عمارة "النجمة" قصة بناية فرضت اسمها على حي بأكمله
ارتبط اسم "نجمة" بتراث قسنطينة الثقافي، و الأدبي و المعماري أيضا، فهو لم يرّدد فقط في أغنية "البوغي" و لا في رواية كاتب ياسين، و لا في مقهى "النجمة"، نادي المثقفين، بل ارتبط أيضا بعمارة تحمل هذا الاسم و تفرضه على حي كامل لتميّزها المعماري، حيث بنيت عام 1956.
تحقيق:  مريم/ب
الحديث عن المنطقة المعروفة باسم "النجمة" الكائنة بين ملعب بن عبد المالك و حي قدور بومدوس في قلب قسنطينة ، قد يجعلنا نظن بأن الأمر يتعلّق بحي أو بشارع، غير أن الاسم فرضته بناية في شكل نجمة، تحوّلت إلى معلم منذ خمسينيات القرن المنصرم.
العمارة ذات الـ12 طابقا و المكونة من 77 شقة، أثارت الإعجاب منذ تشييدها لعدة عوامل، حسب القاطنين القدامى الذين تحدثنا إليهم، حيث أجمعوا بأن سر تسميتها يكمن أولا في شكلها المعماري الذي يظهر من الأعلى كنجمة ثلاثية، فضلا عن كونها كانت ضمن العمارات الأولى المشيدة بعلو بارز في تلك الفترة، باعتبار قسنطينة كانت معروفة ببناياتها الأرضية و عماراتها التي لا تتجاوز ست طوابق كأقصى حد.
خلال زيارة النصر للمكان التقينا بعمي علي مرابط ،البالغ من العمر  82 سنة، الذي أخبرنا بأنه أحد البنائين الذين شاركوا في تجسيد هذا المشروع، فالرجل و رغم تقدمه في السن يعرف المكان شبرا شبرا، و إن خانته الذاكرة في استرجاع اسم المهندس الذي وضع مخطط هذه البناية التي هي في الواقع عبارة عن ثلاث بنايات بثلاث واجهات أمامية، لكن بمدخل واحد.
من خنادق الحربين  العالميتين  إلى تحفة معمارية
تذكر محدثنا أنه كان في ورشة البناء خلال خمسينات القرن الماضي، حين وصل خبر اكتشاف الاستعمار الفرنسي لتعامل ثلاثة بنائين من بين اليد العاملة الجزائرية حينها، مع جبهة التحرير الوطني، فاضطر المعنيون  للفرار عبر مكان مليء بالخردة عبر ممر حي آمزيان ، قبل الصعود إلى الجبل للإفلات بجلدهم، لكنهم سمعوا خبر استشهادهم في ما بعد، و من بين هؤلاء تذكر اسمين الأول يدعى بلعباس و الثاني كان يكنى بمسعود الماسون.
اليد العاملة الجزائرية هي التي جسدت هذا المشروع التحفة، يذكر عمي علي مرابط الذي كان في تلك الفترة مكلف بخلاطة الاسمنت و رافعة الخرسانة، مشيرا إلى أن المكان كان عبارة عن مروج و حقول للقمح، كما كان يحتوي على خنادق يرجح أنها تعود للحرب العالمية الأولى و الثانية، مثلما قال.
و تحدث عن الحوادث القاتلة التي تعرّض لها بعض زملائه من البنائين الذين كانوا في الورشات المجاورة بكل من أحياء "لابري" و "الهواء الطلق" و "السيلوك".
استضافتنا بعد ذلك المجاهدة حليمة بن مليك، في شقتها بعمارة النجمة التي يصل عدد الشقق في كل طابق منها، إلى ستة شقق يتراوح عدد الغرف فيها بين ثلاث و خمس غرف، فقالت لنا بأن كل قاطن جديد للعمارة كان يتلقى 4 مفاتيح بمجرّد استلامه الشقة، واحد خاص بالمسكن والثاني لولوج سطح العمارة و الثالث للقبو و الرابع لمرآب السيارة ،الذي كان يقع بالجهة العلوية على بعد أمتار عن البناية الفاخرة التي تحوّلت بمرور الوقت إلى معلم معماري يستدل به على حي كامل، خطف الأضواء من الأحياء  الفرعية و المجاورة أيضا، كحي بغريش مصطفى و حتى قدور بومدوس و العمارات الأربعة المحاذية لعمارة النجمة، و كذا حي المنشار، الكائن بالجهة السفلية، لا لشيء سوى لأن علو و شكل البناية الفريد من نوعه منحاه هذا الامتياز .
مجمع ليهود "الشارع"
و يتذكر عمي علي صورا لا تزال راسخة في ذهنه ، بأن عددا مهما من اليهود كانوا يسكنون في "الشارع" أو "الروتيار"،حي طيطاش بلقاسم حاليا، نقلوا بعد الاستقلال للإقامة مؤقتا بعمارة النجمة و العمارات المجاورة، و ذلك قبل مغادرتهم أرض الوطن نحو فرنسا في نهاية الستينيات و بداية السبعينيات، أما عن العائلات العربية ، فيتذكر بأن عائلتي عباسي و عبد النوري كانتا ضمن السكان الجزائريين الأوائل لهذه البناية.

