أين هي النّخب، ومن هي؟ وما لها وما عليها؟، هل يمكنها الإمساك بزمام الأوضاع وتوجيهها صوب الصواب، حين تستدعي الأوضاع هذا الإمساك وهذا التوجيه؟ أيضا أي دور للنّخب في صنع القرار أو طرح تصورات وأفكار وحلول يمكن أن تكون خارطة طريق في ظروف أو أزمات يمر بها البلد. أم أنّها تكتفي (النُخب) بهالة التسمية والصفة وببعض الامتيازات، كامتياز الواجهة والأضواء والمكانة العلمية والثقافية والسياسية والرُتب. لماذا تفشل النُخب عندنا في القيام بدورها المؤثر في المجتمع والجماهير وفي الحياة السياسية. ما هي الأسباب والسياقات؟
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «النُّخب: غائبة أم مغيبة»، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الكتاب والأكاديميين والمثقفين، الذين تناولوا المسألة من وجهات نظر مختلفة ومتباينة.

بومدين بوزيد/ باحث وأستاذ فلسفة
النّخب الفلسفية و الأدبية غالباً ما تكون حبيسة النصوص و الرؤى الموروثة
بقي الحديث عن النُّخب بالخصوص ما يُسمّى بــ»المثقف النقدي» حبيس الرؤية اليسارية الغرامشية ورؤية الفلاسفة وعُلماء الاجتماع بعد أحداث مايو 1968، على أنّ للمثقفين القدرة السّحرية على التغيير وأنّهم طليعة الأمة وهو تصور يشاركهم فيه من يستشهدون بهذا الحديث الإصلاحي «على رأس كلّ قرن يبعث الله لهذه الأمة من يجدّد لها دينها» أو مستوحيًا ذلك من قوله تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ". وكانت مشاركة النّخب للحركات التحررية وسجنهم واستشهادهم مُغذّيا لفكرة أنّ المثقف هو وقُود الثورات والحركات الجماهيرية وعقلها المُنظِّر، ولكن مع «الثقافة الرقمية» أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تجمع النُّخب بالجماهير ويصبح الجمهور كذلك فاعلا بالعبارة والصّورة، ولم نعد أمام أشكال التأثير التقليدي مُرسِل ومتلقِي سلبي غير فعّال، بل عاد كلّ من يمتلك جهازا ذكيًا هو إعلامي ومُثقف مُشارك برأيه حسب طريقته في رؤيته للسياسة والحياة، كما أنّ النّخب التي لها تأثير هي صاحبة المواقف الإنسانية والقادرة على التأثير في نفسية المتلقي بقدرتها على فهم مشاعر الشعوب واستثمار قوتي «العبارة القصيرة المفيدة» جماليًا وعلميًا، والقوة الثانية «الصورة السينمائية-الفنية»، ومن هنا شهدنا مثلا في مجال «النُّخب الدينية» قدرة «الدُعاة الجدد» في تقديم الدين كسلعة استهلاكية تعتمد استثمار العواطف «الخوف، الرجاء، الحزن، الإحسان....الخ» بل صارت هذه العواطف يتم إنتاجها وعولبتها، ومن هنا تمكنت الجماعات الدينية المسلحة تجييش آلاف الشباب عبر المنصّات الرقمية. أمّا بالنسبة للنّخب الفلسفية والأدبية فغالباً ما تكون حبيسة النصوص والرؤى الموروثة وتعتقد أنّ الواقع يلوث طهارتهم الأكاديمية ولذلك تتسع الهوّة بينهم وبين الجماهير إلاّ ربّما في فترات «الانتفاضات الشعبية» وما شهدته الجزائر من «حَراك شعبي» منذ جمعة 22 فبراير أحدث صدمة في الطبقة السياسية التقليدية وفي وعي المثقف، لأنّ طبيعة الحركة الجماهيرية الجديدة اليوم تتميّز بخصائص تالية: الراديكالية في المطالب والتي هي «عاطفة قوية تتعلق بكرامة شعب أهينت» وثانيا: ما كان نسميه عامّة وغوغاء ليس كذلك فالطبقة الوسطى من موظفين وتُجار وأساتذة هي التي عانت جراح الواقع والكرامة، ثالثا: القدرة على التجنيد الرقمي دون قيادة تقليدية لها صفات القيادات الثورية السابقة، قيادة شبابية عاشت هوّة سحيقة مع الشيوخ في السياسة والمعرفة، ولذلك أتصور أنّ مراجعة المناهج الاجتماعية في تحليل الظاهرة ضروري وأنّ التصورات الأكاديمية الموروثة عائقا معرفيًا في انتقال «النُّخب» بأطيافهم الدينية والسياسية والعلمية نحو فهم «الحركات الجديدة الرقمية» التي نحتاج إلى فهم السيكولوجية الخاصة بها وربط ذلك بطبيعة التطور الاجتماعي الحاصل في مجتمعاتنا العربية .

عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
النُّخب تقوم بدور المثقف الخادم صاحب الدور المُحدّد سلفًا
ربّما كان مفهوم النّخب مُركبًا من حيث معناه وتفريعات مدلولاته، ومتعديًا صفة الأكاديمية التي يُراد لها أن تلتصق به عنوة، وكذا ما يحيط بها من هالة مصلحية كاذبة في حالة الجزائر خاصّة، إلى ما هو أعمق وأعقد بكثير من الصورة التي نحملها عنه. ذلك أنّ مفهوم النخبة ارتبط في الوعي العام بمفهوم «الأكاديمية» التي تتصور الكثير من طبقات المجتمع أنّها تملك مفاتيح الخلاص من كلّ مأزق والفرج لكلّ همّ نظرا لما أوتيت من عِلم ومعرفة وتدبر، وكذلك لما جنته، بسبب حصولها على هذه الرفعة، من مكانة اجتماعية لائقة تؤهلها لتبوّء مناصب مُتقدمة في السُلّم الاجتماعي. ويبدو أنّ هناك خلطا واضحًا بين مفهوم النُّخب الفاعلة ومفهوم المثقفين من جهة، وبين النُّخب المتعلمة والنُّخب المثقفة من جهة. فكلّ مُتعلم ليس حامل شهادة بالضرورة، وكلّ حامل شهادة ليس مُثقفا بالضرورة، وكلّ مثقف ليس من النخبة بالضرورة.
كما أنّه، ونظرا لتشابك الأدوار التي يلعبها هؤلاء جميعًا وتأثير بعضها في بعض، كان ضروريا التفريقُ بين أنواع النُّخب بالنظر إلى طبيعة التأثير والاختصاص والفاعلية. فالنُّخب السياسية أو الاقتصادية ليست هي النُّخب الثقافية بدءا، لكن طبيعة المصلحة ودرجة التأثير يجعلان من هذه النُّخب الظاهرة في شكل مجموعات متنافرة كتلةً واحدة تبدو منسجمة وتخدم هدفًا معينًا لأجَلٍ معين أو لآجال معينة.
وتلعب قوة التأثير المادية أو المعنوية أو المادية والمعنوية معا، دورا فاعلا في فرض تراتبيةٍ تنظم أنواع هذه النُّخب التي تتمأسس مع الوقت في تصورات ناظمة لمآل القول وحركة الفعل، ويكون فيها صاحب المصلحة الأوّل، سواء كان شخصًا ماديًا أو معنويًا، قادرا على صناعة موقف أو لحظة تاريخية أو خريطة طريق مرحلية بمساعدة من يليه في السُلم التراتبي ويعمل جاهدا على تحقيق طموحه في الهدف أو الموقف أو المصلحة، وفي كثير من الأحيان فيهم جميعًا.
وهؤلاء الذين يلونه ليسوا غير المثقفين أصحاب المواهب المجبولين بطابع المادة الرمادية الذين يسعون إلى تحقيق مكانة في السُلم التراتبي، ويتلونون بطريقة براغماتية للحصول عليها نظير تقديم خدمات مُمثلة في الدفاع عن رؤية، أو وفاء لعهد، أو رغبة مدفوعة بموهبة خارقة تحتاجها قمّة السُلم التراتبي للضرورة القصوى في مقابل تحقيق مكانة اجتماعية تحاول أن تنقلهم من منزلة الطبقات الفقيرة والمتوسطة المُنتجة للمادة الرمادية إلى منزلة الطبقة المُؤثرة القريبة من الطبقة الحاكمة سياسيًا أو اقتصاديًا أو معنويًا.
