في التراث الشفوي الجزائري قصص لتلقين المراهقين  الثقافة الجنسية
اعتبر الحكواتي فيصل بلعطار، الذي حاز في شهر مارس الماضي على جائزة “ترامبولين الحكواتيين” بمهرجان نوشاتل بسويسرا، بأن التراث الشفوي الجزائري غني جدا بالحكايات الشعبية، كما أشار في حوار خص به النصر، إلى التفتح الكبير لمجتمعنا في الماضي، مقارنة بما هو عليه اليوم، كما تبرزه قصص توارثتها الأجيال بمنطقة القبائل، حيث قال بأن العديد منها، كان موجها لتلقين المراهقات والمراهقين ثقافة جنسية سليمة تجنبهم الاضطرابات خلال انتقالهم إلى مرحلة البلوغ.
حــاوره: ســامي حبــاطـي
التقينا بالحكواتي بلعطار، على هامش الأمسية التي نشط احدى فقراتها بجامعة الإخوة منتوري بقسنطينة، في إطار تظاهرة “سوق عكاظ” المنظمة من طرف أساتذة قسم اللغة الفرنسية، حيث حدثنا عن بداياته ومشاربه في فن الحكاية والمهرجانات التي شارك فيها، كما تطرق إلى موضوع القيم في القصص الشفوية، و موقع و مكانة هذا الفن في الساحة الثقافية المحلية.
_النصر: لماذا اخترت قصة “جلجامش” لتقديمها في تظاهرة سوق عكاظ بجامعة قسنطينة؟
_فيصل بلعطار: اخترتها بناء على طلب من إحدى منظمات التظاهرة، لكن هذه القصة تمثل في الحقيقة الشق الأول من ثلاثيتي، التي أطلقت عليها عنوان “نبض في قلب الشرق”، حيث أتحدث في هذا الجزء عن جلجامش، وهو الملك الذي عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، ويعتبر المؤسس الفعلي للحضارة السومرية، كما أنه مصنف على أنه أول ملك في العالم. ويمكنني القول بأنني اخترت الكتابة حول هذا الجزء من العالم، لأن مخيالي تغذى كثيرا على تراث المشرق القديم، الذي يمثل مهد الحضارات و البدايات الإنسانية، ولم يكن على حال مشرق اليوم.
بناء على كل هذا، قمت بالعمل على هذه القصة بطريقتي الخاصة، حيث أبقيت على حلقات منها وتخليت عن الأخرى، كما أدرجت بعض التعديلات، إلى أن تحصلت على هذا النص في شكله النهائي، الذي توجت بفضله بسويسرا في 23 مارس الماضي، في إطار مهرجان الحكاية لنوشاتل.
أحمل خبرة 8سنوات في عالم الحكاية
_كيف كانت بداية مسيرتك في مجال الحكاية؟
_دخلت مجال الحكاية بشكل احترافي في سنة 2009، فيما راودتني الفكرة الأولى لولوج هذا العالم قبل ذلك بسنتين، حيث كنت من محبي الأدب الشفوي، لكن في 2009، كان لقائي الأكبر مع الحكاية و فنون الكلمة واليوم لدي خبرة ثمانية أعوام في هذا المجال.
يمكنني القول أيضا بأنني عشت الحكايات وأنا في المهد، كما كبرت معي في شبابي، و بعد ذلك انقطعت عنها قليلا، لأننا في مجتمع معاصر بدأ ينسى القصص الشفوية، لكنني عدت بعد ذلك إلى هذا العالم وأصبحت ما أنا عليه اليوم. تابعت أيضا مسارا دراسيا أكاديميا، ثم خضعت لتكوين في فن الحكاية، كما أتيحت لي الفرصة لأحظى بدعم من حكواتيين كبار ولهم مكانة في العالم، بالخصوص الحكواتي المغربي حميد بوزين، الذي أعتبره عرابي، فقد تعلم أيضا فن الحكاية من الحكواتيين الأفارقة الملقبين بـ”الغريو”.
