ترتكز الأمم والحضارات على العلوم وما يرتبط بإنتاجها من وسائل مادية وبشرية، لتطوير مكانتها، وتعزيز وجودها بين أقرانها، وترقية دعائم اقتصادها وحضارتها. فمن المعروف أن العلوم لا يُكتب لها الانتشار دون أن تحظى باهتمام متلقيها، اهتماما ممن سيستفيدون منها مباشرة، ونقصد بهم عامة الجمهور. لذلك انشغل الكثير من منتجي العلوم والعلماء عبر العالم بنشرها وتبسيطها حتى تصل إليهم وهذا أدى إلى ظهور ما يعرف في الساحة العلمية بنشر الثقافة العلمية أو بالتبسيط العلمي.
يقول غسان مراد بأن “انتقال المعرفة العلمية من المختصين إلى العامة، يجب أن يمر بمرحلة التبسيط العلمي الذي يساهم في نشر العلم ووضعه في صلب الاهتمام العام لجمهور القراء و الذي يمثل آلية ضرورية لإقامة جسر من التواصل بين الباحثين العلميين ولغتهم المتخصصة وبقية المجتمع.” وهو أي التبسيط العلمي يربط النخب العلمية ببعض، كما يربطها بالعامة لتداخل العلوم، مما يصنع لغة مشتركة تعمل على تقريب المجالات البعيدة من بعضها البعض.
يعتبر تبسيط العلوم ونشرها في الجزائر موضوعا من المواضيع المهمة في الساحة العلمية و الثقافية، سواء على المستوى الأعلى في البلاد، أو على مستوى العمل الجمعوي في الأوساط العامة للمواطنين. ذلك أن الدولة أنشأت بعض المؤسسات لهذا الغرض، مثل “المركز الوطني للثقافة العلمية والتقنية للشباب الواقع بمدينة “الشراقة” بالجزائر العاصمة ولكن لا يزال ضئيلا مقارنة بغيرنا من دول العالم. ففي دراسة ميدانية قام بها الباحث عبد الكريم بن أعراب لمعرفة مؤشرات انتشار الثقافة العلمية في الجزائر، خلص إلى أنها رغم كونها من البلدان “التي تضع دوريا ضمن سياستها طموح ترقية الثقافة العلمية” إلاّ أن الواقع لا يزال بعيدا عن الطموحات، رغم المؤشرات الكمية المنجزة في مجال التعليم.
ثم إنّ المحاولات الجادة التي اهتمت بهذا المجال، كانت ولا تزال محاولات فردية يقوم بها علماء أو باحثون مهتمون بالموضوع اهتماما شخصيا، نظرا لاحتكاكهم بتجارب الآخرين ولانشغالهم بنشر المعرفة العلمية على نطاق واسع. ومن بينهم نجد عالم الفلك الجزائري الأستاذ نضال قسوم الذي يعتقد جازما بأن تبسيط العلوم باختصار هو “تعريف الجمهور العام بمفاهيم ومناهج ونتائج العلوم بشكل سهل وصحيح في آن واحد، بحيث يستطيع الكل متابعة تطورات العلوم.” ولهذا نجده يساهم بنشر الكتب و المقالات سواء في الجرائد والمجلات و مشاركته في برامج تلفزيونية وإذاعية بهدف نشر العلوم.
وفي السنوات الأخيرة، أدركت بعض الدوائر الحكومية في الجزائر أهمية نشر العلوم وتأثيرها في تعزيز قيمة العلم لدى المجتمع الجزائري، حيث سطرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مثلا برنامجا ثريا لهذا الميدان، فبرمجت مشروع “قصر العلوم” والذي سيزود حسب المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي بشبكة من المراكز الفرعية على مستوى المدن الكبرى الجزائرية، بهدف تعميم المعرفة وتوسيعها وجعل مختلف التظاهرات العلمية و التكنولوجية، تمس أكبر عدد ممكن من الشرائح الاجتماعية”، وتأكيدا لذلك قامت الوزارة بتظاهرات علمية مختلفة مثل: قافلة الرياضيات ومعارض الفيزياء و الكيماء والأبواب المفتوحة على البيولوجيا وعلم الحياة.
كما أكدت المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، على أن الوزارة تعتزم إعداد مشروع ماستر خاص بتقنيات توصيل العلوم، والذي هو امتداد للصالون الوطني لتعميم العلوم الذي يهتم أساسا بكل من الرياضيات والكيماء والفيزياء وعلم الفلك.
و احتضنت جامعة الوادي يومي 25 و26 فيفري 2018 الطبعة الخامسة لهذا الصالون، بعد كل من وهران، و قسنطينة، و ورقلة، والجزائر العاصمة وقد جاء بشعار ‘العلوم للجميع’. ويهدف هذا الصالون حسب ما جاء في بطاقته التعريفية، إلى “تنشيط العروض والمحاضرات لفائدة الجمهور، وخلق روح الحوار بين المتخصصين في التعميم، والباحثين، والطلبة، والصحفيين والمواطنين. “ويعرف فيه مصطلح “تعميم العلوم” بأنه “شكل من أشكال النشر التربوي، الذي يهدف إلى جعل العلم (وربما حدوده وتساؤلاته) في متناول الجميع. وهو أيضا مجمل النشاطات التي تسمح للجمهور باكتساب الثقافة العلمية والتقنية، والمعارف، والخبرات اللازمة لها.”
