يكتب ومضة، في حجم منقار الحمامة بتعبير غوغول، وتارة يُرخي سدوله بتعبير الملك الضلِّيل، وما بين خمس كلماتٍ، وخمسمئة كلمة، لا نشعر بإخلال أو ثرثرة.
إن الشعر عند صاحب ديوان «ابتسمي»، حالة وجدانية وفكرية معاً، تصبو إلى إعادة ترتيب العالم من جديد، وتقترح مفرداتٍ جديدة لتقوله، وهو ما يعطي للأسئلة في متونه، أولوية على الأجوبة، وللشك سلطة أقوى من سلطة اليقين. هناك دائماً رغبة في تغيير اتجاه الطريق «مستعجل ونجري مشغول الفكر مش لاهي، والوقت مش وقتي، والساعة ف أيدي عاطلة، والحكاية زاطلة، والطريق زي الحياة ماشية عكس اتجاهي».
مقام يفرض مواجهة القصيدة/ اللغة نفسها، ليس بغرض تطويعها، فنزعته الحداثية تمنعه من تبني ثقافة التطويع، بل قصد إقناعها بتجنب الجاهز والمكرس والمستهلك، والخوض في رحلة بحث لا تنتهي عن قاموس يستمد مفرداته من اللحظة.
في هذه الحالة تصبح القصيدة نفسها شريكة في الفعل الشعري لا مطية، وشطراً من الذات لا وسيلة للتعبير عنها « واجه كل أوهام الزيف/ أكتب اسمك.. ما تكونش حاجه غير نفسك/ شكّل ذاتك/ لوّن رسمك/ لوّن حتى ألوان الطيف/ حب ّوأكره.. أجري وأمرح.. عيش وأفرح، لكن أصحى أنك ترضى، تعيش ف وطنك زي الضيف». 

الرجوع إلى الأعلى