أما أنا فقد غيرت الآن مساري قليلا، وأصبحت أؤلف قصصي بنفسي، فمن الجيد أن نقوم بنقل الحكايات، لأننا بذلك نساهم في الحفاظ على ذاكرة الإنسانية، لكن يجب أن نشارك أيضا في تطوير هذا الفن، من خلال الكتابة التي تزيده ثراء، وهنالك الكثير من الحكواتيين الذين يفعلون ذلك، وهذا يقوم على قدر كبير من الجمالية ونسعى من خلاله في النهاية إلى إعادة خلق عالمنا والتصالح معه. والعمل الأنبل للحكواتي هو أن يجعل الآخرين يحلمون، فنحن اليوم بحاجة إلى الأحلام في هذا العالم الذي بات يسبح في الدماء.   
_هل قدمت عروضا في الجزائر من قبل؟
_بكل تأكيد، قدمت الكثير من العروض هنا، وآخرها في شهر مارس الفارط، في المهرجان الدولي المتعدد الثقافات بوهران ، وفي 2012 قدمت عرضا في ختام المهرجان الدولي للحكاية بمدينة قسنطينة، كما تأتيني الكثير من الدعوات الفردية لتنشيط أمسيات.
ملحمة جلجامش هي أول شكل أدبي في التاريخ
_لقد تحدثت عن الأدب الشفوي، ماذا تقصد تحديدا بهذا المصطلح؟
_أتحدث عن الأدب الشفوي، وأضيف هنا بأن ملحمة جلجامش هي أول شكل أدبي في التاريخ، وكتبت على الحجارة من أجل العرض الشفوي فقط، والأدب الشفوي هو الذاكرة الجماعية والتراث اللامادي وكل ما هو حكاية وأسطورة وملحمة وأمثال وخرافة وشعر وغيرها، أي جميع أشكال فن القول.
_ألا ترى بأن التراث الشفوي العربي أغنى من تراث مناطق أخرى من العالم؟
_بالفعل، فالتراث الشفوي للعالم العربي غني جدا، لكن تجدر الإشارة إلى أننا في الجزائر نملك أيضا ثروة إضافية بسبب انتمائنا الأصلي إلى القارة الإفريقية و المغرب العربي، الذي يوجد فيه رصيد كبير من الفنون الشفوية الأمازيغية، على غرار التراث القبائلي والشاوي وتراث التوارق. و هنالك باحث كبير اسمه ليو فروبينيوس، عاش في القبائل وقام بجمع كم هائل من الحكايات المروية هناك في كتاب ضخم من أربعة أجزاء، فيه من الحكايات المرعب والعجيب والخارق، وفيه حتى الحكايات الإيروتيكية، التي تمثل نوعا من التربية الجنسية. أما إفريقيتنا فتمنحنا قيمة مضافة، حيث يوجد في قارتنا أنواع مختلفة من الحكايات، على غرار الحكاية الفلسفية والأساطير والحكم، ويمكن القول بأن الأدب الشفوي يمثل العالم الإفريقي بامتياز.
من جهة أخرى، توجد الآثار الشفوية للمشرق، بالإضافة إلى ما توارثته البشرية عن الإغريق والرومان و السلتيين، فضلا عن تراث الهنود الحمر الغني بالقصص القادمة من قارتهم البعيدة، لكن يمكنني القول إن الحكاية في العالم الإفريقي تجد لها فضاء أخصب من العالم العربي، الذي يسجل فيه شكل آخر من إلقاء الحكاية، تتمثل في “الحكواتي” الذي يفتح كتابه ويبدأ برواية قصة على المتلقين.
في حين، إذا ما ذكرنا إفريقيا، فإننا نتحدث عن حكواتيي “الغريو”، الذين هم من الحكماء وأعيان المجتمع، المخولين لتغذية عقول الشباب بالأفكار. ولقد شاركت خلال شهر نوفمبر من السنة الماضية في اللقاءات الدولية للفنون الشفوية بالبينين، ولاحظت بأنه حدث عظيم هناك، لكن الشيء المثير للانتباه أيضا، هو أن القرى الجبلية بتيزي وزو، تحتضن في كل صيف مهرجانا مماثلا و يقصده الفنانون من كل مكان.
الحكواتي لا يعترف به كفنان ببلادنا
_وهل التراث الشفوي في الجزائر مستغل فنيا بشكل جيد؟
_للأسف لا، فالتراث اللامادي الجزائري لا يزال مجهولا بسبب عدم العمل عليه. يبذل بعض الحكواتيين جهدا، على غرار ما أفعله أنا وآخرون في مناطق مختلفة من الوطن، لكن عددنا قليل جدا، وهذا أمر مؤسف، لأن ثروتنا في هذا المجال كبيرة، لكن نسبة العمل عليها ضعيفة جدا. توجد بعض المبادرات لنقل الحكايات الشفوية الشعبية عن طريق الغناء.
