تقع مدينة فركان الضاربة في أعماق التاريخ فوق ربوة عالية بولاية تبسة، منازلها من تراب و أسقفها من جذوع النخيل و جريده و سعفه، و هي ذات شكل مسطح تلتف حولها، كما يلتف السوار بالمعصم، بساتين من نخيل و زيتون و عنب و أشجار أخرى كثيرة، مما زادها جمالا وسحرا.
عبد العزيز نصيب
اختلف المؤرخون في اسم فركان الأصلي، فمنهم من عرفها عن طريق الخرافة، أو تقسيم للكلمة، مثلما ورد في تعريف فركان في دليل الجمهورية لسنة 2006 و هو أن فركان  تعني اسم الرحالة فركلون، و هذا التعريف لم يحدد مصدره،  و التعريف الآخر قسّم كلمة فركان إلى : "فر و كان”، و بمرور الزمن و تطور الأجيال و الألسن، دمجت الكلمتان و أصبحت فركان و قد ابتكره أصحابه، لأنهم لم يجدوا تعريفا آخر أفضل منه.
 و هناك تعريف آخر له ما يسنده في كتب  التاريخ، كما جاء في كتاب تاريخ العدواني في القرن 17 عندما مر بفركان و ذكرها بهذا اللفظ " أفركان”، و لدى  تمعننا في الكلمة، وجدنا لها مرادفا في الأمازيغية، و هم السكان الأصليون للمنطقة  منذ أزمنة غابرة،  و تعني كلمة أفركان عند الشاوية في منطقة الأوراس و ما جاورها " العود الصلب " ، الذي يحرك به الجمر و يعرف في اللهجة الدارجة ب”المحماش”  و بالأمازيغية "أفركاك”، و عندما سألنا أمازيغ جرجرة عن معنى أفركان، كان جوابهم أنها تعني مجموعة الأغصان و العود الصلب.
و لدى بحثنا في المناطق القريبة من البلدة، وجدنا مكانا يتربع على مساحة تتجاوز هكتارين، يحتوي بأكمله على رماد، حتى سميت هذه المنطقة بالرماديات لكثرة الرماد فيها و كثرة النيران، لأنها كانت محماة للفخار، كل ذلك يجعلنا نسلم بأن الاسم الحقيقي لبلدية فركان هو " أفركان " .
تاريخ يمتد إلى العصر الحجري
وأنت بعاصمة الولاية تبسة و ترغب في زيارة هذه البلدة العتيقة، ما عليك إلا أن تسلك الطريق الوطني رقم 16 الذي يربط تبسة بالجنوب، أين تجد في طريقك فركان على مسافة 180 كلم، و تعتبر فركان همزة وصل بين عدة ولايات، فهي تربط بين ولايات تبسة و الوادي و بسكرة و خنشلة و الحدود التونسية، كما تربط الصحراء بالشمال، حيث تمتزج الرمال بالهضاب و النباتات الصحراوية بنظيرتها في الشمال، و تتربع على مساحة تقدر ب 903 كلم مربع، صالحة لكل الأنواع الزراعية و الفلاحية، بل حتى المنجمية كالأجر، و الجبس لوجود الطين بكثرة بها و كذا الكلس.
الزائر لفركان لا يعرف عن الآثار الموجودة بها شيئا، إلا قصورها القديمة التي بقيت أطلالا، فالزائر لها و قبل دخوله إليها بحوالي 1.5 كلم،  يستوقفه من ناحية الشمال  معلم تاريخي و هو كنيسة " فم الكوشة "، التي لا تزال تحت الأنقاض إلى غاية اليوم، و قد اكتشف هذه الكنيسة الاستعمار الفرنسي سنة 1960 و وجد داخلها هيكلا عظميا كبيرا و عليه آثار من قماش و من شعر وحرير و قطع حجرية تحمل كتابات باللغة الليبية القديمة التي كان يستعملها البربر آنذاك، و هذا ما يؤكد وجود فركان منذ العصر الحجري. و هذا الموقع لا توجد به معالم ظاهرة أو علامة مميزة تدل عليه، و قد أجريت  في 1960 مقارنة بين مواد البناء المستعملة فيه، و مواد بناء من مدينة البسرياني الرومانية بنقرين، فلوحظ أنهما من نفس المادة ، و المعروف أن البسرياني بني في القرن الأول  إلى الثاني ميلادي، حسب كتاب حوزة تبسة .
