امتلاك سيارة جديدة و جعلها أولوية من أولويات الحياة المعاصرة التي توحي بالاستقلالية عن الغير ، سيصبح في المنظور القريب حلما بعيد المنال و صعب التحقيق بالنسبة للكثير من الجزائريين ، بحكم التراجع الكبير في فاتورة استيراد السيارات من الخارج من خمسة مليار دولار إلى مليار دولار، و الإرتفاع المتزايد بشكل جنوني لأسعار السيارات الجديدة و القديمة، زيادة على زيادات محتملة لأسعار المحروقات و الزيوت و فاتورة التأمين على السيارات مع مطلع كل عام جديد.
حينها يفكر المرء ألف مرة في إعادة ترتيب أولويات حياته، و يقتنع بأن أمر امتلاك سيارة أو أكثر داخل العائلة الواحدة، أو أن يصبح كل جزائري بسيارة ، أي 40 مليون سيارة، سيكون من الناحية الإقتصادية نزيفا كبيرا لمداخيل العائلة الجزائرية التي بدأت بالتراجع مع الصعوبات المالية والإقتصادية التي تعيشها بلادنا على غرار العديد من بلدان العالم.
هذا الإحتمال الكبير يمسّ بالدرجة الأولى الطبقات الوسطى من صغار الموظفين
و العاملين الذين ترفهوا من الزيادات المعتبرة في الأجور و التي أقرتها الدولة في عدد من القطاعات الحساسة، لرفع القدرة الشرائية لملايين العمال الأجراء الذين و بفضل هذه السياسة في الأجور ، تمكنوا من امتلاك سيارة جديدة كانوا يحلمون بها فقط، و استطاعوا أن يحصلوا على سكنات محترمة في إطار برنامج متعدد التمويل، و أن يعيشوا لحظات استرخاء على شاطئ البحر و تمضية العطلة في بلدان أجنبية.
اليوم هؤلاء و مع الإرتفاع المتسارع لمواد الإستهلاك، خاصة منذ شهر ماي الأخير إلى حد الآن، سيجدون أنفسهم أمام أولوية دفع فواتير الإيجار و الكهرباء و الغاز و الماء و الهاتف و الأنترنيت، و هي الفواتير الأساسية المرشحة للزيادة كل مرة، أي كلّما عجزت المؤسسات المعنية عن التحكم في كلفة توفير الخدمات و تحسينها حسب رغبة زبائنها.
و إذا كان المواطن سيهضم على مضض صعوبة التنازل عن سيارته في المستقبل القريب مقارنة بالأمس القريب أين كانت الدولة توفر العملة الصعبة لاستيراد السيارات من الخارج و توفير العملة الوطنية من البنوك في شكل قروض لشرائها بسهولة، فإنه سيكون مبالغا في مطالبة السلطات العمومية بإعادة تفعيل وسائل النقل العمومي خاصة في المدن الكبيرة، قصد الإستجابة لطلبات المواطنين الذين يتخلون عن النقل الفردي طوعا أو كرها.
ظاهرة جزائري يمتلك سيارة و يركبها لوحده و هو يحرق البنزين المستورد و يجول و يصول دون هدف محدد، لاحظها مكتب دراسات أجنبي متخصص في النقل منذ سنوات في قسنطينة لمّا أراد إعداد مخطط نقل عمومي لعاصمة الشرق الجزائري، و لم يفهم كيف أن مدينة تقع على صخرة بإمكانها استيعاب مئات الآلاف من السيارات و المئات من الحافلات و الشاحنات دفعة واحدة و في أوقات الذروة.
و لم يجدوا حلا آنذاك لهذه السلوكات الغريبة و إن كان البعض يصنفها من ضمن الحريات الفردية التي يجب أن تصان، إلاّ نصح السلطات المعنية بتنظيم حركة المركبات و الأشخاص، باللّجوء و بأقصى سرعة إلى اعتماد وسائل النقل الجماعي الحديثة كالترامواي و الميترو و الحافلات، باعتبارها أقل كلفة للمواطنين
و أكثر أمنا، و هي الوسيلة الملائمة التي بإمكانها فرملة التدفق الغريب لسيارات فردية تجوب الشوارع الرئيسة للمدن الكبيرة و تجعل الحياة الجماعية فيها جحيما لا يطاق.
النصر