يعتبر خبراء ومؤرخون أن ملف التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية يظل من بين أعقد الملفات المطروحة بين الجزائر وفرنسا ضمن ملف الذاكرة، لما يترتب عنه من مسؤوليات سياسية وقانونية وتكلفة مادية كبيرة وخبرة علمية، في حال وضع على الطاولة من أجل التسوية، ليس بمقدور المسؤولين الفرنسيين حاليا الالتزام بها.

تحل اليوم الذكرى الثانية والستون لأول تفجير نووي في الصحراء الجزائرية تقوم به السلطات الفرنسية الاستعمارية، حيث استيقظ سكان منطقة رقان بالجنوب الغربي للجزائر صباح يوم 13 فبراير من العام 1960 في الساعة السابعة وأربع دقائق على وقع انفجار ضخم ومريع تحت مسمى "اليربوع الأزرق"، تلته تفجيرات
"اليربوع الأبيض" ثم "اليربوع الأحمر" وأخيرا "اليربوع الأخضر" بمنطقة حمودية بالضبط.
 وعلى الرغم من الخطابات التي ظل الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، يرددها بخصوص التهدئة في مجال الذاكرة بين البلدين، وما قام به من خطوات محتشمة في مجال تسليم رفات وجماجم قادة المقاومة الشعبية، وفتح ملف الأرشيف الوطني للتفاوض، ودعواته المتكررة إلى ضرورة معالجة كل هذه القضايا بهدوء من طرف لجان مختصة بين البلدين، إلا أن موضوع التفجيرات النووية ظل متوقفا ولم يفتح لحد الآن.
 وعن الأسباب الحقيقية التي تقف عائقا في وجه فتح هذا الملف الحساس يقول المؤرخ والخبير في القانون الدستوري وعضو المجلس الدستوري سابقا، عامر رخيلة إن هناك أسبابا عدة تجعل السلطات الفرنسية تتهرب من فتح هذا الملف، أولها أنه في حال طرح هذا الملف فإن ذلك "يتطلب خبرة دولية في مقدمتها خبرة فرنسية وإعادة كشف حقيقة ضخامة التفجيرات وخطورتها بحيث أنها فاقت تفجيرات هيروشيما ونكازاكي، هذا من حيث القوة والدفع".
 والسبب الثاني -يضيف محدثنا أمس- يتمثل في أثر "انعكاسات هذه التجارب النووية على البيئة في العالم وليس على البيئة في الجزائر فقط"، مضيفا أنه كما يعلم الجميع ففي السنة الماضية وصلت سحابة إلى فرنسا تحمل بقايا التفجيرات النووية و تأثيراتها، وقد اكتشف العلماء في فرنسا بأنها من مخلفات التفجيرات النووية التي أجريت في الجنوب الجزائري لكنهم تستّروا عليها.
ثالثا وهذا مهم جدا -يقول رخيلة- إن طرح هذا الملف وفتحه يلزم فرنسا على "الوفاء بالتزاماتها في الكشف عن مخلفات التفجيرات  وإعادة توزيع خارطة الأنفاق التي استحدثتها وتنقيتها، ورفع وإزالة وإتلاف العتاد التي استعمل في التفجيرات والذي هو اليوم مدفون داخل الأرض، وللأسف حتى خارطة كل هذه الأماكن لم تسلم للجزائر".
وعليه يضيف إنه بالنسبة لفرنسا فإن فتح الملف وكشف كل ما سبق ذكره سيفضي إلى "إدانة عالمية" لها، فضلا عن "الكلفة المادية" الكبيرة لتنقية كل هذه الأماكن والخنادق التي حفرتها طيلة سنوات، وأيضا الردم المباشر للنفايات فتطهير كل هذه الأراضي ستكون كلفته المادية كبيرة جدا.
 ومن هذا المنطلق -يضيف ذات المتحدث - فإنه لا ماكرون ولا غيره يملكون الشجاعة لتحمل تبعات فتح هذا الملف، سيما وأن اتفاقيات إيفيان تتضمن بندا يتحدث عما يسمى "التعاون في المجال العلمي"، فكل هذه الخدمات والتطهير تدخل في مجال التعاون العلمي هذا.
 وتابع بأن "فرنسا إذن ملزمة بقوة القانون الدولي وبقوة اتفاقيات إيفيان أن تعيد تطهير هذه الأماكن ويترتب على ذلك كذلك أننا سنجد ضحايا، إذ لا يجب أن ننسى أن آثار هذه التفجيرات كانت على الزرع و الضرع كما يقال، فقد تسببت في الموت البطيء للإنسان هناك وفي تشوهات خلقية للأجنة في بطون أمهاتهم وولدوا بها".
 ولا تزال الانعكاسات المباشرة لهذه التفجيرات حتى اليوم على الأرض والفلاحة وعلى الطبيعة وعلى الكثير من المناطق التي أصبحت جرداء بعدما كانت تزخر بالكثير من أنواع الحيوانات البرية، حيث لم تسمح هذه الآثار للطبيعية بأن تتجدد سواء من حيث الأشجار أو الأعشاب أو طبيعة الأرض في حد ذاتها إلى غير ذلك.
وخلص الأستاذ رخيلة إلى أن هذا الملف "معقّد" وهو أكثر من ذلك يمثل " الجريمة المستمرة" الجريمة التي لم تتوقف عند حد معين بل استمرت في أثارها وانعكاساتها على الإنسان وعلى الطبيعة على الفضاء على الجو على كل مكوّنات الحياة بمختلف أبعادها.
إذن و انطلاقا مما ذكره محدثنا تتبيّن الدوافع الحقيقية التي تمنع المسؤولين الفرنسيين من الاقتراب من هذا الملف الذي هو في الوقع ملف مكلف جدا لفرنسا من النواحي المادية والسياسية والقانونية و التقنية ليس فقط أمام الجزائر ولكن أيضا أمام الرأي العام العالمي، وهذا على الرغم من صدور قرار فرنسي بتعويض ضحايا التجارب النووية في منطقة بولينيزيا لكن ذلك لم يشمل لحد الآن الضحايا الجزائريين.
وقد سبق لوزير المجاهدين السابق الطيب زيتوني أن صرح قبل عام أن فرنسا ترفض تسليم خرائط تحديد مناطق دفن النفايات المشعة ولا تطهيرها ولا حتى القيام بأدنى عمل إنساني لتعويض المتضررين رغم كون تلك التفجيرات أدلة دامغة على جرائم مقترفة مازالت إشعاعاتها تؤثر على الإنسان والبيئة.
وفي أبريل من العام الماضي طرح رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق، السعيد شنقريحة، على نظيره رئيس أركان الجيوش الفرنسية السابق فرانسوا لوكوانتر إشكالية إعادة تأهيل موقعي "رقان" و"إن أنكر" وموافاة الجزائر بالخرائط الطبوغرافية التي تمكنها من تحديد مناطق دفن النفايات الملوثة والمشعة والكيماوية غير المكتشفة لحد اليوم.
وما لم تسلم فرنسا هذه الخرائط فإنه لا يمكن من الناحية التقنية والصحية لأي كان الاقتراب من الأماكن التي أجريت فيها التفجيرات النووية لخطورتها على الإنسان.
 إلياس -ب

الرجوع إلى الأعلى