النجمة بمصعد معطل منذ أكثر من 20 عاما
عمارة النجمة بقيت مثار إعجاب و فخر السكان، لما حظيت به في الماضي من موقع استراتيجي قريب من قلب المدينة، و جمال عمراني و محيط نظيف، كان السكان يحرصون عليه أكثر من حرصهم على نظافة بيوتهم، على حد تعبير أحد قاطنيها اليوم، باعتبارها واجهة لأحياء جميلة مجاورة لها بالجهة العلوية من جهة، و باعتبار أكثر قاطنيها من الطبقة الميسورة و إطارات في الدولة، الشيء الذي يسّر عملية التواصل و التضامن، لأجل الحفاظ على نظافة المكان و المحيط ، لكن كل ذلك تغيّر، حسب السكان، في تسعينيات القرن الماضي، أين عرفت البناية و كل الحي تدهورا مؤسفا، جرّاء لا مبالاة السكان الجدد الذين تسببوا في عطل مصعدي البناية العالية، بعد أن قاموا باستغلالهما في نقل براميل المياه من الطابق السفلي إلى الطوابق العليا، و ذلك  خلال فترة طويلة عانت خلالها جل أحياء المدينة من ندرة في المياه، و لا يزال المصعدان معطلان إلى غاية يومنا هذا.
و إن كانت العمارة قد حظيت بعمليتي ترميم  و طلاء لواجهتها الخارجية، تعود الأولى لثمانينيات القرن الماضي، فيما كان الترميم الثاني بمناسبة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، لكن لم يتم تصليح مصعديها اللذين لا يزالا ينتظران حلا لوضع حد لمعاناة السكان التي  استمرت لأكثر من 20 سنة، خاصة القاطنين بالطوابق الأخيرة و منهم مرضى و مسنين يجد ذويهم صعوبة في نقلهم إلى الطبيب أو المستشفى، كما حرموا من الخروج و التجوّل أمام هذه المعضلة التي استمرت طويلا.
ما يجذب الانتباه أيضا لدى ولوج بناية النجمة،  سلالمها المعدنية ذات الشكل الحلزوني، دون محور يثبت أطراف أدراجها المحمولة فوق بعضها البعض، مما يثير الإعجاب و التأمل، تماما كإعجاب الزائر بطريقة توزيع الشقق المنظمة و تهيئة المكان الذي كان لنا حظ رؤيته عن قرب، بفضل كرم بعض القاطنين المضيافين الذين فتحوا لنا أبواب شققهم، و سردوا لنا كل ما يعرفونه عن هذه البناية التحفة، و كذا حيهم الذي تأسف الكثيرون للحالة المزرية التي بات عليها اليوم، بعد أن كان في الماضي يصنّف ضمن الأحياء الراقية، و إن كان ذلك، لم يؤثر على مكانته عند الراغبين في امتلاك شقق بقلب مدينة قسنطينة، حيث عرفنا من السكان أن سعر الشقة في هذه البناية تجاوز المليار و 200 سنتيم.
روضة الهلال الأحمر فضاء لطفولة مرحة
و الحديث عن عمارة النجمة يفرض الإشارة إلى روضة الأطفال، التابعة للهلال الأحمر الجزائري، التي كانت لسنوات طويلة فضاء للتسلية و الاعتناء بالأطفال ليس فقط أبناء الموظفين، بل حتى أبناء الحي الذين كانوا يستمتعون بالألعاب و لحظات الترفيه و التنشيط المنظمة من قبل المشرفين على هذا المرفق الذي فتح أبوابه بعد الاستقلال، و كذا المحلات الكثيرة المحيطة بالبناية و التي عرفنا من السكان أنها كانت مرائب  خاصة لركن سيارات قاطني العمارة، و اختار بعضهم بيعها، فيما حوّلها البعض الآخر إلى محلات تجارية، نظرا لموقعها الاستراتيجي المهم.
أوساخ الأحياء السفلية تشوّه بانوراما النجمة
سمعنا الكثير عن جمال هذا الحي، لكننا صدمنا لدى وصولنا بالأوساخ و الباعة الفوضويين على بعد أمتار من هذه البناية، التي يحاول بعض سكانها رغم كل شيء، الحفاظ على رونقها من خلال الحرص على نظافتها، فهم لا يترددون في طلاء سقيفتها و طوابقها من مالهم الخاص، غير أن تشوّه المحيط في الشوارع و الأحياء المجاورة لها من الناحية السفلية، كحي المنشار، المعروف بسكناته الفوضوية، رمى بظلاله على رونق هذا المكان الذي يعرف تدهورا مستمرا من سنة إلى أخرى، رغم مبادرات و مساعي السكان الغيورين على حي، كان ذات يوم قبلة لسكان الأحياء المجاورة الذين يفضلون التجوّل و الاسترخاء في محيطه المليء بالأزهار.
م/ب

الرجوع إلى الأعلى