ابن السويقة الذي أشهر العلم الوطني في وجه ديغول و قال لا للجزائر فرنسية بقلب باريس
• هكذا  قلبت إحتفالات "الباستيل"  العملية البسيكولوجية  ضد فرنسا  
في 14 جويلية من سنة 1958، نظمت فرنسا استعراضا ضخما إحياء ليومها الوطني، بعد أن جمعت له 4 آلاف جزائري أغلبهم قيّاد و حركى جيء بهم إلى شارع "الشانزيليزيه" لترديد شعار "الجزائر فرنسية"، غير أن مجموعة من الشباب الجزائريين أذهلوا الجميع و تحدّوا العدو في عقر داره، برفعهم الراية الوطنية على مرأى قادة فرنسا و العالم، مرددين عبارة "تسقط الجزائر فرنسية.. تحيا الجزائر!". السيد بن صبان حمود ابن مدينة قسنطينة كان واحدا من هؤلاء الفتية، حيث التقت به النصر في ذكرى هذه الحادثة التاريخية، لتنقل شهادته عمّا حصل حينها.
كان استخدام الحركى و القياد و الجنود القدامى من مستعمرات أفريقيا في احتفالية "الباستيل"، جزء من مخطط أطلق عليه اسم "العملية البسيكولجية" التي كلف بها رئيس الجمهورية رينيه كوتي، الكلونيل "غودار" قائد المكتب الخامس بالجيش الفرنسي، و قد كان الهدف من هذه الخطة ظهور فرنسا التي خرجت لتوها من أزمة فرنسية سببها "مستعمرة الجزائر"، أمام العالم، بصورة الامبراطورية القوية و المتآلفة مع الشعوب التي استعمرتها، فجلبت مئات الفتية من مختلف المدن و القرى الجزائرية و أرغمت العديد منهم على لعب دور المُحب لفرنسا "المتحضرة"، لكن بن صبان حمود الذي اختير و عمره 18 سنة للاحتفال، كان قد تشبّع بكره المستعمر الغاشم، بعد أن كبر في حي السويقة العتيق الذي خرج منه مجاهدون و شهداء كان لهم دور كبير في اندلاع الثورة و طرد المحتل.
"كنا ثوريين منذ الصغر، فبمجرد الخروج من مدرسة آراغو، كنا نذهب مباشرة إلى دهاليز السويقة، أين نشاهد هناك العلم الجزائري، فنتشبع بالقيم الثورية و نزيد كرها للعدو الفرنسي"، يقول السيد بن صبان قبل أن يستطرد "تم تجنيدنا لنقل المعلومات بين الأحياء في شكل رسائل مكتوبة أو شفوية بين المجاهدين، حتى أننا كنا نرمي الحصى أرضا إذا شاهدنا غرباء يدخلون الحي من التحذير".
السيد بن صبان لا يزال يتذكر جيدا أشكال الظلم و التعذيب و القتل التي تعرض لها أبناء السويقة، خاصة بعد هجمات الشمال القسنطيني ليلة 20 أوت 1955، و قد بقيت عبارة "اقتلوا العرب.. اقتلوا العرب!" عالقة في ذهنه مثلما قاله لنا، و هي كلها تراكمات جعلته لا يهتم للخطر و الموت المحدقين به، بعد أن شاهد و ذاق "الحقرة" و المآسي و ما سببه المستعمر الغاشم من انتشار للفقر و الأمراض وسط الجزائريين.
يضيف محدثنا أن الهدف من ذهابه إلى فرنسا لم يكن الاحتفال بـ "الجزائر فرنسية" مثلما أراد المستعمر، فقد سبق سفره إجراء اتصالات مع مناضلين جزائريين في فرنسا خططوا لرفع العلم الوطني في تلك الاحتفالية الضخمة، ليكون ذلك دليلا قويا على أن الجزائر لن تكون يوما فرنسية.

جنود فرنسيون ذُهلوا من هول الصدمة
و بمجرد الوصول إلى فرنسا، استطاع الشاب حمود ابن السويقة أن يتسلل إلى خارج المحتشد الذي خصص للجزائريين في "غابة لافيت" بضواحي باريس، و بأحد بناياتها وجد جزائريون زودوه رفقة شباب آخرين بأعلام تم خياطتها مسبقا. عند العودة إلى المحتشد، و لتجنب التفطن إليه، أخفى حمود العلم داخل حفرة تحت حراسة شاب آخر يدعى مصطفى بلباي، قبل أن يجتمع ليلة 14 جويلية مع فتية آخرين لوضع مخطط حول كيفية التحرك أثناء الاحتفالية.
في يوم العرض الاحتفالي، تم نقل الجزائريين منذ الرابعة صباحا في شاحنات، إلى غاية وسط العاصمة باريس، و يقول السيد بن صبان إنه كان يخفي العلم الوطني في صدره أسفل السترة، وسط المئات من الأشخاص الذين بدأوا العرض بالمشي و ركوب الخيل لعدة أمتار، قبل المرور على المنصة الرسمية التي كان جالسا بها الرئيس الفرنسي و الجنرال ديغول و كذا سلطات مدنية و عسكرية قدمت من مختلف دول العالم، وسط حشود من المتفرجين الباريسيين.
و خلال الاستعراض، انتظر الشاب حمود وصوله إلى المنصة الرسمية، ليخرج علم الجزائر المستقلة من صدره، حيث ركض به ملوحا لبضع أمتار و هو يهتف بقوة و ثبات "تسقط الجزائر فرنسية"، و ذلك وسط دهشة الجميع، إلى درجة أن يومية "لوموند" أوردت في تقريرها عن الحادثة، أن الجنود الفرنسيين و من شدة تفاجئهم بما حصل، لم يُحركوا ساكنا، قبل أن يخرج اثنان منهم و يلقيا عليه القبض بسرعة ثم يخرجاه من الحشد، و هو نفسه ما حصل مع ثلاثة شباب آخرين حذوا حذوه، و هنا علّق السيد بن صبان بتأثر و حزم "فعلت ذلك تطبيقا لتعليمات الثورة عن وعي تام و دون خوف".
تعذيب وحشي بسجن أمزيان بعد القبض على الشاب حمود
 الذي لاقت خرجته الشجاعة و غير المتوقعة ترحيبا دوليا و إعجابا كبيرا من طرف المتعاطفين مع القضية الجزائرية، تم نقله في طائرة إلى الجزائر العاصمة، ثم إلى قسنطينة أين تعرض للتعذيب لحوالي 3 أشهر في سجن أمزيان، فقد تم ضربه و شمته و كهربة جسمه، كما أجبره الجنود الفرنسيون على البقاء في البيت المخصص للكلاب، و لم يكن يُقدم له كطعام، سوى كأس فيه القليل من الأرز.
و يضيف السيد بن صبان أنه خرج من السجن عليلا، بعد أنتقم منه الاستعمار على الفعل البطولي الذي قام به، و بعد أن شهد على عمليات تعذيب وحشية تعرض لها معتقلون آخرون، حيث  اقتلعت أسنان العديد منهم و تم حرق البعض و تسمير أجساد البعض الآخر على الأخشاب، في مشاهد تعكس بشاعة الاستعمار الفرنسي.
 ياسمين بوالجدري

الرجوع إلى الأعلى