تعيش جامعات أمريكية مرموقة مثل هارفرد وييل و كولمبيا، منذ أكثر من أسبوع كامل، مخاضا ديمقراطيا حقيقيا نصرة لغزة، وتشهد هذه المؤسسات العريقة حراكا طلابيا يشكل حسب متابعين تحوّلا في الثقافة السياسية في البلاد خصوصا وأن الانتفاضة تأتي كمعارضة للسياسية الأميركية الداعمة لإسرائيل وإقرار حزمة مساعدات جديدة قدرها 26 مليار دولار، فيما يرفع الطلبة شعارات مطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الشراكات والاستثمارات الجامعية مع دولة الاحتلال، وهي مطالب تقابل بالقمع وبتصريحات متطرفة وعدوانية،
ما أدى إلى توسع الحركة لتشمل جامعات أخرى عبر العالم.
طوفان الجامعات الأميركية، أعاد إلى الأذهان أحداثا تاريخية مماثلة ارتبطت بحركات طلابية شهيرة كانت قد قلبت الموازين و أبرزت الثقل الذي تلعبه الجامعات في إعادة تشكيل الوعي السياسي، يأتي ذلك في وقت يوصف الحراك واضطراب الشارع الحالي بأنه الأكبر في أميركا، منذ مظاهرات جورج فلويد، التي فرجها مقتل رجل أسود على يد الشرطة سنة 2020.
هكذا انتفض الوجه الشاب لأمريكا
اشتعلت شرارة حراك الطلاب في أمريكا بتاريخ 18 أفريل، و كانت الاحتجاجات صغيرة قبل ذلك تشرف عليها تحالفات ومجموعات طلابية مستقلة عن بعضها، قبل أن يقرر طلبة بجامعة كولومبيا، الاعتصام         ونصب خيام وسط الحرم مع حمل شعارات من قبيل "فلسطين حرة"، و"وقف إطلاق نار فوري في غزة"، ما استدعى تدخل الشرطة لتأخذ الأمور منحى أعنف وأكثر تمردا بعد اعتقال 108 طلاب بتهمة معاداة السامية.
سرعان ما امتد طوفان المظاهرات و الاعتصامات إلى جامعات عريقة مثل جورج تاون بواشنطن، وكاليفورنيا، ونورث ويسترن في شيكاغو        وييل، و إيفانستون، و جامعات نيويورك، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و جامعة نورث كارولينا، وظهرت شعارات من قبيل         " فضحتم انكشفتم، لن نسكت لن نستكين"، كما احتد الصدام بين الطلبة       والشرطة وتدخل الحرس الوطني الذي مارس قمعا علنيا و نفذ اعتقالات  في أوساط النخبة الجامعية.
صورة لا تزال تشغل وسائل الإعلام العالمية منذ أزيد من أسبوع،  فأمريكا التي تصر على دعم الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة وتبارك الإبادة الجماعية و التجويع، تلقت ضربة في مقتل بعدما انتفض وجهها الشاب ضد سياسياتها وتحولت جامعاتها إلى شوكة في حلق الإدارة         قوبلت بردود عدوانية لمحاولة كسرها، ما فضح هشاشة الخطاب الديمقراطي الأميركي المتهالك و أسقط كل قناعه أمام العالم.
عراب الديمقراطية يختار مطرقة القمع
مشاهد القمع الذي يتعرض له الطلبة و الأساتذة عبر 24 جامعة كبرى ورائدة ببلاد العم سام، تسببت في  تفجير حركة تضامنية و اتساع رقعة الحراك أكثر لتمتد إلى الجامعة الأميركية في مصر و جامعتي السربون و العلوم السياسية في فرنسا و سيدني في أستراليا، وكانت الشرطة الأمريكية قد اعتقلت إلى حد الآن قرابة 300 متظاهر، 93 طالبا من بينهم من جامعة كاليفورنيا الجنوبية.
 ولم تسمح شرطة لوس أنجلوس للطلاب بنصب الخيام في أجزاء معينة من الحرم الجامعي، كما أطلقت تحذيرات للمتظاهرين بالتفرق، فيما أغلقت الحرم الجامعي الرئيس أمام العامة، واتخذت إجراءات أمنية واسعة النطاق في المنطقة المحيطة، ووقع تدافع بين القوات الأمنية ووحدات الخيالة والطلاب، ودعت الشرطة المتظاهرين إلى فض التجمع، فيما واصل الطلاب احتجاجهم بالجلوس في حديقة الجامعة، ثم اعتقلت الشرطة مرة أخرى بعض المتظاهرين.
وتعرضت بروفيسور بكلية الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا للضرب والسحل   والاعتقال بطريقة مهينة، كما اعتقلت بروفيسور بقسم الفلسفة في جامعة كولومبيا، وكانت إدارة الجامعة  قد قررت مع بداية الحركة الطلابية في 18 أفريل، توقيف ابنة النائبة الديمقراطية إلهان عمر، وطالبتين أخريين كما اعتقلت السلطات نحو 100محتج بجامعة كاليفورنيا و العشرات بجامعتي تكساس و أوستن، وتلقى المحتجون تهديدات بمواجهة تهم جنائية بالتعدي على ممتلكات الغير في حال إصرارهم على التظاهر، وهي صور تم تداولها على نقاط واسع عالمي واعتبر معلقون أنها فضحت الوجه الحقيقي لشرطي العالم.