_إذن هي مجرد مبادرات فردية...
_نعم بكل تأكيد، حتى الجهات الوصية على الثقافة لا تعترف بالحكواتي كفنان ولا تعطيه التقدير الذي يستحقه، ولكننا لن نتوقف عن بذل الكثير من الجهد في هذا المجال، ولن نتخلى عن دورنا في تطويره وإعادة القيمة الحقيقية للحكواتي، المخول بنقل كل ما يرقى لأن يُحول إلى الغير.
حكايات قبائلية ترافق الفتيات إلى غاية مرحلة الزواج
_هل يمكن أن توضح لنا مزيدا من النقاط حول الحكايات الموجهة لتلقين الثقافة الجنسية للشباب؟
_توجد حكايات موجهة للفتيات، خصوصا اللائي هن بين مرحلة البلوغ والمراهقة، أين يحدث تغير فيزيولوجي على جسم الفتاة، و تعمل هذه القصص على جعل هذه المرحلة الانتقالية هادئة دون اضطرابات،عن طريق تحضير الفتاة نفسيا وتجنيبها صدمة العبور من الطفولة إلى مرحلة الزواج، لذلك كانت النسوة تحضرنها من خلال حكايات مسلية، تحمل في طياتها رسالة مهمة.
_ هل هذه الحكايات موجهة للفتيات فقط؟
_لا، بل توجد قصص أخرى موجهة للشباب الذكور أيضا، فالفرق بين المرأة و الرجل لا يتعدى الاختلاف الجسدي، لكن الإنسان الموجود بداخلنا هو ما يهم فعلا.
_ أليس هذا دليلا على أن المجتمع الجزائري كان أكثـر انفتاحا في الماضي مما هو عليه اليوم؟
_لم ألاحظ ذلك، إلا بعد أن قرأت ما كتبه ليو فروبينيوس، وقد أبهرني بشدة وجود تراث شعبي من الحكايات الإيروتيكية في القبائل، وعند مجتمع منفتح على الآخر ومتعدد الثقافات ولديه الكثير من المدارس في فنون القول. أعجبني الأمر فعلا، فاليوم نحن بحاجة إلى شيء من هذا لمواجهة الكم الكبير من الكبت الذي نعيشه ولإعادة عالمنا الحقيقي إلى السطح.
كما أننا يجب أن نظهر بعض المعالم الخفية في تاريخنا، فمن المهم جدا أن نعرف من أين جئنا وموقعنا اليوم و إلى أين نتجه، وحتى وإن سلمنا بأننا لا نعرف من أين جئنا، يبقى من المهم جدا أن نعرف إلى أين نتجه، وهذه هي القيمة الواجب نقلها.
الحكواتي ليس معلما
_هل يجب أن تتضمن الحكاية دائما رسالة ما؟
_نحن لا نقوم بالتعليم من خلال الحكايات، ولا نعتبر أنفسنا معلمين أو أساتذة، ولكننا نحكي و لكل متلقي الحرية في تكوين فكرته الخاصة. مع ذلك، نحن ندرج من خلال ما نحكيه نظرتنا إلى العالم وإلى ما يحدث من حولنا، إلا أننا لسنا هنا لتعليم الناس أو لتوجيه رسائل لهم. (يضيف مبتسما) لا نقوم بالسياسة من خلال الحكاية، لكن الأمر المهم هو وجود قيم، وهذه المسألة محل جدل كبير في عالم الحكاية.
وتعمل الكثير من الدول التي يعرف فيها فن الحكاية ازدهارا  على تعزيز وجوده داخل مجتمعاتها، على غرار سويسرا التي تبذل جهودا كبيرة لغرس ثقافة الحكاية من خلال العديد من التظاهرات التي تنظمها و هي ذات نوعية رفيعة، وحتى في سوريا تُنظم مهرجانات للحكاية، رغم الاضطرابات الكبيرة التي يعرفها البلد، عكس الجزائر التي لا تزال مهرجانات الحكاية قليلة بها .            
س.ح

الرجوع إلى الأعلى