كنوز تنام تحت أرض تجمع بين الصحراء والتل
إذا توجه الزائر  إلى جنوب فركان على مسافة 24  كلم، وبالضبط إلى منطقة البليدة ، سيجد القلعة الرومانية التي  اكتشفها الاستعمار الفرنسي  سنة 1858 و قد بنيت على مساحة تقدر ب 4 أو 5 هكتارات ، بين القرن 3 و 4 ميلادي،  حسب المؤرخ الفرنسي جون بيار كسال، لكنها توجد اليوم تحت الأنقاض ولا يظهر منها شيء ، فضلا عن وجود بعض آثار السور الذي يسمى " الليموس " ، الذي بناه الرومان، انطلاقا من منطقة البسرياني الأثرية إلى غاية منطقة مديلة، حيث فصل به الرومان بين الصحراء و منطقة التل ، اتقاء لهجمات القبائل الصحراوية، ولم يبق منه إلا آثار قليلة جدا.
 و إذا توجه الزائر نحو الشمال، ففي المكان المسمى سهل مديلة،  تمتزج الحضارات  بين الرومان و البربر و العرب الهلاليين، و لا تزال هذه المنطقة عذراء لم تغيرها يد الإنسان كثيرا وتعرف أيضا باسم "وادي هلال " في قصص الهلاليين و حكايا قصور الكاهنة.
وقال الفلاحون أنهم أثناء اشتغالهم بالنشاطات الفلاحية هناك، وجدوا آثارا كثيرة ، تدل على تواجد الرومان، و ليس أدل على ذلك من كثرة النقود و الفخار و الحجارة الرومانية  و بعض الفوانيس البربرية  و القبور التي لم يعرف لمن تعود بالضبط ، ذلك أن المدينة عبارة عن سهل خصب  صالح للزراعة التلية و الصحراوية ، فهي كما امتزجت فيها الحضارات، امتزجت فيها أيضا الطبيعة. فإذا حدقت بالنخيل و جني التمور، يخيل إليك أنك في أعماق الصحراء بينما إذا نظرت إلى الزيتون والأشجار المثمرة الأخرى، فستسافر بمخيلتك إلى مدن الهضاب والسهول التلية ، فهذه المنطقة سياحية بامتياز ، تحتاج فقط إلى العناية و توفير الإمكانات الضرورية للاستقطاب السياحي وحتى البحث العلمي من خلال التنقيب عن الآثار التي تنام عليها منطقة فركان منذ عهود غابرة.               
موطن الماء والمروج
و بعد رحلة ممتعة بين التاريخ والطبيعة العذراء، و أنت راجع إلى قلب المدينة، قد تتساءل ماذا عن المدينة نفسها بعد أن عرفت أطرافها وحواشيها ؟  ستلاحظ أن المدينة العتيقة أو ما يسمى بقصور فركان، بنيت على ربوة شديدة الانحدار، شبيهة بالقرى الصحراوية القديمة، من حيث المواد المستعملة في البناء من الأساسات إلى غاية السقف، وهي على وجه الخصوص الطين المجفف تحت أشعة الشمس ، أما الأسقف فشيدت بجذوع النخل وجريده ، ثم تغطى بطبقة من الطين ، وتكون هذه الأسقف مسطحة، و ذلك لاستعمالها في فصل الصيف للنوم ليلا و السمر على ضوء القمر.
 لكل منزل فناء أو حوش كبير و واسع، يحتوي على إسطبل  للحيوانات وخم للدجاج ، وبيت للخلاء، وعادة ما تكون لهذه المنازل سقيفة وهي مدخل البيت ، إلى جانب عدد معتبر من الغرف، حسب عدد أفراد العائلة، وتحتوي هذه الغرف على مدخنة تستعمل للتدفئة أو لطهي الطعام ، و يكون بها زير أو ما يسمى لدى سكان الجهة بـ " الخابية " ، تستعمل لتخزين القمح أو الشعير أو التمر ، كما توجد بعض الجرار المعلقة على جدران الغرف مملوءة إما بالزبدة أو الفلفل الحار ، أو الطماطم المطحونة ، وتستعمل الجرار الكبيرة منها لتخزين الماء  والزيت.
 و تجد في كل بيت غرفة مخصصة لعصر الزيتون بالطريقة التقليدية، حيث تكون الغرفة عبارة عن حجر كبير مسطح و حجر آخر مكور فوقه. و قد سبق للنصر نشر روبورتاج حول هذه العملية.و تضم بعض البيوت آبارا خاصة للماء ، ويسقى منها الجيران.

 هذه المنازل قريبة من بعضها و تكاد تكون ملتصقة و تشكلت بينها أزقة  ضيقة لمرور الراجلين من أهل القرية و حيواناتهم ، وعلى الواجهة الشرقية من القرية العتيقة،  شيد مسجد يصلي فيه الأهالي و تقضى فيه حاجات أهل المدينة  وتاريخ بناء هذا المسجد غير معروف لدى السكان ، ولا توجد وثائق أو مصادر تؤرخ لذلك.