والملاحِظ لتجارب نشر الثقافة العلمية في الجزائر، واتسام أغلبها بالفردية، يجد أنها تعاني أيضا نقصا إعلاميا، فلا تجد مجلة أو جريدة علمية، تهتم بالموضوع كما هو منتشر في بعض الدول العربية الأخرى. ويبقى الأمر محصورا بين الجامعات والمدارس فيما يخص تبسيط المواد العلمية للطلاب والتلاميذ. ولتفادي هذا النقص في معدل نشر الثقافة العلمية بالجزائر، لابد من الاهتمام بالإعلام العلمي، فهو يمثل حلقة رئيسية في المنظومة العلمية لأي بلد، وفي غياب إعلام علمي متخصص بالجزائر، كان لا بد أن تشكل مواقع الانترنت، فرصة كبيرة للباحثين العلميين ومراكز البحث العلمي لنشر الثقافة العلمية في المجتمع ودعمها.
وهنا أدرك عدد من الباحثين أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها بديلا فعالا في نشر وتبسيط العلوم، مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى كالمجلات، والجرائد، والقنوات التلفزيونية، والتي تتميز عنها بسهولة التعامل، وسرعة استغلالها وقلة تكلفتها. مما دفع العديد منهم إلى استغلالها كما فعل الدكتور قسوم في قناته على اليوتيوب “تأمل معي” والتي وصل عدد حلقاتها إلى أكثر من 100 حلقة، تناول فيها العديد من المواضيع التي تهم الرأي العام، وتشغل الساحة العلمية العربية والعالمية. كما يسجل نشاط الجمعيات الشبانية مثل “جمعية الشعرى بقسنطينة” التي تهتم بعلم الفلك ونشر الثقافة العلمية.
مما سبق يظهر لنا بأن تبسيط العلوم في الجزائر رغم المحاولات المذكورة،   لا يعبر عن اهتمام شامل بالموضوع. يمكن أن نعزو الأسباب التي تحول دون اهتمام العلماء والباحثين أو وسائل الإعلام في الجزائر بنشر العلوم وتبسيطها للعامة في ما يلي:
• قلة المؤسسات الإعلامية (قنوات أو مجلات أو جرائد) التي تهتم بالتثقيف العلمي وتبسيط العلوم، إن لم نقل عدمها.
• عزوف الكثير من العلماء والباحثين عن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي واعتبارها مضيعة للوقت أو استهلاك للجهود.
• قلة المؤسسات الحكومية التي تسهر على نشر الثقافة العلمية، وانعزال بعضها في برامج محلية لا تمكنها من الوصول إلى شرائح المجتمع الجزائري ككل، وبقاء البعض منها مشاريع مسطرة على الورق.
• قلة المنشورات العلمية الموجهة للعامة، نظرا لغياب اهتمام دور النشر بمثل هذه المواضيع.
• غياب البرامج العلمية الترفيهية من معارض، ومسابقات علمية، و مدن علمية كما هو معمول به في عديد من الدول.
• عزوف المجتمع الجزائري عن القراءة العلمية باللغة العربية خاصة، وانحسارها في طبقة المثقفين أو القراءة باللغة الفرنسية لدى البعض، مما يجعل المغامرة بالكتابة العلمية التبسيطية صعبة المنال. هذا ما يؤدي لا محالة إلى انتشار الأفكار اللاعلمية والشعوذة والخرافات. وللتقليل من حدة تأثير هذه المعيقات، لابد من اهتمام رسمي بالعلوم، ونشرها من خلال تقريب المؤسسات العلمية من المجتمع عبر المعارض، والمدن العلمية، والمسابقات الثقافية، وتنظيم الأيام المفتوحة التي تمكن الجمهور من الاطلاع، بل والتفاعل مع ما هو معروض، وغير ذلك من الأنشطة لتبسيط العلوم وتعميمها. وكذلك ضرورة التفات الباحثين، والعلماء، ومؤسسات النشر، والقنوات الإعلامية، والجرائد الإخبارية، وصرف بعض الجهد والمال لبرامج تشويق الجمهور العام، وحثه على قراءة العلوم والاطلاع عليها، بما يخدمه ويخدم الجيل الصاعد للبلاد، ويسهم في تكوين مجتمع مثقف يقدس العلماء والعلم ويحافظ على مكتسباته.
ونظرا لتداخل الاختصاصات وتطورها المستمر، لابد على كل باحث من امتلاك مهارات التواصل العلمي، والتحكم في تقنيات إيصال المعلومات والمعارف التقنية والعلمية لغير ذوي الاختصاص سواء من العلماء، أو عامة الناس بلغة مفهومة وأسلوب مشوق وأن “تكون التوعية العلمية” جزءا رئيسيا مما يمكن أن يطلق عليه النتاج الاستراتيجي للجامعات والمؤسسات الأكاديمية في أبسط أشكاله.
ثم إنّ الإرادة السياسية الهادفة إلى تكوين مجتمع مهتم بالعلم اليوم، مجتمع عالم في الغد. إرادة لو بعثت لانطلقت بخطة استراتيجية شاركت فيها كل المصالح المعنية، وسعت ابتداء إلى إنشاء مؤسسة أو هيئة تتشارك مع المجلس الأعلى للغة العربية لتقديم ثقافة علمية سليمة وهادفة. ولتكن مؤسسة الجزائر للتقدم العلمي، ويوكل لها كل ما يرتبط بنشر الثقافة العلمية، وتبسيط العلوم، على أن يوزع نشاطها على مختلف جهات الوطن من خلال المعارض والعروض والنقاشات.

الرجوع إلى الأعلى