شبح فيتنام  يعود  مجددا والصحف تحذر
وكانت صحيفة نيوورك تايمز، الأميركية العريقة، قد وصفت الحركة الطلابية بأنها "حراك حقيقي"، بالنظر إلى عدد المظاهرات التي بلغت 8آلاف مظاهرة توزعت بشكل ممنهج جغرافيا، فيما استعادت واشنطن بوست، ذكرى الاحتجاجات الطلابية المناهضة لحرب فيتنام عام 1968 ، واعتبرت الصحيفة، بأن التاريخ يعيد نفسه لأن الإدارة الأميركية تواجه مجددا جيلا غاضبا تجاه سياسياتها الخارجية.
 وذهبت إلى إجراء مقارنة بين الأحداث، كما توقفت عند نقطة استخدام الشرطة لفض الاعتصامات و تفريق المظاهرات، كما قالت إن الظروف متشابهة لأن ما حدث قبيل انعقاد المؤتمر الوطني الديمقراطي في تلك السنة يتكرر اليوم مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
وذكرت واشنطن بوست، بالأحداث التي رافقت حرب فيتنام، قبل أكثر من نصف قرن، إذ انفجرت انتفاضة بمختلف الجامعات الأميركية استدعت تدخل الحرس الوطني لولاية أوهايو لفض مسيرة بحرم جامعة كينت الحكومية في الرابع من ماي 1970، وانتهى الأمر بمقتل أربع طلبة مشاركين في مظاهرة رافضة لتجنيد الطلبة للحرب في للحرب في فيتنام وقصف كمبوديا، الأمر الذي أشعل الرأي العام الأميركي ضد الحرب، ودفع لاحقا بالرئيس ريتشارد نيكسون إلى إنهائها.
فزع في أوساط النخب السياسية
و نتانياهو " مرتعب"
يثير طوفان الجامعات الأميركية مخاوف حقيقية في أوساط النخب السياسية في دولة الكيان و في البلاد التي تخلى ممثلون عنها يتقدمهم نواب ومشرعون عن الخطاب المعتدل، لصالح تصريحات عدوانية تعكس بوضوح الوجه المتطرف لأميركيا، إذ وصف رئيس مجلس النواب مايك جونسون، في مؤتمر صحفي، حراك الطلبة بـ "السخيف" و دعا إلى إنهاء ما قال بأنه " مهزلة".
وفي جامعة تكساس بمدينة أوستن، قال شيريدان نولن، المتحدث باسم إدارة السلامة العامة في الولاية في تغريدة على منصة إكس "إن المتظاهرين مكانهم السجن، وإن أي طالب ينضم إلى تلك الاحتجاجات المليئة بالكراهية ومعاداة السامية في أي كلية عامة أو جامعة في الولاية يجب طرده."
أما المصرية نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولومبيا، فعلقت على الوضع قائلة "المخيم يثير مخاوف خطيرة تتعلق بالسلامة، ويعطل الحياة في الحرم الجامعي، ويخلق بيئة متوترة ومعادية في بعض الأحيان للعديد من أفراد مجتمعنا، من الضروري أن نمضي قدما في خطة تفكيكه". لكن لذلك لم يشفع لها، إذ طالب نواب أميركيون بإقالتها.
رئيس وزراء دولة الاحتلال أطلق تصريحات مستهلكة حسب متابعين،         واختبأ مجددا خلف عباءة معاداة السامية ووصف ما يحدث في جامعات أميركا بـ " المرعب" قائلا : " ما يحدث مرعب يجب وقف المظاهرات وإدانتها فورا وبشكل قاطع"، ليرد عليه السيناتور الأميركي الشهير بيرني ساندرز أمس مهاجما:" لا سيد نتانياهو ليست معاداة للسامية أو دعما لحماس، أن نشير إلى أنه في غضون أكثر من 6أشهر، قامت حكومتكم المتطرفة بقتل 34 ألف  فلسطيني، وجرحت أكثر من 78ألفا، 70 بالمائة منهم نساء  وأطفال".
إدانة
وأدانت منظمة العفو الدولية بشدة ما وصفته بـ "التعامل العرقي والقمع" في مواجهة الاحتجاجات الداعمة لحقوق الفلسطينيين في الجامعات الأمريكية، مؤكدة على أن الاحتجاج ضد الوضع في غزة أصبح ذا أهمية بالغة.
وفي بيان صادر مساء الأربعاء، أكدت المنظمة أن الردود العنصرية والقمعية التي تلقتها الاحتجاجات المناوئة للحرب الإسرائيلية في غزة والمؤيدة لحقوق الفلسطينيين عمومًا داخل حرم الجامعات، هي مخالفة صارخة لضرورة تسهيل الاحتجاج وحماية حقوق الطلاب.
