يقول حازم القرطاجني «كيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتى تحصيلها  في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار؟». فلكل زمن بلاغته، كما  وصفها بالبحر (السيولة)، وهي حية بحياة الإنسان إنه تجديد دائم للبلاغة، وهذا ما تشهده البلاغة المعاصرة. ومنها بلاغة الشارع. التي تحقق مقولات ما بعد الحداثة، إنها سائلة.
د/ ليلى غضبان- جامعة الجلفة
بلاغة الشارع فككت مركزية الأب والنخبة
بلاغة الشارع فككت مركزية (الأب) مثل: أبو البلاغة، مؤسس البلاغة، سيد البلاغة...، فالكل ينتج ويستهلك البلاغة، كم أنها فككت مركزية اللفظ، فهي تشمل الملفوظ وغير الملفوظ. بلاغة الشارع فككت مركزية الفصحى، و تتبنى الاختلاف اللغوي. وفككت مركزية النخبة واهتمت بالشعبي، تجمع بين المقدس والمدنس. وبتعبير الناقد عبد الله العشي» فما بعد الحداثة مفهوم رجراج ليس له هوية محددة، ويمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة حسب الثقافات والمجتمعات، فقد نعيش ما بعد الحداثة ولكن ليس من الضروري أن تكون مثل أمريكا أو أوروبا. ما بعد الحداثة هي حالة وليست نظاما محدد المعالم، ما يجمع كل الما بعديات إنها لا تكشف عن هويتها، أو لا تريد أن تصنع لها هوية، لأنها أصلا ضد الهوية باعتبارها صفة ثابتة. ما بعد الحداثة صرخة في وجه الأشكال الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عجزت أن ترفع بالإنسان إلى مستواه الإنساني، هي صرخة مجنونة يائسة وليست نظاما أو استراتيجية واضحة». تظهر البلاغة السائلة (تناصا مع سلسلة السيولة لباومان) في مثل:
1 -فنون الشارع
1-1 الغرافيتي:
 يعود إلى الحضارات القديمة (قدماء الإغريق والرومان والمصريين وغيرهم)، ظهر الغرافيتي الحديث في ستينات القرن الماضي في نيويورك بالهام من موسيقى الهيب هوب. وينظر إليه أنه (تخريب) يعاقب عليه القانون، شهدته كل شوراع العالم. الغرافيتي هو احتجاج وأحلام وآمال وصمت وهروب إلى الجدران، في الشارع الجزائري أكثر الكلمات الغرافيتية (الحرقة، الحراقة) « وأصل الكلمة من اللهجة الجزائرية وهي أن المهاجر السري عندما يصل للقارة الأوروبية يقوم بحرق الأوراق الثبوتية من جواز سفر وما شابه ذلك حتى  لا تتمكن سلطات الهجرة من طرده لبلد إقامته فتضطر لإطلاق سراحه»، هي بحث عن الإنسانية المفقودة. كذلك هي استعارة لأسطورة الفينيق، فكثير من الشباب يقومون بفعل الحرق بـ (النار) الحقيقي، فالإنسان هنا يرى نفسه (سلعة فاسدة) وليس إنسانا.
 1-2 المنحوتات:
 تحتل المنحوتات أماكن استراتيجية في الشوارع في مختلف مدن العالم ومنها الجزائر، وتنظر السلطة  للتماثيل أنها معالم تاريخية وأثرية، أما الشارع فمنقسم بين من يراه عادي ومن يرى أن التماثيل لا تمت لنا بصلة مثل: تمثال عين الفوارة ، فهو فرنسي (امرأة عارية في الشارع). من هذه المرأة؟ ولماذا وضعت في الشارع وليس المتحف؟ يقال (مبني للمجهول) أنه تم وضع التمثال لمنع الجزائريين المسلمين من الوضوء لأداء الصلاة في المسجد العتيق المحاذي لهذا المنبع. فرنسا رحلت لماذا لم يرحل التمثال؟ إذا وضع في الأصل لتنفير المسلمين سابقا ألا ينفرهم الآن؟ إنه تورية ثقافية ظاهرها مجرد تمثال، وباطنه نموذج المرأة الجزائرية العارية مثله، وهذا ما نراه اليوم من عري. و الرجل الأخطبوط بولاية سكيكدة وغيره من التماثيل.
  1-3 العمارة:
 تختلف شوارع العالم معماريا فلكل ثقافة عمارتها، يلاحظ فوضى وتشوه في المباني الجزائرية التي تتجاور وتتلاحم لتكون الشارع، شارع فوضوي هو استعارة  للتسرع والخوف والعجز، البناء العشوائي كان نتيجة الهروب من الإرهاب (الموت)، نجد عدم انسجام العمران من حيث: الشكل، اللون، غياب المساحات الخضراء، كلها معادلات موضوعية لغياب الجانب الإنساني ،وتحويل نسبة من البيت إلى كاراجات، مخصصة للتجارة، إنه الاستهلاك الذي طغى على الإنسان، والفردية على الجماعية. تفرز العمارة شيئا تابعا لها ،وهي القمامة التي تصور قذارة الشعب، ومنه فكر قذر، وغياب السلطة (المركز) عن أداء وظائفها (عجز).
 1-4 رقص الشارع:
عرفت شوارع العديد من المدن رقص الشارع، المشترك بين الرجل والمرأة ، فهو حركات منسجمة، و تناسق مع الموسيقى والأغاني، مثل رقص البريك دانس( Break dance )
 1-5 سينما الشارع:
هي مبادرات شبابية لنقل السينما من القاعات المهجورة ،وذات التذاكر المكلفة إلى الشارع. كما حدث في غزة وسوريا وغيرها. فهي تمرد على الصالة، فتحولت الأفلام المعروضة من الأفلام الطويلة إلى القصيرة ، ليتمكن الشخص من مشاهدتها وهو مار في الشارع حيث تكون مدتها بين خمس دقائق وعشرين دقيقة .
 1-6 مسرح الشارع:
 تقدم عروضه في الأماكن العامة والفضاءات المفتوحة، ولا تشترط دفعا، جمهور محدد ومعين، ويمكن أن تقام في مراكز التسوق، ومواقف السيارات، الحدائق العامة، زوايا الشوراع . مثل ما حدث في وهران، حيث قام فريق مسرحية (الحراز) بالتوجه إلى مركز المدينة التاريخي حي سيدي الهواري،  ونجح العرض في استقطاب المارة، مسرح الشارع حضوره محتشم في الجزائر. وهو يعيد ذاكرة الشارع إلى (القوال) أو (الحكواتي)، فالجمهور ينفر من قاعات العرض. وكحل اقترح المسرحيون والأكادميون كسر جدران الغرفة الإيطالية والخروج إلى الشارع .
1-7  أزياء الشارع:
 الموضة مصطلح فرنسي عام لأسلوب رائج في اللباس والأحذية والحقائب والمجوهرات وغيرها، كان أو عرض أزياء في الشارع (Fashion walk) مفتوحا للجميع في القاهرة، حيث أن الفكرة في إقامة الحدث  هي الرجوع للفكرة الأساسية لعروض الأزياء ، وهي مساعدة المصمم في بيع التصميمات الخاصة به وتحقيق انتشار حقيقي . إضافة للماركات التي نلبسها، لكن الغريب أن البعض يجهل أصل هذه الماركات العالمية وما تحمله من بلاغة؛ إذ أنها خارجة على أنساقنا الثقافية، لكنها مفروضة في السوق.
 1-8 أغنية الشارع:
يتابع الجمهور مختلف ما يؤديه نجوم الشارع، تارة يغنون معهم وتارة يصفقون مشاركة لهم، نجوم لا ينتظرون تراخيص ولا صالات ، إنه فن الشارع ، انتقلت الموسيقى لتعانق صخب الشارع بفضل شباب لا يبحثون عن فرصتهم في النجومية أو لإشباع رغبة تلح عليهم ، بل وفاء لهواية تعيش معهم. لتتصاعد التصفيقات من الجمهور ويطالبون بالمزيد إنه هروب من آلام الإنسان وواقعه المعاصر وخيباته إلى كلمات وموسيقى، يذكر البحث أغنية الراي، وهي حركة موسيقية بدأت في المنطقة الواقعة بين الغرب الجزائري والشرق المغربي ( الحدود السائلة) «الراي اليوم ليس كالراي أول نشأته، كان من يغنيه يعرفون بالشيوخ والشيخات ، في أواسط السبعينات ظهر لقب آخر وهو الشاب والشابة كإشارة للتجديد الكبير الذي ظهر على هذا الطابع الموسيقي
2 - أدب الشارع( الأدب السائل):
كان انتهاء عقد الستينات بداية الاهتمام بكل ما هو مهمش، ومنذ 1967م ووصولا للتسعينات تعمقت الفجوة بالانكسار ، انكسار الأحلام، وتراجع القضايا الكبرى، وتهميش دور المثقف والمبدع، وغابت المثل، فقد النموذج مع العشرية السوداء في الجزائر. فكان عقد التسعينات الانطلاقة الحقيقية للاهتمام بالتهميش والمهمشين في الأدب بصفة عامة.
2-1هل تغير مفهوم الأدب؟
باغت «القائمون على جائزة نوبل للعام الثاني على التوالي الأدباء المنتظرين إعلان اسم واحد منهم بفرع الجائزة الأدبي، فحسابات الأدباء لم تنطبق على حسابات أصحاب نوبل، وبحركة أشبه بالالتفافية فوجئ المهتمون بأن جائزة نوبل للآداب ذهبت إلى مغن وكاتب كلمات أغاني هو «بوب ديلان» وقبل ذلك في العام السابق ذهبت إلى صحافية تدعى سفيتلانا ألكسيفيتش، فهل كسرت «نوبل» الحواجز التي تسور مصطلح الأدب بصرامة. الجائزة لم تخرج لغير الأدب، فهي جائزة للأدب، ولكن ليس للأدب المتعود عليه (الرسمي)، بل لأدب الهامش (الأغنية، المقال)، أوليس المقال الصحفي أدبا؟ أو ليست الأغنية أدبا؟  الشعرية الأدبية لم تساير وتواكب ذلك بما يثري مفهومها ويوسع من أفقها، وإن كنا نلمس شيئا من ذلك عبر مزج الأجناس والأنواع الأدبية، وانفتاحها على الفنون والمعارف الأخرى ومنجزات التكنولوجيا الرقمية (...) ونحن الآن (طبقا لما بعد الحداثة) نعيش مفاهيم سائلة لم تتبلور بعد في قراءة نهائية
 2-2 أدب الجدران في تاريخ الأدب العربي:
 نجد كتاب «أدب الغرباء» لأبي الفرج الأصفهاني، هو أول كتاب يجمع الأشعار من الجدران، هو مؤلف صغير نادر في موضوعه، لا توجد له سوى مخطوطة واحدة في العالم، اختص بجمع الأشعار المكتوبة على الجدران وقد حققه ونشره الدكتور صلاح الدين المنجد  كتابة الشعر على الجدران من الظواهر التي سجلت حضورا لافتا في تاريخ الأدب، ولكنها من ناحية أخرى سجلت غيابا ملحوظا في الدراسات النقدية، ربما هذا راجع لشفاهية الشعر العربي في الأصل،
   2-3 غرافيتي الشعراء:
غرافيتي الشعر ظاهرة عالمية، ففي روسيا نجد قصيدة لـ «بوشكين» على جدران محطة الميترو، وفي فرنسا قصائد لرامبو على الجدران، في إيران نجد شعر «حافظ الشيرازي» على الجدران، وفي أمريكا اللاتينية نجد «نيرودا»،  وفي نيويورك نجد شعرا على الجدران لـ «لوركا» الشعار الإسباني. لماذا يلجأ الغرافيتي للشعر؟ لأن الشعر إنساني. وبتعبير الناقد عبد الله العشي الشعرية «هي امتلاء النص الشعري بالحضور الإنساني، أي بمعاناة الإنسان وهو يواجه «البربرية» في كل صورها، والقهر في كل أشكاله، ويتحدى من أجل أن يغير نمط الحياة. فعلى الشاعر أن يقف مع هذا الإنسان وهو يتحدى مملكة الشر والموت « فغرافيتي الشعراء معادل لموت إنسانية الإنسان، وبحثه عنها، فصارت الجدران تكتب شعرا عندما عجز الإنسان، شعر يكتبه الرجل البخاخ بسرعة في الظلام ويهرب خوفا من الاعتقال والموت، نص بلا مؤلف ولا تاريخ؛ شعر سائل.
 2-4 حركة «شعر في الشارع»:
 بدأت هذه الحركة في تركيا كنداء لتخطيط الشوارع بالقصائد بعد الاحتجاجات التي أثارتها قضية «منتزه غيزي» في «إسطنبول» في إطار المظاهرات، فملأت الفضاء العام شعرا، وأصبحت جزءا من الحياة الأدبية التركية وفق ما ذكره الألماني «آخيم فاغنر» في مقاله.
  2-5 قصائد البيع في الشارع:
 بدأت ظاهرة الشعراء الذين يجلسون على قارعة الطريق ويكتبون قصائد فورية بحسب الطلب مقابل مبلغ مادي تبرز في بعض المدن الغربية «ففي شارع مزدحم وسط مدينة نيويورك وفي مشهد غريب، جلس الشاعر «ألان أندريه» صحبة آلته الكاتبة لينظم شعرا فوريا بناء على طلب المارة، نظير مبلغ مادي يتقاضاه مقابل أي قصيدة ينظمها .فالشارع مكان للإبداع ، وفيه إقبال على طلب الشعر، حيث يصف «أندريه» هنا المتلقي بـ «العميل» ولها بعد تجاري (استهلاك) فالشعر سلعة ، ولكن «...في معظم الأحيان يفضلون السماح للقصيدة أن تقرر كيف تريد أن تبدو». إنه الشعر والفرنسية الذي يحافظ على الجانب الإنساني فينا،
2-6 شعر في الشارع للعابرين:
 ظهرت حركة شعر في الشارع في مجموعة من الدول العربية مثل: مصر، تونس، المغرب. فقد شهد الشعر تواجدا بالشارع، وتقوم الفكرة على اقتراح لقاءات في تواريخ متفرقة، بقرى ومدن مختلفة، حيث يلتقي الشعر بالموسيقى، وبفنون أخرى وتعددت لغات الشعر مثلا في المغرب كانت بالعربية والأمازيغية والإنجليزية.
ختاما بلاغتنا و أدبنا اليوم يمتازان بان التغير هو الثابت، و اللايقين هو اليقين ، فهما يعيشان سيولة يحاولان التحسين ، والتقدم الدائم الذي لا حد له، فالأدب والبلاغة في استهلاك مستمر. إنه شعور الإنسان الما بعد حداثي بالضيق: مساكننا ضيقة، مركباتنا ضيقة، أكلنا ضيق (سريع)، ملابسنا ضيقة لدرجة التمزق، أدبنا ضيق فتعددت أشكاله، بلاغتنا ضيقة فتمت الدعوة للبلاغة الرحبة والموسعة، و ظهور بلاغات، إنه عصر ضيق الإنسانية، فكانت سيولة البلاغة والأدب ليسترجع الإنسان توازنه.

الرجوع إلى الأعلى