أمام المسجد يوجد منبع ماء كبير، أكدت مصادرنا، أن قوة تدفقه بلغت 300 لتر في الدقيقة، وهو المنبع الذي تتزود منه البلدة و جميع الغابات المحيطة بها ، و ذلك عن طريق "الري بالقدم” ، و يقال أن رجلا وضع هذا النظام الدقيق  و المحكم في  السقي ، الذي يعتمد عليه حتى اليوم ، فحسب روايات أهل فركان، فإن هذا الرجل جاء قديما من الشرق أي من تونس واسمه " بن شباط "، و وضع نظام سقي شبيه بنظام السقي في منطقة القرارة وهو ما يسمى بنظام "الفوقارة " ، فضلا عن وجود منابع مائية أخرى ولعل أهمها " عين بردوشي " و تصل قوة تدفقها 150 لترا في الدقيقة، ومنبع " محمود " بقوة 120 لترا في الدقيقة، والتي لم يبق منها غير آثارها اليوم .
ولا يجد السكان مشكلا مع الماء ، فهو متوفر بكميات كبيرة وكافية ، و يكفي أن يحفر المرء على عمق بضعة  أمتار ليجد الماء العذب الزلال ، الذي يتزود منه السكان في شرابهم وسقي محاصيلهم الزراعية ، وهذا ما جعل البلدة محاطة كلها بالغابات والبساتين، حتى  سميت هذه الغابات بالمروج وهو اسمها المتداول إلى غاية اليوم ، لأنها كانت في يوم من الأيام فعلا مروجا غناء، بها كل أنواع الأشجار لاسيما الزيتون وهو الغلة الغالية على قلوب السكان مقارنة الأشجار الأخرى ، إلى جانب النخيل والرمان الحلو والحامض، والعنب، والتفاح، والإجاص، والخوخ ، والمشمش، والتين، والسفرجل، وجميع الخضر، وهو ما جعل أهل فركان مكتفين غذائيا .
ويلاحظ أن كل الغابات متشابهة من حيث نوعية الأشجار المغروسة فيها، واللافت للانتباه أنه في الثمانينيات كانت توجد بعض جذوع النخل في حالة متحجرة تماما بمنطقة مديلة، وهذا ما يؤكد أن المنطقة ضاربة بأطنابها في أعماق التاريخ .
بعض العادات التي ارتبطت بالحياة الاجتماعية في المنطقة انقرضت اليوم ومن بينها عادة " التويزة "  التي كان يقوم بها السكان في جميع شؤون حياتهم  ،كحفلات الزفاف وأيضا الزردات للأولياء الصالحين ، كما هو الشأن بالنسبة لزردة سيدي علي بن عبد الله النوبلي، و هو رجل صالح يقال أنه جاء من مدينة نابل التونسية ، و زردة جدي الغول وسيدي محمد بن منصر وسيدي يعقوب الجنحاني بمديلة  وقد شجع الاستعمار الفرنسي هذه العادات بهدف تحريف عقيدة الناس ، بعد أن عمد إلى الاستيلاء على المدرسة القرآنية التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي بنيت سنة 1950
القرية القديمة عرضة للنهب والتخريب
بعد التقسيم الإداري لسنة 1984 ، تحولت فركان إلى بلدية ، وبدأ الناس يهجرون القرية العتيقة نحو القرية الجديدة و في سنة 1993 ، هجرت تماما وتخلى الناس عنها ، وهو ما جعلها عرضة للنهب والتخريب ، وتحولت بمرور الوقت إلى أطلال تبكي على ماض جميل، بعد أن كانت تنبض بالحياة،   فأصبحت اليوم مهجورة و مهمشة لا تسمع فيها إلا صفير الرياح  ولا ترى إلا أكواما من التراب وجدرانا تشققت وتصدعت ، و أسقفا تهاوت وتناثرت، فهي اليوم بحاجة إلى مشروع لترميمها عسى أن تدب فيها الحياة من جديد، وليعاد لها تماسكها وجمالها.
ويوجه سكان بلدية فركان عبر النصر نداء إلى جميع المسؤولين، وعلى رأسهم والي الولاية، من أجل العمل على بعث مشاريع سياحية لإحياء المنطقة، حتى تساهم في إنعاش الاقتصاد الوطني وخلق الثروة و مناصب عمل لأبناء البلدية الذين يشكون الفقر و البطالة، كما يدعون المعاهد المختصة في علم الآثار و التاريخ إلى زيارة فركان لإزاحة ثقل السنين والزمان عنها وعن كاهل الكنوز الأثرية المهددة بالاندثار و التلاشي
ع.ن

الرجوع إلى الأعلى