لقد كان دور المثقف، بكلّ أنواعه وتقريبا في كلّ العصور، دورا تابعًا لقناعات فوقية، ساعيًا لتبريرها فلسفيًا وإيديولوجيًا، خادمًا للمصلحة (العُليا) بالنظر إلى المنزلة التي رضي بها، أو أٌجبر عليها لأسباب عديدة، ضمن السُلم التراتبي الّذي صنعته المصلحة العُليا المرجوة من طرف شخص كاريزمي كحالة الدكتاتوريات وتوظيفها لكبار المثقفين الذين يتحولون إلى أبواق دعائية، أو من طرف إيديولوجية توسعية كحالة الأنظمة المهيمنة التي تستأجر كِتابات المفكرين والفلاسفة والأدباء من أجل تقويض فكرة مضادة، أو من طرف هيئة مُؤثرة كحالة المؤسسات العلمية أو الشركات الاقتصادية والمالية الكبرى التي تشتري النُّخب المثقفة لتوظيفهم في قنواتها الدعائية والإشهارية والإعلامية.
وفي كلّ هذه الحالات وغيرها، نجد أنّ النُّخب المثقفة لا تنفك تقوم بدور المثقف الخادم صاحب الدور المُحدّد سلفًا –حتى وإن بدا مُفكرا حرًا- كما تضطلع باستغلاله المؤسسات المادية والمعنوية بناءً على رغباتها الباطنة وعلى توجهاتها المصلحية. ولا يمكن أن تخرج النُّخب المثقفة في جل حالاتها -ما عدا استثناءات نادرة لن ينطبق عليها مفهوم النُّخب المثقفة في هذه الحالة- عن هذه التبعية للأقوى تأثيرا، وتوظيفه مادةً رماديةً في صناعة الوعي الزائف وترسيخه لدى العامة التي تُؤمن بدور المثقفين وتنخدع لقدرتهم على الإقناع.
إنّه الوعي الّذي يتحلى بما تقدمه القناعات الراسخة من آليات إقناع ثقافية تستخدم التاريخ والحاضر والمستقبل من أجل تشكيل تصور إيديولوجيّ ظاهره التمركز الثقافي الواعي بالذات والتاريخ والمصير، وباطنه التخندق وفق ما تقتضيه اللحظة التاريخية ومن يوجهها.
لقد رأينا كيف عَلِق مثقفون جزائريون كِبار في درجات السُلم التراتبي للنُّخب الجزائرية المُعاصرة بصورة نهائية وهم يعطون ظهورهم للحقيقة في لحظات الحسم التاريخي مفضلين الوفاء للمصلحة المبرَّرَة بالطلاء الإيديولوجي على ما يمكن أن يحزّ في ضمير الأجيال القادمة من دهشة وهي تقرأ الفرق الشاسع بين التصور النظري الّذي نحمله عن المثقف وبين ممارساته المصلحية.

سمير بلكفيف/ كاتب وأستاذ جامعي
تحوّلت إلى أداة سياسية مطيعة
لا تدخل النخبة عصرها إلاّ إذا صنعت زمنها الخاص بها، وليس الزمن العام (زمن السياسي)، لكن كيف تصنع زمنًا آخر لتقيم فيه، يكون ذلك وفق ما تشكله من قِوى أخلاقية وقانونية وإنسانية وقيمية وحضارية في مقابل الوضع القائم فعلا، دون ذلك فهي تدخل في الزمن العام للسياسي وللسلطة وللسائد فتمنح له الشرعية أكثر، وتبرر الوضع القائم، وتوّرط نفسها تاريخيًا أيضا، هناك إذن تقاطع حدّي زمني بين البوليتيوالإيتيقي أو بين السياسي والمثقف أو بين السياسة والنخبة والأخلاق بشكل عام، لقد صنع غاليلي زمنه الخاص (تاريخ العِلم) خارج الزمن العام والرسميّ للكنيسة، ودخلت المعتزلة زمنها الخاص (تاريخ العقلانية) في مقابل الزمن الفقهي والديني المتشدّد، ودخل الفيلسوف سارتر ورفاقه زمنا سياسيا آخر، خارج زمن السياسة الفرنسية الاستعمارية، لكن لماذا هذه العلاقة المُتوترة بين النخبة والسلطة؟ هل هي طبيعية أم مفتعلة؟ ولماذا يعيشان زمنين مختلفين في عصر واحد؟ يُحيل مفهوم النخبة فلسفيًا إلى الرّوح الأخلاقي للعصر، لكن ما هو الرّوح الأخلاقي للعصر؟ إنّه جملة المبادئ الأخلاقية والإنسانية والحضارية كالعدالة والحرية والكرامة والحقوق والواجبات التي تُؤمن بها النخبة كغايات، بينما يُؤمن بها السياسي كمجرّد وسائل، لذلك فإنّ خارطة الطريق التي ترسمها النخبة لسياسات مجتمعاتها وبلدانها وأنظمتها تواجه مُعيقات في أن تدخل فعاليتها في حيز الواقع والتاريخ والمُمكن، ودون أن تبقى خارج أبستمولوجيا العصر، أو مجرّد آراء نظرية غير صالحة للتطبيق في عصرها، لأنّ ما تنتجه النخبة يتجه إلى النقد والتحليل والمعارضة أكثر منه إلى القبول والوصف والموالاة، ومن ثمّة يقترب إلى التغيير أكثر منه إلى الثبات، لذلك، فإنّ قوة النخبة تتمثل أساسًا في الاقتراح وبناء التصورات واستشراف أكثر دقة وتنبؤ للمستقبل، وإنتاج الوعي، وازدياد في توجيه الشعب نحو العقلانية والحرية والكرامة، وتهيئته للدفاع عن تلك القيم حاضرا ومستقبلا بالطُرق المشروعة والمُمكنة والضرورية. في المجتمعات المُتقدمة نجد الدوائر الثقافية والنخبة هي التي ترسم السياسات العامة والمستقبلية، في مقابل الفعالية الواقعية التي يضمنها السياسي، هناك إذن شبه تصالح نفعي بين السياسي والثقافي والنخبوي والأخلاقي الّذي يتشكل بإرادات البشر، بحيث لا تشتغل النخبة في أوقات الأزمات فقط، وإنّما هي تلك القِوى الروحية والأخلاقية للعالم خارج الأزمة أيضا، ما دامت تمدّ العالم بجملة المبادئ الإنسانية، في مقابل تراجع القيم الماورائية التي خدمت سلطات فردية مُطلقة (الملك، الخليفة، الإمبراطور، الدكتاتور...الخ).
في المقابل، فإنّ التخلف الحضاري يأتي على الأخضر واليابس، ويفسد أيضا كلّ الدعاوي التي تدعو إلى التغيير، وضدّ كل أشكال استبدال طرائق ومناهج التفكير وكيفية التعاطي مع المشكلات، ليس فقط في الحاضر والراهن والمستقبل، وإنّما ضدّ محاولات فهم الماضي القريب منه والبعيد، وما تعلق منه بكتابة التاريخ وتصحيحه، وتجاوز قداسته، إنّ نخبة لم تستطع أن تواجه الماضي والتاريخ والراهن بشجاعة، كيف لها أن تواجه أسئلة المستقبل بأمل وبمفردها دون حاجة إلى وصاية السياسي عليها وعلى المستقبل أيضا؟ وكيف لها أن تنصف الحاضر والمستقبل إذا لم تنصف الماضي أولا؟ لو نتكلم عما ينبغي أن يكون، نقول أنّ النخبة هي التي تقيم محكمة حضارية لإعادة محاكمة الثقافة والحقيقة والسياسة عبر العصور، إنّها مجلس محاسبة تاريخي ومستقبلي بشكل دوري، غير أنّ كشف العلاقة القائمة بين الحقيقة وسياسية الحقيقة، الحقيقة بمفهومها الثقافي، وسياسة الحقيقة بمفهومها السلطوي، يُبيّن أنّ الجماعة السياسية قد تحولت إلى نخبة باسم السلطة، وأن النخبة قد تحولت إلى ميليشيات معرفية، تقرر الخطأ والصواب، إنّ عبارة «النخبة هي الرّوح الأخلاقي للعصر»، تفيد أنّ المبدأ أقوى من المنفعة في المصلحة العامة، إنّ النخبة أو جملة المبادئ تفتتح العصر بالمرافعة على القيم الإنسانية كالعدالة والحرية والكرامة والحقوق، لكن نتساءل: أين هي هذه النخبة التي ترافع عن أجل كرامة الشعب، وأنّ سلطته أعلى من أي سلطة أخرى؟ هذا السؤال ليس بالمعنى الإنكاري، ولكن بالمعنى الإيجابي، لكنّه يجعلنا نصطدم بمشكلة أخرى: أين كانت النخبة؟ قد لا يصح القول بعدم وجود نخبة في مقابل وجود السلطة، لكن أين هي القِوى الأخلاقية في أشكال الضمير والمبادئ التي تربط جوهر وجود نخبة من النٌّخب؟ كان سيكون الوضع أحسن إذا كان الأمر أيضًا رهين المنازلة التاريخية بين السلطة والنخبة، إنّ علامة هذه النتيجة الكارثية هي أنّ النخبة قد تحوّلت إلى أداة سياسية مطيعة في يد السلطة، في مقابل ذلك تحول الجزء القليل جدا إلى المغضوب عليهم أبديًا، وهذه مشكلة سياسية تنخر جسد السياسة في المجتمعات العربية، حيث مبدأها «إن لم تكن معي فأنت ضدي».
علينا إذن أن نفتتح فلسفة الاختلاف عصرا إنسانيًا وسياسيًا وثقافيًا جديدا، من أجل تجاوز وهمية سلطة الحقيقة وثنائياتها الضدّية الرهيبة وأيديولوجيا الاقصائية، لذلك فإنّ قوة النخبة في استبدالها للتطابق والتشابه بالتنوع والاختلاف المتناغم، وفي اقتراح وتصور معالم ونماذج سياسة أرقى وأعدل، وتقديم مشاريع لمجتمع سياسي عادل قائم على التعدد والاختلاف والتسامح.

عبد الحميد بورايو/ كاتب وناقد ومترجم وباحث في التراث
أسباب كثيرة أدت إلى فشلها في القيام بدورها العضوي
للنُّخب دور أساسيّ في صنع القرار وطرح التصورات والأفكار التي بإمكانها أن تكون خارطة طريق في ظروف وأزمات معيّنة تمر بها المجتمعات. نميّز في هذه الحالة بين طبيعة هذه الظروف والأزمات؛ فهي قد تكون سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة. قد ترتبط هذه الظروف والأزمات جميعا ببعضها البعض، بحيث تكون الوضعية متعدّدة مظاهر التأزّم، مع تغلّب مظهر من هذه المظاهر على غيرها. وهو ما تعيشه مجتمعاتنا العربية، وبخاصة الجزائر في الآونة الحاضرة. فنلاحظ أنّ هناك أولوية للبعد السياسي، باعتبار أنّه يمثل مفتاح تنظيم الشعوب وهيكلتها في العصر الحديث، بالنظر لتعاظم دور الدولة المركزية في مجتمعاتنا وتدخلها في حياتنا اليوميّة من خلال المؤسسات التعليميّة والوسائط الإعلاميّة ومصادر التثقيف وتنظيم الحياة الاجتماعية، مِمَا يجعل الأبعاد الأخرى وكأنّها تابعة للبعد السياسيّ فتأتي تالية له ومرتبطة به أشدّ الارتباط.
تعيش مجتمعاتنا من الناحية السياسية تسلطا لفئة من المجتمع على الشرائح الواسعة، وهو تسلط مبني على خلفيات التخلف والاستمرارية التاريخية لأنظمة الحُكم الاستبدادي في مجتمعاتنا (أنظمة موروثة عن الإقطاع وعن فترات هيمنة الخلافة الإسلامية والاحتلال الاستعماري، وقد تُوِّجت هذه المراحل جميعا بمرحلة الدولة الوطنية الْمُسْتَبِدَّة)، رغم ما تتخذه هذه الفئات من مظاهر ديمقراطيّة مُستمدة من التنظيم الحديث لسلطة الدولة المركزية في الأنظمة الحديثة السائدة في مختلف بقاع العالم. ترتكز هذه السلطة على منظورات تعطي الأولوية في الحُكم للشرعيّات الدينيّة والطائفيّة والإيديولوجيّة باعتبارها وسيلة للتحكم في الرعايا الخاضعين للسلطة. من هنا يكون دور الصدارة في مجتمعاتنا للنُخب السياسيّة النابعة من الشرائح الاجتماعيّة المضطهدة والمحكومة والممثلة لمصالحها، لكي تتصدّى في كلّ مرحلة من المراحل المذكورة للفئة الحاكمة التي لها بدورها نخبتها التي تعتمد عليها في التضليل وفرض الأمر الواقع.
تستند النخبة السياسيّة المستنيرة على تكوين ثقافيّ تتيحه حياة الشرائح التي تنتمي إليها، وعلى وعي بطبيعة العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم وتتمتّع بإرادة مستمدة من المواطنين البسطاء، فيصبح بإمكانها أن توجه المجتمع نحو تحقيق الذات الجمعيّة، والمساهمة في تسيير السلطة لصالح غالبيّة المواطنين، بمختلف الوسائل مثل التنظيمات الحزبية والنقابية والجمعيات المدنية ذات الأهداف الاجتماعية والتعليميّة والتثقيفية. إلى جانبها تظهر نخبة مثقفة تشاركها القناعات السياسية، لكنّها تحوز على قدرات ثقافية، فيصبح بإمكانها أن تترجم الوعي السياسي بواسطة الوسائط الثقافية والفنية.
لكي نفهم طبيعة هذه العلاقة يمكن النظر إلى تاريخ النهضة العربية الإسلامية في مختلف البلاد الإسلاميّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، وكذلك الحركة الوطنية في بعض الدول العربية التي تحرّرت من ربقة الاستعمار في بداية النصف الثاني من القرن العشرين (الدول المغاربيّة مثلا). تمثل هذان الفترتان حالات نموذجيّة للدور العضويّ للمثقف في محاربة وضعية التخلف والتهيئة للانعتاق من هيمنة الفكر الإقطاعي ومن السلطة الاستعماريّة.
لقد مثّلت فترة الدولة الوطنية المستقلّة الحالة المستعصية التي حدث فيها اضطراب وتشوش في الوعي بالنسبة للنخبة السياسيّة والثقافيّة. لقد ساد الاعتقاد الساذج في البداية بأنّ مرحلة البناء الوطني تتجانس فيها المواقف وتكون السلطة معبرة عن طموحات الناس ومختلف الشرائح التي ساهمت في ثورات التحرير، وتبيّن فيما بعد أنّ السلطة السياسيّة الحاكمة، حلت محلّ المستعمر من حيث التسلط وفرض الرأي الواحد، واستيراد الاستراتيجيات السياسية والتعليمية والثقافيّة وتغييب المواطن عن الشأن السياسي والثقافي، همّشت الثقافة وجعلتها تابعة للشأن السياسي من موقفها، واستعملتها لفرض توجهها في بناء الدولة وإدارتها، كما أحكمت قبضتها من منظور أحادي وضيّق في تلبية الاحتياج للترفيه وتربية الذوق الفني ولم تنظر بعين الاعتبار للثقافة الشعبية، فاعتبرتها فولكلورا، وموادّ لا قيمة ثقافيّة لها، مِمَا فوت عليها فرصة تثمينها وتطويرها وتقديمها للأجيال الجديدة التي انقطعت عن تاريخها الثقافي بفعل الوسائط الجديدة المعولمة.
لكلّ هذه الأسباب برزت ظواهر غير سوية بين المثقفين مثل الانتهازية والتشرذم والصراعات الجانبيّة واستعمال الثقافة للتقرب من السلطة السياسية والنظر إلى الثقافة كعلامة امتياز وأداة للظهور وفرض الذات مِمَا أدى إلى الفشل في القيام بالدور العضوي في المجتمع، باستثناء بعض الأفراد من المثقفين الواعين والملتزمين.

محمّد بن زيان/ كاتب وباحث
البقاء في طور أدبيات الوطنية وتعطيل الانتقال إلى تحقيق المواطنة أعاق فعاليتها
قيل الكثير عن النُّخب ودورها، ولكن عند التطرق لذلك في السياق الجزائري لا يمكن الاستيعاب إلاّ بتمثل ما تراكم تاريخيًا وما ترتب عن مسار فُرض بعد استرجاع الاستقلال شعبوية طاردة ومُعطلة للدور الّذي من المفروض أن تتكفل به النُّخب. وربّما من المهم تدبر كلّ ذلك للابتعاد عن الأحكام الجاهزة والتقييمات النمطية المُجترة التي تنطوي على ما يعكس تجذر الشعبوية كنفي للمثقف النقدي والمبدع. ودور النُّخب أساسي لأنّ العفوية والحماس وما يتصل بهما، لا يمكن الرهان عليهما في الذهاب بعيدا وفي تحقيق الانخراط في فاعلية تاريخية.
دور النُّخب محوري، وبسبب إضعاف ذلك الدور، تورطنا في مأزق مستمر وباستمراره يزداد تعقدا ويزداد امتداده المتورم سرطانًا ينخر الكيان. وفي سياقات توالت تمّ تعطيل دور النٌّخب، سواء بالتسييج الدوغمائـي بالإشارة الأركونيةـ أو بالضبط البيروقراطي أو بما ترتب عن هيمنة النمط الريعي من تشكيل لشبكة علاقات زبائنية. كما أنّ بقاءنا في طور أدبيات الوطنية وتعطل انتقالنا إلى تحقيق المواطنة، أعاق فعالية النُّخب كقِوى اقتراح وتأطير وتشكيل للوعي بتجريد المجسد وتجسيد المجرّد.
إنّ منطق الصهر في الجماعة وتبديد الفردية، قوّض دور النُّخب وفرض إيقاع الصوت الواحد، والصوت الواحد تبديد لبلورة البديل ومعادل للصمت وفي وضعية الصمت كما تقول حكمة فلسفية شرقية نكون واحدا ونصبح متعددين عندما نتكلم.
في بلدنا تقريبا في كلّ ولاية جامعة، وفي بعض الولايات أكثر من جامعة، وفي كلّ جامعة مخابر بحث وفي بعضها مراكز بفرق من الباحثين.
السؤال: أين الأثر؟ أين التحوّل في اشتغال الأكاديميين؟ لماذا لا زلنا نترقب ما يصدر عن مراكز ومعاهد البحث والدراسة والاستشراف في باريس أو لندن أو واشنطن أو أبو ظبي أو الدوحة؟ لماذا مازالت حتى المؤسسات الرسمية عندنا تعتمد على ما يقوله ويكتبه بنجامين ستورا أو جيل كيبال أو فرنسوا بورجا أو عزمي بشارة أو صحافي كجان دانيال أو أمير طاهري..؟
الاطلاع على ما يرصده الآخر مهم وضروري، ولكن أين ثمرة ما تمّ تأسيسه عندنا؟ أين مردود الميزانيات المعتبرة التي رصدت للبحث؟. وقبل ذلك ما هو واقع العلوم الإنسانية في البلد؟ علوم نظر إليها بعض من في السلطة باستهانة. النخبوية ليست شهادات ولا حرص على التقديم بتوصيف الأستاذ الدكتور، النخبوية دور والدور يتحدّد حسب حقل الاشتغال.
الأمور ملتبسة ومعقدة، لا يمكن الإجابة عليها بسهولة وبتسرع. هناك بحوث لها أهمية، لكنّها أسيرة أرشيف الجامعة أو رهينة التداول المحصور في نطاق محدود. كما أنّ وسائل الإعلام لم تمد الجسور ولم تؤسس لمنابر حاضنة للنقاش.. وحصرت التعامل مع أسماء محدّدة، يضعف عندها غالبًا الجانب العلمي. هناك بعض المثقفين يؤدون الدور بدون ضجيج، ويواصلون ما كان يقوم به أمثال جغلول وعلولة وبن الزين والطاهر بن عيشة ووطار وغيرهم ممن فعّلوا حيوية الفضاء العمومي الّذي يعتبر محوّر ومحرك الديموقراطية والتمدين كما نوّه هابرماس. لكن الإشكال أنّنا مازلنا في موقع سؤال المرحوم عمار بلحسن: «مثقفون أم أنتلجنسيا؟».

محمّد خطاب/ كاتب وناقد
النخبة تحوّلت إلى مؤسسة منغلقة
النخبة هي تصوّر تراتبي وطبقي في العمق، لأنّه بدءا يخضع لتقسيمات في المجتمع، وهذا سيجعل من الخِطاب نفسه خاضعًا لهيمنة اللّغة وسلطة البلاغة. النخبة والسيئة منها خصوصا تبدأ من هذا التمايز المجتمعي والبلاغي، فتجد نفسها محصورة في سلطة واهمة أنّها ضمن الترتيب الّذي يخول لها السلطة على المعنى والهيمنة على المفهوم، ثمّ يجعلها هذا العنف المتمايز داخل إطار غير صحي للغة، فتختبئ وراء المصطلحات والمفاهيم. هذا الأمر يخلق المسافة بين شكل الخطاب وطبيعة المشكلات التي تظهر في المجتمع الّذي له قوانينه الخاصة المتحكمة فيه.