وأوضح البيان، أن الجهود المبذولة من إدارات الجامعات لقمع هذه الاحتجاجات، بما في ذلك مشاركة السلطات المحلية والدعوة للاعتقالات، تتعارض مع الحق في التعبير السلمي للطلاب.
وأضاف: "بذلت إدارات الجامعات جهودًا كبيرة لقمع هذه الاحتجاجات، حتى أنها وقفت الطلاب المشاركين في المظاهرات السلمية عن ممارسة حقهم في العمل".

الحركات الطلابية قبضة حديدية
بين السياسيين والجامعات
وقد شكلت الحركات الطلابية منذ الستينيات، جبهة ضغط قوية خلال محطات هامة شهدتها أمريكا والعالم ككل، ومن أبرز الأحداث التي قاد فيها الطلاب حراك وعي لأجل التغيير " حركة الحقوق المدنية من قبل الطلبة الأفارقة "، حيث كانت جامعة كولومبيا سباقة دائما إلى الانتفاضة في أمريكا ففي سنة 1968، قاد الطلاب السود حملة ضد العنصرية، و بدأت الاحتجاجات بسيطة لكنها سرعات ما تحولت إلى أشبه بثورة، إذ أخذ العميد كرهينة وطالب المتظاهرون باستقالة رئيس الجامعة، وبتركيز المنهج التعليمي على تاريخ وثقافة الأميركيين الأفارقة، وإنشاء نظام قضائي يشمل الطلاب بالإضافة إلى إسقاط الإجراءات التأديبية بحق الطلاب المشاركين في الاحتجاج.
كما شارك الطلبة في مظاهرات ضد الحروب والسياسيات كفيتنام إذ اتولى الطلبة على خمسة مبان، وقطعوا خطوط المياه والكهرباء والهاتف.
تعد "اعتصامات غرينسبورو " من بين الأحداث الهامة سنة 1960، وقدوقعت في مدينة غرينسبورو بولاية كارولاينا بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت بمثابة بداية لحركة النضال غير العنفي ضد التمييز العنصري.
ورغم تعرضهم للانتقادات والتهديدات، استمر الطلاب في الجلوس بصمت لمدة ساعات، حتى تجاوبت وسائل الإعلام المحلية والوطنية مع الحدث، حيث انضم الشباب السود والبيض إلى أشكال مختلفة من الاحتجاج السلمي ضد الفصل العنصري، وبسبب هذه الاحتجاجات والضغط العام، اتخذت العديد من المقاهي في غرينسبورو قرارًا بإلغاء سياسات التمييز، وساهمت هذه الأحداث في تعزيز الوعي بقضية حقوق السود.
و كجزء من الحركة الأوسع المناهضة للحرب في الستينيات، قامت المنظمات الطلابية مثل فرع هارفارد لطلاب المجتمع الديمقراطي بمظاهرات مناهضة للحرب في الحرم الجامعي.
و في نوفمبر 1966، تم منع وزير الدفاع روبرت ماكنمارا من مغادرة الحرم الجامعي من قبل مجموعة من حوالي 800 طالب وتم إجباره على النزول من سيارته، وانتهت الواقعة باشتباكات مع الشرطة.
كما وقعت حادثة بجامعة كينت ستيت في أوهايو، في الرابع من ماي عام 1970 خلال فترة توتر كبير في تاريخ الولايات المتحدة، وهي حادثة مشهورة بشكل خاص في تاريخ الاحتجاجات الطلابية في أمريكا، إذ قررت إدارة الجامعة تنظيم تجمع ضد الحرب، لكن الوضع سرعان ما تدهور الوضع  بعدما حاول بعض الطلاب إشعال الحريق في مبنى تدريب ضباط الاحتياط، و بعد وقوع اشتباكات بين الطلاب وقوات الحرس الوطني، أطلقت القوات النار على الطلاب، ما أسفر عن مقتل أربعة طلاب وإصابة آخرين بجروح وكان هذا الحادث مأساويًا وأثار موجة من الغضب في جميع أنحاء البلاد، وزاد من التوترات حول سياسة الحكومة فيما يتعلق بالحرب وحقوق الطلاب.
وعلى مدى ستة أسابيع من ربيع عام 1985، شهدت جامعة كاليفورنيا في بيركلي احتجاجات ضخمة من قبل الآلاف من الطلبة للمطالبة بسحب الاستثمارات من الشركات التي تتعامل مع جنوب أفريقيا، وذلك في إطار الرفض لسياسات الفصل العنصري التي كانت تنتهجها جنوب أفريقيا.
في نهاية المطاف، بعد أشهر من الاحتجاجات، قررت جامعة كاليفورنيا بيركلي سحب 3 مليارات دولار من الاستثمارات المرتبطة بجنوب إفريقيا، وهو قرار أثر بشكل كبير على جنوب أفريقيا وأسهم  في إنهاء حكم الأقلية البيضاء في البلاد في عام 1990.
وفي مارس 2019، نظم طلاب كولومبيا واحدة من أكبر التجمعات في مدينة نيويورك، خلال إضراب وطني حول تغير المناخ وتغيب الطلاب في أكثر من 130 مدينة عن الدروس.
 هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى