إصدارات كثيرة واكبت الوباء منذ بدايته، صدرت في مختلف عواصم العالم. لكن في معظمها إصدارات علمية وأكاديمية وبحثية وسوسيولوجية تناولت وقاربت الجائحة والوباء من زوايا ومن منظورات علمية بحثية أكاديمية. وفي المقابل بدأ الحديث عن صدور واِحتمالية صدور روايات في القريب في بعض الدول العربية، تيماتها وموضوعاتها ستكون جائحة كورونا وما أحدثته من مآسي تراجيدية. روايات هاجسها الأكيد مواكبة الظرف الصحي الّذي مر/ويمر به العالم ومُختلف مجتمعاته. لكن هنا تحديدا تطفو على الذهن أسئلة مُؤداها: هل ستنجح هذه الروايات من النواحي الفنية على الأقل. وما الّذي يمكن أن ترصده الرواية العربية لاحقًا. وما هي أبرز ظواهر أو تيمات أو اِنشغالات وأسئلة الكِتابة التي يمكن أن تُجسدها الرواية العربية ما بعد الأزمة الوبائية التي ألمت بالبشرية جمعاء بشكل أربك الناس والدول؟ وهل يمكن الاِستثمار في نوع آخر من الخيال (على شاكلة الخيال العلمي مثلا؟) هو الخيال الوبائي أو خيال الأوبئة وهو خيال ربّما غير مُنتبه له أو غير مستثمر فيه روائياً خاصة في العالم العربي. فهل سنشهد تيمات جديدة تؤسس لأدبٍ جديد. أم كما قالت الناقدة الدكتورة آمنة بلعلى من أنّ تيمة جديدة ليست هي ما يُؤسّس لنوعٍ جديد من الكتابة ما لم يرتبط بنتائج مقدمات كُبرى في تحوّلات الفكر والسياسة والاِقتصاد والعِلم والمعرفة.
حول هذا الشأن «الجائحة وما يشبه مُستقبل الرواية»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الكُتّاب والنُقاد.

إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

- آمنة بلعلى/ ناقدة وباحثة أكاديمية: الوباء لن يُحدث كبير أثر في الكتابة الروائية

الوباء حالة طارئة، ستزول حتى وإن طال أمدها، قد تترك آثارا جسيمة على أسلوب حياة الإنسان، وحين يُنسى الوباء، يتغيّر القِلَّة، ويعود السّواد الأعظم إلى سيرته الأولى.
وفي الأدب يحدث الأمر نفسه، وبعد اِنتهاء الوباء، ولعل قبل ذلك، قد يكتب الروائيون نصوصًا، تسجّل الحدث، مثلما سجّلت الرواية أحداث العشرية السوداء، وستكون روايات رد الفعل التي تُسجل باِنفعالٍ كبير وضعية الحجر الصحّي، يقتفي فيها أصحابها أثار التصريحات والتقارير ونشرات الأخبار، ويوميات الحجر والموتى، وستكون هناك فرصة للمُصابين بإسهال الرواية لكي يُضيفوا عبئًا آخر للمشهد الروائي الجزائري، تمامًا مثلما نُلاحظه من تعليقات وتحليلات مُتواضعة عن كرونا يعتقد أصحابها أنّهم يُحسنون صُنعًا، نرى كثيرا منهم أشبه بالمعزّين الذين يكتشفون فجأةً أنّ الحياة فانية بعد فقد أحدهم، فتتالى على ألسنتهم آيات الوعظ، واِقتناص نتائج المُحلّلين والفلاسفة ليؤثّثوا بها اِنطباعاتهم.
ليس غريبًا أن يعتقد المُلاحظ للمشهد الروائي العربي والجزائري، بأنّ زوال هذا الوباء لن يُحدث كبير أثر في الكتابة الروائية، وذلك راجع لسببين:
الأوّل: متعلّق بهذا النوع من الرّوايات الّذي يمكن إدراجه ضمن خيال الوباء، باِعتباره كان سابقًا على الوباء، فالظاهرة موجودة في الرواية الغربية، منذ القرن الماضي، كروايات: الديكاميرون والعمى، ونهاية العالم، والطاعون، ورواية «عيون الظلام» لدين كونتز التي تنبّأت بهذا الوباء، وغيرها من الروايات التي تحدثت عن المختبرات التي تُنتج الفيروسات، والأوبئة، وعن برامج الأسلحة البيولوجية وغيرها. ولم يكن هذا النوع من الروايات نتيجة رد فعل لوباء ظهر، ولا نبوءة كالتي نجدها في روايات الخيال العلمي، بقدر ما كان تعبيرا عن وعي وجودي وعن رؤية مقدماتها موجودة في نتائج العلوم التي طوّرها الغرب بشكلٍ مذهل، ثمّ أردت عقله أداة، كما أنّها أيضا اِرتبطت بالتحوّلات السياسية الكُبرى في الغرب والتي ساهمت في تغيير متخيلاتهم الاِجتماعية والثقافية، فاستشعر الروائيون خطورة الأوبئة مثلما اِستشعرها المفكرون قبل وقوعها، وخاصة بعد سقوط السرديات الكبرى والمعاني الإنسانية والاِنغماس في المُتع والترف والاِستهلاك، وهو ما وصفه ليبوفتسكي بالفراغ المهول، والفردانية المقيتة في عصر السيولة العمياء.
لم ينتظر روائيو الغرب حدوث الوباء ليكتبوا عنه، ولذلك سوف لن يكون حدثًا روائيًا لمن يحضّرون أنفسهم بجعله تيمة؛ لأنّه سيكون مجرّد تسجيل، أو في أحسن الأحوال إعادة قراءة للوباء.
أمّا السبب الثاني؛ وهو مرتبط عضويًا بالأوّل؛ فلأنّ الرواية، والأدب عمومًا، ليست مرهونة بحدث مُعيّن مهما كانت خطورته، كالوباء؛ لأنّه حالة ستعقبها حالات أخرى، تكون أخطر على الإنسانية. والتحوّلات في الأدب قد لا تكون لها علاقة بالاِنقلابات مهما كان مصدرها إلاّ في بعض جوانبها، كأن تتخذ موضوعًا للرواية اِستعماليًا في الرواية أمّا الرؤية والأسلوب، فتحتاج إلى تحوّلات داخلية في مسار الأدب ذاته، وينبغي أن تعبّر تلك التحولات عن تحولات حقيقية في الذائقة وفي وظيفة الرواية، وإذا كان الروائي الجزائري لا يزال  يبحث عن موقع ما لكي يُؤكد حضوره في المشهد الإبداعي الكوني، ولا يزال القارئ الجزائري غير معني بدور الرواية ولا حتى بقراءتها بنفس القدر الّذي هو عليه في الغرب، فإنّ الرواية ستبقى أسيرة إعادة نسخ أحداث الماضي والآني، وفضاء للتمرّن على الكتابة، يتنافس فيها الروائي حول كم رواية سيكتب في السنة، ويظل يلهث يقتفي أثار الإعلان عن مسابقة، في الوقت الّذي نجد الرواية العالمية ينشغل أصحابها بهذا المجهول الّذي هو مُقبل عليه العالم، بمحاولة سبر أغواره، والتفكّر فيما سيكون عليه مستقبل البشرية.
أعتقد أنّ تيمة جديدة، ليست هي ما يُؤسّس لنوع جديد ما لم يرتبط بنتائج مقدمات كُبرى في تحولات الفكر والسياسة والاِقتصاد والعِلم والمعرفة، وسوف لن يُحدث كورونا أي تأثير في الرواية ما لم يتجاوز أصحابها روايات الرغبات، والاِنتقام والتهويمات، كالكتابة لمجرّد الكتابة، أو لطلب الشهرة. وقبل الولع بكورونا التيمة، ينبغي أن تعيد كتابة الرواية مراجعة نفسها وترميم أعطابها، فتتجاوز لدى كثير من الروائيين، عثراتها اللغوية والأسلوبية وضُعف التمثيل، وسوء التقدير في السّرد، وغياب الرؤية، وغيرها من الأوبئة التي توازي وباء كورونا في الواقع.

- محمّد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي: المأساوي في الأمر أن تتحوّل كتابة الجائحة إلى جائحة كتابة

لا وجود لعلاقة بافلوفية بين الكاتب والجائحة، وإن حدث ذلك فلن تكون كورونا إلاّ موضوعاً لمن لا موضوع له. ولا أرى في مرحلة الوباء الراهنة في يوميات العالم، إلاّ فرصة سانحة للكتابة، تكمن في ما يُوفره الحجر من وقت لخلوة الكاتب بفنه، وتفرغ سانح لم يكن مُتاحاً للمبدعين، في الأيّام السابقة، ما يعني أنّ التأثير الفعلي للجائحة هو تأثير سياقي محيط بعملية الكتابة وأجوائها وطقوسها، وليس داخلياً يفرض عليها تيمته ويعطي للكاتب فكرة للكاتبة، ذلك أنّه من السذاجة الاِعتقاد بأنّ الظرف الوبائي الّذي أقعد الجميع في بيوتهم، سيكون هو نفسه موضوعاً لكتاباتهم، أو أنّه سيفرض عليهم أفكاراً معينة ليكتبوا فيها. وإلاّ فسنجد بكلّ بلاهة صدور روايات معظم الكُتّاب في الموسم القادم حول موضوع واحد وفكرة واحدة. وهذا التفكير الساذج، سيجعل المُتلقي يعتقد بأنّ المبدعين والكُتّاب كانوا عاطلين فكرياً وإبداعياً، لدرجة أنّهم لا يملكون موضوعاً ليكتبوا فيه، إلى أن أنعم الله عليهم بظرف وبائي أقعدهم في منازلهم، وهكذا شرع الجميع في الكتابة عنه كموضوع، واستوحوا منه أفكار كتاباتهم، لأنّهم لم يجدوا موضوعات تستحق الكتابة لولاه..؟؟ والسؤال المطروح: هل فعلاً هذا تفكير مُثقف، حول موضوع الكتابة؟ وهل هذا تفكير مبدع، حين يجعل كلّ ما يقع له موضوعاً ضرورياً لنصوصه؟ أعتقد أنّ هذا التفكير الآلي والسببي، لهذه الفكرة الساذجة حول اِنعكاس تأثير وباء العصر، على الكُتّاب، يجعل هؤلاء، في صورة سلوكية مشابهة لِمَا لنظرية المنعكس الشرطي لبافلوف وواطسن التي تُحدد طبيعة الاِستجابة السلوكية الآلية لردود الأفعال عند تلقي نفس النوع من المثيرات.
ولا أعتقد أبداً بأنّ العلاقة بين المبدع وثيمات كتابته في أي فن، تخضع لشرطية هذه الآلية الاِنعكاسية في سلوك الكتابة، والتعاطي مع مواضيعها، بهذه البلاهة التي تفتقد إلى سمة الإبداع، من حيث المبدأ التفكيري، قبل حتّى أن نعطيها سمة الاِنعكاس الشرطي التي تجعل من كلّ كاتب ملزم بالكتابة عن موضوع معين، فقط إن تلقى مثيراً أو مُنبهاً بوقوع حدث يُثيره لديه.
لذلك ففي اِعتقادي بأنّ تأثير السياق الاِجتماعي والحضاري والمعيشي، لا يكون موضوعاتي التأثير، بل سياقياً بدوره، لأنّ السياق يكون تأثيره من جنس طبيعته، أي له تأثير سياقي أكثر منه موضوعاتي، مع عدم الإنكار التام لفكرة وجود مثل هؤلاء الكُتّاب المناسباتيين في كلّ عصر، والذين لا يجدون موضوعاً للكتابة يشتغلون عليه، إلاّ إن أسقطته عليهم فرصة ما، أو فرضته أوضاع طارئة معينة كالتي نعيشها الآن، ونُشير إلى أنّ هؤلاء -في الغالب- ليسو من جنس المبدعين الحقيقيين ذوي المشاريع. لأنّ غرضهم هو النشر الدوري من أجل النشر ذاته، كسبب ومُبرر لوجودهم على الساحة، دون أن يحملوا هم الكتابة والتجريب فيها من أجل الإضافة إليها بل فقط يشتغلون على الجاهز من الكليشيهات. وهم على وضعهم الراكد إلى أن تنزل عليهم موضوعات من السّماء كموضوع الجائحة، فيهرع جميع أفراد هذه الفئة إلى الكتابة الآلية، عن الموضوع نفسه. ليس لأنّ الظرف منحهم فرصةً للتفكير في إنجاز مشروع إبداعي، بل لأنّه منحهم موضوعًا يفتقدونه للكتابة، وفرصة للنشر كانوا ينتظرونها، لذا سنتوقع -إن حدث هذا الأمر- شيئاً من التماثل والاِستنساخ الساذج للموضوع نفسه بشخصيات مُختلفة فقط. والمأساوي في الأمر، أن تتحوّل كتابة الجائحة إلى جائحة كتابة.
وهنا نكون قد خرجنا من روح العملية الإبداعية، إلى نوع من العبثية في الولع بنشر الجاهز والتغذي على المناسباتي من الأحداث، دون تساؤل عن: ماذا؟ ولماذا؟ وكيف أكتب إبداعاً نوعياً بفكرة وأساليب نوعية، تصنع قارئاً نوعياً، وتُضيف للإبداع بُعداً تجريبياً مُستجداً؟ بدل تدوير الفكر الوبائي المُستجد؟؟

- عابد لزرق/ كاتب وناقد أدبي: الأكيد هناك كتابات أدبية تُدوّن الآن أو ستُكتب قريبًا لتقارب الوباء

العلاقة بين الأدب والأوبئة والكوارث مُترابطة في الأدب العالمي تحديداً، إذ نلمس بوضوح شيئًا من الفقر الإبداعي العربي في هذا المجال بخلاف ما كتبه الغربيون من نصوص وروايات تراكمية قامت بعملية توثيق تاريخي وإنساني لأوبئة وكوارث طبيعية، فعند حلول الكارثة واِنتشار الوباء تقف البشرية كاملة أمام محكّ يُهدّد اِستمرارها ويتحدّى بقاء الإنسان، وهو مأزق وجودي وإنساني قام الأدب بأرشفته كما في رواية «دفتر أحوال عام الطاعون» للكاتب الإنجليزي دانييل ديفو التي صوّرت طاعون لندن العظيم في القرن السابع عشر، أو «صلاة تشرنوبل» التي وثّقت من خلالها الأوكرانية سفيتلانا أليكسييفيتش بأسلوب تقريري مأساة حادث مفاعل تشرنوبل النووي وانعكاساته النفسية والجينية على الأفراد.
وفي المقابل يقوم الأدب أيضا بالتنبّؤ بهذا المأزق كما في رواية «عيون الظلام» للأمريكي دين كونتز التي عادت من جديد للاِنتشار بعدما وصفها القرّاء ومواقع التواصل بكونها أكثر الروايات مقاربةً لحالة وبائية تشبه إلى حدّ ما التأثير الحالي لفيروس كوفيد19، أو يقوم الأديب بتتبّع خطّ آخر يتّخذ من خلاله الوباء مجرّد خلفية تاريخية لتحبيك قصة إنسانية أو نسج تيمة ما كما في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز.
فلسفيًا؛ يشهد هذا الحقل المعرفي اِنتعاشًا كبيراً مع اِنتشار جائحة كورونا بفضل نصوص ومقالات لفلاسفة غربيين حاولوا مقاربة هذه الظاهرة الوبائية فلسفيًا كلٌّ من وجهة نظره ومرجعيته، حتّى أضحى سؤال طبيعة هذه المُقاربات الفلسفية مشروعًا من حيث فاعلية ما تطرحه من أسئلة في تناول الظاهرة وإنزال الفلسفة من خِطاب التنظير واللّغة المثالية إلى الواقع اليوميّ، أو في كونها نموذجًا عن كتابات الاِستعجال.
أدبيًا؛ ورغم ما هو مُتفق عليه حول عدم تأسُّس ما يُعرف عند الغرب بـ»أدب الأوبئة» أو «أدب الكوارث» في المدونة الروائية العربية بوصفه نوعًا أدبيًا مستقلاً، إلاّ في اِستثناءات قليلة ونصوص معدودة يمكن إدراجها ضمن هذه المجالات لأنّ الرواية العربية بقيت بمنأى عن طرح مثل هذه القضايا الطبيعية والبيئية مقابل غلبة التيمات الاِجتماعية والعاطفية والتاريخية والسياسية عليها، لكن المؤكد أنّ ظاهرة وبائية عالمية مثل فيروس كورونا لن تمرّ عليها دون أن تلتفت إليها بشكلٍ ما، فعالم ما بعد كورونا قد لا يكون كما قبلها في اِنعكاساته على الأفراد والنُظُم والعلاقات بين المجتمعات، ومثلما رافق الأدب أحداثا تاريخية سابقة فأكيد هناك كتابات أدبية تُدوّن الآن أو ستُكتب قريبًا لتقارب الوباء وفق منظور ما.
ما أتوقّعه هو أن لا تخرج هذه النصوص عن أحد الخطوط العامّة الآتية: إمّا التوثيق للظاهرة وتناولها في شموليتها داخل المجتمع أو عبر قصة فرعية ما، أو تصوير آثارها النفسية والاِجتماعية والعلاقات الإنسانية فيها كالتباعد الاِجتماعي وغير ذلك، أو اِتّخاذها خلفية لسرد قصّة أو حالة إنسانية ما، أو سيؤدّي عنصر التخييل دوره فتنتعش كتابات الخيال العلمي في هذا الشأن، وهو نمط الكتابة (الخيال العلمي) الّذي اِنفتح عليه جانب من الرواية العربية في السنوات القليلة الأخيرة رغم مجيئه المُتأخّر، وقد ينتعش أدب الديستوبيا (Dystopie) أو أدب نهاية العالم وما بعدها (Apocalyptique et Post-apocalyptique) بدرجة أقل.
لكن ما يبقى مُلحّا طرحه هنا هو السؤال الفنّي والجمالي وطبيعة الخصوصيات الفنيّة لِمَا سيُكتب من نصوص وروايات، أم أنّ أعمالاً مُماثلة ستندرج ضمن نطاق أدب الاِستعجال إن هي كُتبت عن وباء عالمي لم تتّضح بعد آثاره الإنسانية والاِجتماعية والاِقتصادية والسياسية بشكلٍ واضح وصريح؟ فلا ينبغي إثر ذلك المُبالغة في تضخيم اِنعكاسات هذا الوباء الّذي من المُؤكّد أنّه سيؤول بعد فترة زمنية، أو بعد اِكتشاف دواء له، إلى حالة تاريخية عابرة كسابقاتها؛ الثابت فيها هو الإنسان مهما طرأت حوله من متغيّرات وتحوّلات، وما أتوقعه كذلك أن لا تُحدث الكورونا تغييرات جذرية أو زلزالا في عالم الأدب كما قد يُخيّل للبعض سوى مزيد من الكتابات الاِستعجالية التي قد يُنسى أغلبها كما نُسيت كتابات عديدة قبلها قاربت ظواهر بشرية واِجتماعية طارئة دون رؤية فنية وطرح أدبيّ ينزعان عن النص طابع المناسباتية وصبغة الاِستعجال والتقرير.

- عيسى جابلي/كاتب وناقد وإعلامي تونسي: أتطلع لروايات توقفنا على هشاشة العالم

أثرت الأزمة الوبائية في كلّ مناحي الحياة اِجتماعياً وثقافياً واِقتصادياً، وهزت كثيراً من الثوابت التي خلنا أنّ البشرية قد تجاوزتها، وخلخلت ثقتنا في ما بلغه العالم من تطور وقدرة على المقاومة والصمود وإيجاد الحلول لكلّ ما يعترض تقدمه المطّرد من صعوبات وأزمات.
اِكتشفنا لأوّل مرّة خواء العالم ووقفنا على عجز الإنسان وضعفه وعدم حيلته إزاء عدو مجهري مخيف. ليست هذه أوّل مرّة تُواجه فيها البشرية وباء، بل إنّها واجهت سابقاً أوبئة أودت بحياة الملايين. غير أنّ الفرق أنّ الكورونا واجهت العالم وهو في أوج «تطوره» وعنفوان «تقدمه»، فألجأته إلى البيت بلا حيلة محتمياً بجدران صماء منتظراً فرجاً قد يأتي وقد لا يأتي، حتّى بتنا نتحدث عمَّا «بعد الأزمة» وهي لم تنتهِ بعد، بل تواصل حصد آلاف الأرواح في بقاع شتّى من العالم.
وبِمَا أنّ الرواية ستتأثر بشكلٍ أو بآخر بهذه الأزمة، فأتوقع أن تكون الكورونا تيمة من تيمات عشرات الروايات في العالم مستقبلاً، رغم إيماني العميق بأنّ الرواية ليست تسجيلاً لوقائع، ولا توثيقاً ساذجاً لِمَا يطرحه. ولكن الفرق بين روائي وآخر هو في كيفية الطرح وطرائقه ووسائله الفنية.
لستُ مُتحمساً في هذا الـ»ما بعد»، إن كان، لقراءة رواية موضوعها الكورونا، بقدر ما أنا مُتحمس لقراءة روايات تذهب إلى ما هو أعمق لتوقفنا على هشاشة العالم، وتفاهة هذا الوجود، وضُعف الإنسان من ناحية، وقدرته العجيبة على رتق جراحه والاِنبعاث من رماده في كلّ مرّة مُتثاقلا لمواصلة الطريق.
ملايين الأرواح قضت عليها الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، غير أنّ الإنسان، على ضعفه، اِستطاع في كلّ مرّة أن ينهض ويلملم بقاياه ينشد مستقبلاً يريده «أفضل»، لأنّه كائن محكوم بالأمل، ومجبول على التقدم والإيغال في زمن يراه مُوحِشاً ويعيش مرارته، ولكنّه يتحداه ويقاومه ويصارعه، ويخرج منه دومًا منتصراً.
ليست هناك تيمة واحدة يمكن أن نطردها من ساحة الرواية والإبداع عموماً، غير أنّ التميز هو في مدى قدرة الكاتب على المقاربة واِختيار زاوية النظر ليُكسِبَ روايته عُمقاً فلسفياً أحسبه من مقومات الرواية الجيدة القادرة على تحدي الزمن. أمّا الروايات السطحية التي ستكتفي فقط بنقل هول اللحظة وحياة الناس خلال الحجر الصحي والتباعد الجسدي واِنعكاسات الوباء على الاِقتصاد، فلا أعتقد أنّ نقلاً بهذا الشكل يُمكن أن يُثير القارئ الّذي عاش هذه الوقائع وخبرها عن قرب أكثر حتّى من الكاتب. بل إنّ الرواية الأعمق هي تلك التي ستدفعه إلى طرح الأسئلة الجوهرية المُتصلة بوجوده المقيم على حافة اللا جدوى واللا معنى في كثير من الأحيان، هي تلك الرواية التي ستكشف وحشية الإنسان المُعاصر وأنانيته وإيغاله في اللُهاث وراء الربح على حساب الطبيعة وعلى حساب وجوده في حد ذاته..
أمّا التخييل المُتصل بالأوبئة، فيمكن إدراجه ضمن جنس الخيال العلمي. وقد ظلَّ مُحتشماً جداً في الأدب العربيّ المُعاصر، رغم وفرته في العالم في الرواية والسينما خاصة. وهذا الـ»الما بعد» يمكن أن يكون فرصة يتصالح فيها الأدب العربي قصة ورواية مع هذا اللون على صعوبته، لِمَا يقتضيه من خيال واسع وخلاّق وثقافة علمية دقيقة يحتاجها الكاتب ليُؤثث عالمه الروائي دون الوقوع في فخ التسطيح والتزييف.
وبعيداً عن هذه الأزمة، فإنّ الرواية العربية والأدب العربي عموماً، مطالب أكثر من أي وقت مضى بأن يُسافر إلى أعماق العُمق لإنتاج أعمال خالدة قادرة على مُواجهة هذا الزمن المُوحش، وقادرة أيضا على مُنافسة ما تُنتجه البشرية اليوم من أدب مذهل.

- محمّد معتصم/ كاتب وناقد أدبي مغربي: الجائحة ستكون المحرك الأساسيَّ في بناء الموضوعات في الأدب

الأدب فنٌ تعبيريٌّ جميلٌ، يعتمد على الكلمة، في تبليغ رؤيته الفنية والجمالية وفي التعبير عن محيطهِ المحلي والدولي، ويحمل رؤية صاحبه، وبذلك يكون الأدب طريقة وجود الكائن، وصيغة لغوية من خلالها تظهر الحالة الاِجتماعية للأفراد والمجموعات. والأدب جنس يتأثر بمحيطه، ويتفاعل معه، إيجابًا وسلبًا، لذلك فأهم التحولات الاِجتماعية والاِضطرابات السياسية، والصراعات الفكرية والإيديولوجية تنعكس على الأدب، وتخزنها ذاكرة الأدب أكثر مِمَا نجدها في متون مؤلفات التاريخ، والتقارير السياسية والصحافية. وقد دونت كثير من الأعمال الأدبية لحظات عصيبة اِجتاحت البشرية، وقضت على عدد غير يسير من الناس، ربّما يفوق عدد ضحايا الحروب والاِغتيالات، والحوادث الاِجتماعية، ولكن في تلك العصور لم تكن هناك وسائل اِتصال وتواصل متطورة، ولم تكن هناك أدوات مراقبة ومتابعة الوباء والإنسان في آن، متاحة كما هي الحال في الألفية الثالثة، فكان النص الأدبي (الشِّعر والقصة والرواية والمسرحية) يقوم بتلك الوظيفة المعرفية والاِجتماعية، إلاّ أنّ بطء الاِنتشار وصعوبة اِختراق الحدود الجغرافية-السياسية حدَّ من وظيفته. فكان الأديب يقف عند حدود وصف الوباء، اِعتماداً على المشاهدة والمعاينة، ومن ثمّة، اِستنتاج بعض الظواهر المحدودة والمعزولة. كما نجد مثلا في الكُتب التي تحدثت عن الطاعون وعن الحمّى الصفراء أو الهواء الأصفر، والجُذام والجذري،، والداء الخبيث، تتحدث عن هذه الأوبئة كما تتحدث عن أمراض عادية فتصفها باللعنة الإلهية جراء العُنف والتقتيل واِنتشار الحروب وفساد الناس والأفكار والأمكنة.
في العصر الحديث، زمن الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات وتدفق المعلومات في الشبكة الدولية، وإتاحة الولوج إليها عبر منصّات إلكترونية وبوابات إلكترونية كذلك، وبواسطة أدوات ومخترعات تكنولوجية حديثة ومتطورة، واِنتشارها السريع بين الناس، وخاصّة هيمنة الصورة الثابتة أو المتحركة (الفيديو)، أصبح من المُمكن متابعة هذه الأوبئة والتعرف على آثارها العميقة التي تعد الموت فقط نتيجة وحدثا مباشرا لها، والّذي اِتخذته كُتب الأدب والتاريخ موضوعًا أساسيًا لها. في عصرنا الحالي، أصبح من المُمكن الوقوف بالمعاينة وبالصورة المُسجلة وبالكلمة (النّص) تحليل الظاهرة وتشريحها ثمّ تأويلها، وقد فعل ذلك مشيل فوكو في تحليله لمجتمعات «المراقبة» ومجتمعات «العزل» الجسدي، واِنتشار المصحات العقلية والعصبية، واِستفادة السلطة المُتحكمة من قيادة القطيع.الأدب بعد جائحة كورونا، وهي وباءٌ يجتاح العالم اليوم، لم يقف فقط كسابقه في العصور القديمة، على وصف الوباء، ولكن الموضوعة العامة هاته، ما لبثت أن تحوّلت إلى الحديث عن «الحجر الصحي» الّذي اِستتبعه شعور بالخوف، الخوف من المجهول، من كائن لا مرئي، يفتك بأجسام البشر، ويقتلع أرواحهم بلا رحمة، ويُخلف ضحايا من أيتام وأرامل، بل قد يمحي عائلات وأسرا، كما وصف طه حسين الطاعون (الكوليرا) في بداية القرن العشرين، لكن موضوعة الخوف في الأدب ما تلبث أن تحوّلت بفعل الضغط والتراكم والحس المشترك الجمعي، والتداول على شبكة الإنترنيت، السريع، إلى هوس جماعي، وقلق وجودي، ولن يقف التطور عند هذا الحد، لأنّ الوعي بمصاحبات الوباء والحجر الصحي، سيجعل الموضوعة الأساسية في الأدب، والتي ستتجلى بطرائق وصيغ متعدّدة ومتنوعة بحسب وعي وحساسية الأديب والفنان، سيجعل موضوعات الخوف القلق تصبح «توجسًا» ثم «اِرتيابًا».
إنّ الحجر الصحي وفرض العزلة الجسدية (عدم الاِتصال المباشر)، و»تكميم» الأفواه، وحجب أجزاء مهمة من وجه الأفراد، كلّ ذلك سيكون المحرك الأساسيَّ في بناء الموضوعات في الأدب بعد جائحة كورونا والحجر الصحي. ولكي لا تكون الصورة قاتمة، فلابدّ من ظهور موضوعات أخرى أسميها «الموضوعات المقاوِمَة»، أي ستظهر نصوص أدبية يعتمد أصحابها على بعث الأمل، والتشبث بالحياة، والإعلاء من الإنسان، قيمةً وقيمًا ووجودا.
إنّ موضوعات الأدب، كما أتصورها، بعد زمن كورونا والحجر الصحي، إن طال، ستتمثل في الآتي: الموت والخوف والاِرتياب والعزلة والوحدة والأمل والحب والحياة. أي أنّ موضوعات الأدب في المستقبل سيتقاسمها نوعان من الأدب؛ أدب الاِرتياب، والأدب المقاوِم.

الرجوع إلى الأعلى