غربة النخبة فيما تقرأ، والجناية الكبرى في طبيعة تلقيها. يكمن جزء من المشكلة في سيادة ثقافة ذات انسجام سطحي وتوافق تافه. هناك نوع من القراءات هي في ذاتها جميلة ولكن وضعها في غير سياقاتها لا يخدم المجتمع مطلقا، وخذ مثلا لخِطاب الحداثة التي جعل النخبة تتفق على خط واحد داخل نصوص ضاغطة من دون تمحيص واختيار وتمثل. والتشوه يكون مقلوب القراءة الّذي يثمر فهمًا سطحيًا واستعلائيًا للحداثة وللمفاهيم المُتصلة بها.
لقد قيدت المؤسسة هذه النخبة وغذتها بالتطرف الفكري حتى لو كان تحرريًا وحداثيًا، لأنّها نخبة هي نفسها تحولت إلى مؤسسة منغلقة، وخطابها هو دليل تطرفها من جهتين: من جهة افتقاده إلى بلاغة التوصيل داخل مجتمع يغلي بالمتغير، ومن جهة انغلاقه داخل مفاهيم لا تخاطب التجربة. صعوبة تمثل النخبة هو هذا البُعد بينها وبين ما تتمثل من تصورات ومفاهيم، وهي تصورات كلها من النصوص وليس من خالص التجربة. حتى القراءات تكون داخل نصوص غريبة لا علاقة لها بتجربة النخبة المحكومة بظرف وقيم وفلسفة خاصة. أولى للنخبة أن تجعل من ذاتها محل تفكير لأنّها من خالص مجتمع تطبعه حالة خاصة. الاستعارات التي نحيا بها لم تكن كافية بل هي غريبة عن مجال تفكيرنا. كيف يمكن أن أفكر في حراك وأنا أضع صورة سارتر أمامي وهو يتظاهر مع فوكو ضدّ الحكومة الفرنسية؟ وحتى بقية الأيقونات شي غيفارا أو كاسترو، هذه كلها زينة لا فائدة منها أبدا. هي ثقافة نتغذى منها بطريقة خاصة وتتحوّل فينا إلى ميراث للثورة ضدّ القهر والظلم ولكنّها ليست استعارة نحيا بها. وهذه نفس ما يجري مع الفلسفة والمعرفة والنصوص والروايات لا تغذي فينا سوى شغفا أصيلا وحقيقة موجودة.
النخبة بالتصور الّذي أراه هي الندرة التي لا تتكلم بعيدا عن حسها بالواقع وتماسها مع التجربة، أولا تجربتها هي مع العالم ثمّ مع الآخر والمجتمع. إذا لم تملك هذه النخبة سرها مع نفسها لا تتجاوز دائرتها الضيقة. هي تخاطب نفسها ويتردّد خطابها منها إليها ويرتد منكسرا وضعيفا لا يملك قوة التأثير. لننظر في نتاج النخبة داخل مجتمع يتحرك بعيدا عن مفاهيمها المغلقة والمستعارة؟ هو نتاج للجائزة ثمّ للحظوة الخارجية، ولكن قليلا ما يكون النتاج نابعًا من هم حقيقي وأصيل وجوهري. وما الّذي يتبقى من آثار ذلك؟ سوى بقايا ما يحفظه التاريخ من انكسارات وخيبات ومعارك وهمية لم تكن أصلا تخدم النخبة في تجربتها.
لا يمكن لفكر أو خِطاب أن يحيا عميقًا في الوجدان إذا كان صادرا من مجرّد الاستعارة من الآخر، أقصد من تجربة الآخر الحية. ما نفع نقل حياة إلى نفوس ميتة؟ فلا يعرف أسرار قلوبنا من لم تكن في قلبه الأسرار كما يقول جبران خليل جبران. المُؤكد في تجربة النخبة أن تنطلق من أسئلتها الحقيقية وأن يكون خطابها جوهريًا وبسيطا وبعيدا عن المفاهيم المستعارة.

الرجوع إلى الأعلى