كيف هي العلاقة بين التّراث والعولمة. وهل اِنفتح التّراث على العولمة، هل اِستفاد منها وهل خدمته، هل قدمت له ما يساهم في اِنتشاره وازدهاره وفي الحفاظ عليه في آن. أم شكلت عقبة أمامه؟ وما هي السلبيات والشوائب التي تحيط به؟ وما هي أكثر الإيجابيات والمكاسب التي يمكن تسجيلها بخصوص علاقة التّراث بالعولمة. ومن جهةٍ أخرى، ما هي التحديات التي يواجهها التّراث الجزائري والعربي عموماً في زمن العولمة وفي ظل فضاءاتها وإرباكاتها؟ وهل نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور بورايو، من أنّ التّراث يُمثلُ جزءًا أساسيّا من "الوعي المعولم"، وأنّ العلاقة بالتّراث أصبحت بدورها تخضع لمنظور العولمة. أم أنّ الأمر كما يراه الدكتور فارح مسرحي، والّذي مؤداه أنّ "هناك إشكالية في التعامل مع التراث في زمن العولمة. وأنّ النظام العالمي الحالي، يقوم على فرض قيم (تراث وثقافة ومصالح وتوجهات) الدول المُهيمنة على باقي دول العالم، ومن هذه الناحية يُشكل هذا النظام خطراً حقيقياً على تراثات المُهيمن عليهم".

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

حول هذا الشأن "التّراث والعولمة" كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الكُتّاب والنقاد والباحثين الأكاديميين، وفيه وجهات نظر مختلفة ومتباينة لكنها تتقاطع في الكثير من النقاط.

محمّد داود ناقد وأكاديمي
علينا مواجهة آليات الهيمنة ببناء الأوطان بشكل سليم
يعتقد الكثير بأنّ التراث يرتبطُ بكلّ ما هو قديم، أي بكلّ ما تركه الأسلاف من ثقافة دينية ولغوية وأدبية وفنية وفكرية وتاريخية وتقاليد وعمران وغيرها من المُمارسات والاِبتكارات في مختلف المجالات، لكن هذا التراث يعيش بيننا في الحاضر وسينتقل إلى الأجيال الأخرى في المستقبل، كما يرتبط بالهوية الوطنية للأُمم والشعوب، مِمَا يجعله يتميز ومن خلال مختلف تجلياته بالحيوية والديناميكية والاِستمرارية والتجاوز والتجدّد.

ولهذه الأسباب لا يمكن النظر للتراث على أنّه يُمثل منقولات قديمة يمكن الاِستغناء عنها، بل بالعكس إنّ التراث هو بمثابة الأساس الّذي تبنى عليه الحضارات والثقافات، وهو مجموع العلامات البارزة التي تجعلها متفردة عن غيرها من الحضارات والثقافات، وبطبيعة الحال يبقى التساؤل مطروحاً حول كيفية التعامل مع التراث في ضوء العولمة، أو ما كان مطروحاً في السابق من إشكاليات حول "الأصالة والمعاصرة"، أي ماذا نأخذ عن الغرب؟ وماذا نترك؟ وماذا نأخذ من تراثنا؟ وماذا نترك؟ وقد أجاب عن هذه الأسئلة الكثير من المفكرين والباحثين، كلٌ في مجال تخصصه ومن وجهة نظره ومن منطلقاته الفكرية. ومن بين هؤلاء نجد من دعا إلى الاِنفتاح الكلي على الآخر الغربي، ومنهم من دعا إلى الاِنغلاق الكلي على الذات ومنهم من حاول التوفيق بين هذا وذاك، لكن كلهم يُجْمِعُون على ضرورة أخذ العلوم والتقنيات من الغرب بالنظر لِمَا حقّقه الغرب من تطوّر في مختلف المجالات، وبالحفاظ على الهوية التي تُميزنا. وقد طُرِحت هذه الأفكار عندما كان "الاِختيار" مُمكنًا، لكن الآن في ظل العولمة الجارفة، هل يمكن الاِختيار بين ما نأخذ وما نترك؟ إنّها الأسئلة الصعبة التي تواجهنا، وهنا لا بدّ أن يتدخل الذكاء الحضاري في التعامل مع السياقات المُختلفة ومع المستجدات، وبخاصة وأنّ العالم أصبح "قرية كونية" الكل مرتبط بالكل عن طريق الأقمار الصناعية والقنوات التلفزية والانترنت والمواقع الاِلكترونية والشبكات الاِجتماعية، حيثُ تصل المعلومة في اللحظة ذاتها، كما يمكن التواصل مع النّاس وفي مختلف الأقطار ومهما كانت المسافة بعيدة، هذا بالإضافة إلى أنّ العولمة هي نظام معقد يمس مختلف الجوانب الثقافية والاِقتصادية والتجارية والإعلامية مِمَا يُؤثر على حياة النّاس ويُغّير من سلوكياتهم اليومية وتصوراتهم، هذا مع العِلم أنّ هذا النوع من العولمة يتميز بهيمنة القِوى العُظمى على الشعوب المُستضعفة، وتسعى الأولى للسيطرة على الثانية كما فعلت من قبل في عهود الاِستعمار الّذي كان يحتل الأراضي، والآن يسعى إلى ذلك بواسطة اِحتلال العقول والذهنيات بغية جعلها خاضعة تقبل بكلّ ما يُقال ويُشاع من أفكار وتتبع كلّ ما يُسوق لها من مُمارسات ومن عادات اِستهلاكية، مِمَا قد يُفقد الخصوصيات الثقافية والهوياتية. وعليه فالاِنغلاق الكلي غير مُستحب كما الاِنفتاح الكلي، وعلينا أن نستفيد من العولمة بأشكال لا تجعلنا نفقد تراثنا المادي واللامادي أو نُعرضه للتمييع، وهذا لا يتأتى إلاّ بالعمل على تطوير ثقافتنا وبناء أوطاننا بشكلٍ سليم ضمن مشاريع اِقتصادية واِجتماعية وثقافية قوية تجعلنا في المكانة اللائقة بحضارتنا وبتاريخنا، وأن نتعامل مع العولمة وما تفرضه من تهجين وتداخل ثقافي بمستوى رفيع من الناحية الفكرية، وهنا يكمن دور المثقفين والمفكرين في معالجة هذه القضايا الشائكة.

عبد الحميد ختالة ناقد وأكاديمي -جامعة عباس لغرور خنشلة
مرتكزٌ ثابت لا تكدّره رياح العولمة

يعرف العالم اليوم تطوراً تقنياً رهيباً وبخاصة في مجال أدوات التواصل، الأمر الّذي أحدث تقارباً منقطع النظير بين الأفراد والشعوب والثقافات، وأمام هذه الظاهرة التواصلية التي عولمت الحياة البشرية، أصبح السؤال الأبرز اِجتماعيًا هو ما مدى قدرة الأفراد على الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية؟ وإلى أي حدّ قد يصل مستوى المُثاقفة بين الشعوب القادرة على عولمة تُراثها ومُؤثثات هويتها؟ وهل يمكن للمجتمعات المغلوبة اِقتصاديًا أن تُواجه المدّ الثقافي العالمي؟ أم أنّ فخامة التراث بإمكانها أن تُغير موازين القِوى من الهيمنة الاِقتصادية إلى زخم التاريخ؟

لا نختلف في أنّ التُراث يُشكل أساساً من أساسات معمارية خطاب الهوية لدى الشعوب، وهو يندرج ضمن أهم مقومات الدرس النقدي الثقافي حينما أعاد الحوار الحضاري للتراث مكانته الأبرز ومركزيته في ورقة الحداثة والتفكير البشري الراهن، فغدا التراث نقطة اِرتكاز ثابتة لدى الإنسان المعاصر كما نيطت به مسؤولية حماية الهوية الفردية والجمعية للأُمم من التميع والتلاشي، إنّ الّذي يعطي للتراث هذه الهيمنة هو ميزة الثبات وعدم الاِنقطاع.
يبدو الربط بين العولمة والهوية منطقياً جداً لدى كلّ المهتمين ضمن مساحات المُثاقفة، فبقدر ما تشتغل العولمة على تحييد الحدود بين الأفراد والشعوب وجمع كلّ المُختلف في بوتقة واحدة، فهي كذلك تحمل اِعترافاً بالخصوصية والفردية، وهل يكون الدمج إلاّ بين ما كنا قد اِعترفنا مسبقاً باِنفصاله؟، لكن السؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو ما هي الميكانيزمات الفاعلة في الهيمنة بين الثقافات والهويات في إطار العولمة؟ وأحسب أنّ الفاعل الأساس هو الشعور بالاِنتماء والاِعتزاز به.
في الحقيقة تطرح فكرة العولمة سؤالاً مخيفاً، يُخلخل الشعور بالأنا، مفاده مَنْ يُعَوْلِم من؟، إذ يصبح كلّ ما يخضع للعولمة ضمن دائرة المفعول الفاقد للإرادة في الفِعل، أمّا قناعتي فهي أنّ الراسخ والثابت والمنتمي هو فقط القابل للعولمة، إذ يمتلك القدرة على مواجهة سؤال الآخر بثبات وهو قابل للاِرتحال إلى بيئات جديدة، وإنّ مرتكزات التراث العربي من عادات وتقاليد وفنون وسرديات راسخة وتمتلك كلّ مؤهلات الاِرتحال والعولمة، بل وإنّ هذه الأخيرة ستُقدم لها خدمة جليلة في وصولها للآخر إذا ما وجدت من يتقن أدوات التعميم والتصدير.
يتوجسُ العالم العربي خيفة من العولمة التي قُدِّمت إعلامياً ونقدياً على أنّها السيلُ الجارف الّذي سيُحَوِّلُ التراث الخاص بالشعوب إلى تراث عالمي موحد، والغريب في هذا التوجس هو أنّه يعطي الاِنطباع بأنّ الفرد العربي غير منتمي، أو أنّه يأوي إلى جرف هارٍ وهذا بالذات ما يجب معالجته، فالعولمة أمر لا بدّ منه والمعوّل عليه في الوقت الراهن هو ضرورة رفع منسوب الوعي بالاِنتماء ووجوب تفعيل مقدّرات التراث العربي في الحياة اليومية للفرد، وهذا بالمناسبة لا يُخالف أطروحة الراهن، فلكلّ أمة من الأُمم ثوابتها القارّة الحاضرة دوماً في حياتها اليوميّة، ولها بالمُقابل متحولاتها التي تتفاعل بها مع راهنها.
إنّ القناعة التي تحدونا هنا هو أنّ للتراث ميزته الحركية التي تجعله يختلف عن التاريخ، هذه الميزة التي تكسبهُ قابلية التعوّلم دون أن يفقد مرجعياته ولا خصوصياته، شريطة أن يتمّ كلّ ذلك عن وعيٍ تام بشروط المثاقفة وأدبيات حوار الشعوب، ومنه أجد أنّ للتراث الجزائري مثلاً فرصة جيدة لفتح حوارات جادة ومُنتجة للمعرفة مع كلّ مُتلقيه في فضاءات العولمة، ولعلّ أبرز تحديات العولمة في علاقتها بالتراث هي مستوى الوعي بالاِنتماء لدى الفرد.

فارح مسرحي أستاذ وباحث أكاديمي -قسم الفلسفة- جامعة باتنة
يمكن الاِستفادة من تقنيات العولمة في إحياء التُّراث ونشره

يُشبِّهُ أحد الأنثربولوجيين المعاصرين التراث في تشكله وتعقده بالطبقات الجيولوجية للأرض، ذلك أنّه –التراث- يتكون من طبقات عديدة متراصة ومتداخلة يُؤثر بعضها على بعض، ففي السياقات الإسلامية مثلاً، يبدو التراث مُشكلاً من ثلاث طبقات كُبرى؛ التراث السابق على الإسلام، التراث الإسلامي، وتراث الحداثة أي منذ المرحلة الاِستعمارية، هذا ما يجعل الحديث عنه مُعقداً جداً، بالنظر لضخامته وشموله لمختلف مناحي الحياة، وبالنظر أيضا لتفاعل عناصره وطبقاته مع التاريخ واللّغة والمجتمع، فبالرغم من الحضور الواسع لكلمة "تراث" في الخطابات العربية الإسلامية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبالرغم من كون التراث أحد القطبين اللذين شَكَلاَ محور كلّ المشاريع الفكرية التي ظهرت في السياقات العربية الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن العشرين (التراث والتجديد، التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الأنا والآخر، الشرق والغرب..) وبالرغم من المواقف الكثيرة المُتبناة تجاهه؛ المعرفية منها (إعادة القراءة، التجديد، التوفيق، التلفيق، القطيعة..) والنفسية (الخوف منه، الخوف عليه، التقديس، الاِزدراء..الخ) إلاّ أنّه يبقى مسألة مستعصية ويُعاد طرحها باِستمرار ومن زوايا مختلفة دون الوصول إلى موقف نهائي بشأنها مِمَا يدل على حضوره المُستمر ووظيفته المهمة سواء تعلق الأمر بالفرد أو المجتمع؛ فهو يحضر بصورة أو بأخرى في طُرُق التفكير كما يحضر في السلوكات المختلفة تجاه الأشياء والأشخاص، يحضر اليوم وسيبقى حاضراً غداً، وهكذا، لتبقى الإشكالية المُتجدّدة هي: كيف ينبغي أن نتعامل مع التراث خاصةً في ظل المعطيات الراهنة وفي زمن العولمة أو النظام العالمي السائد؟

من المُهم أن نُسجل ملاحظات أولية حول التراث نراها ضرورية قبل التفصيل في الإشكالية؛ أوّلها: ضرورة تمييز القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عن التراث، فالتراث في أبسط تعريفاته هو ما يتركه السلف للخلف من أفكار وأشياء (التراث المادي-التراث اللامادي) بمعنى كلّ ما هو تاريخي فقط.
ثانياً: التراث ليس مقتصراً علينا دون غيرنا، فلكلّ أمة تُراثها ويحضر في طُرُق تفكيرها ومواقفها مثلما هو حاضر لدينا والصراعات الموجودة في العالم الآن هي، بصورة ما، صراع تراثات مختلفة من أجل الهيمنة.
ثالثاً: التراث لا يقتصر على الجانب الديني فقط، فهو يشمل كلّ جوانب الحياة (عِلم، فن، اِقتصاد، سياسة، أخلاق، أكل، لباس...) كما أنّه يُشبه جبل الجليد، فما يظهر منه -بالرغم من ضخامته- ليس إلاّ جزءًا صغيرا أو كبيرا من التراث الكلي، لأنّ هناك الكثير من جوانب التراث تبقى مجهولة لدينا منها ما هو منسي، أو مهمش أو مقموع، أو شفوي أو غير مُتداول..إلخ.
رابعًا: أغلب المواقف المُتبناة في السياقات الإسلامية من التراث تتعلق بالتراث الديني والسياسي، وما الخوف من التراث أو الخوف عليه إلاّ اِنعكاس للخوف من الدين أو الخوف عليه، المثال الأبرز على هذا التركيز هو اِنتشار أفكار محمّد أركون والجدل الّذي رافقها، أكثر من اِنتشار أفكار رشدي راشد مع أنّ الاِثنين درسا في فرنسا منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين، واهتما بالتراث العربي الإسلامي، ولأنّ أركون اِهتم بالتراث الديني فقد اِنتشرت أفكاره ورافقتها نقاشات كبيرة، أمّا أعمال رشدي راشد التي تعلقت بالتراث العلمي (تاريخ الرياضيات خاصةً) فلم ينتبه لها إلاّ القليلون، مع أنّه لا يزال حياً يُرزق وقد نشر ما يُقارب 40 كتاباً بين التحقيق والترجمة والتأليف الإبداعي!! والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال للتفصيل فيها أكثر.نعود الآن إلى إشكالية التعامل مع التراث في زمن العولمة أو النظام العالمي الحالي، ومعروف أنّ هذا النظام يقوم على فرض قيم (تراث وثقافة ومصالح وتوجهات) الدول المهيمنة على باقي دول العالم، من هذه الناحية يُشكل هذا النظام خطراً حقيقياً على تراثات المُهيمن عليهم، لأنّ فرض نموذج قيمي مُعين يعني بالتدريج التخلي عن النموذج الخاص وبالتالي مآلها الأخير الزوال طال الزمن أو قصر، ونحن نُلاحظ هذا التخلي التدريجي والقسري عن الكثير من الخصوصيات الثقافية بفعل قوّة اِنتشار النموذج العالمي المفروض بمختلف الأشكال المباشرة وغير المباشرة.من الناحية الثانية، يسمح التطوّر المعرفي المُتاح الاِطلاع عليه بيسر في توظيف الكثير من المناهج والمفاهيم الجديدة لإعادة قراءة التراث وتحيين بعض عناصره وإثرائها بِمَا يُشكل اِستئنافًا للقول وللإبداع وتسجيل الحضور الفعّال في المشهد الثقافي العالمي، كما يمكن الاِستفادة من بعض تجليات هذا النظام الجديد خاصةً التقنية منها في إحياء بعض عناصر التراث والحفاظ عليها وفي نشرها من خلال ما يُتيحهُ هذا النظام من وسائل تكنولوجية ووسائط تواصل من شأنها تسهيل عمليات الاِطلاع على الكثير من النصوص التراثية، وحفظها ونشرها وسهولة تداولها في مختلف أنحاء العالم، وهذا جانب إيجابي فعلاً، إذا أُحسِنَ الاِستثمار فيه، ذلك أنّه وبالرغم من الطابع القسري وإرادة الهيمنة التي يُمارسها الأقوياء على الضُعفاء، تبقى بعض هوامش الأمل في المستقبل، منها أنّ الأعمال أو النصوص أو القيم الجديرة بالاِنتشار تفرض نفسها بالرغم من كلّ العوائق التي تعترضها، وهذا ما يفرض علينا محلياً وجهوياً ضرورة توفير الإرادة الحقيقية لحسن اِستغلال هذه التقانة المتوفرة للحفاظ على خصوصياتنا والعناصر القابلة للاِستمرار من تراثنا.
التحديات كبيرة والعوائق كثيرة، إلاّ أنّ الأمل يبقى موجوداً إذا توفرت إرادة التحدي وإرادة الدفاع عن الخصوصية، بعد التخلص من عُقد الخوف من التراث أو الخوف عليه ومركب النقص تجاه الآخر وذهاني الاِستحالة والسهولة (مالك بن نبي)، وتجاوز القانون الخلدوني؛ "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، ليأتي دور العمل الجاد من أعلى هرم الدولة إلى أسفله، وهو عمل كبير، يحتاج لجهود الجميع أفرادا ومؤسسات، فمستقبل الجميع ينبغي أن يتجند له الجميع ويسهم فيه الجميع.

زبيدة بوغواص باحثة أكاديمية وناقدة
نحتاج إلى أمن ثقافي لمواجهة الاختراق

حقيقة أنّ النظام الدولي قد شهِد منذ نهاية الحرب الباردة مجموعة من التغيرات، وبروز تهديدات ومخاطر بشكلٍ دائم، لاسيما في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات، بفعل موجة العولمة وتداعياتها، التي تُعبّر عن مظهر جديد من التفاعلات الديناميكية داخل منظومة العلاقات الدولية، وتسعى إلى فرض الهيمنة الغربية، بأن يكون للعالم لغة واحدة أو لغات مشتركة، وثقافة واحدة ذات قيم مشتركة، في مقابل السعي لاِختراق خصوصيات الغير وطمس هويته، وهو ما يُعرف بالعولمة الثقافية.

إنّها نوعٌ من العولمة التي تُمثل، إحدى الركائز الرئيسية لظاهرة العولمة بمعناها الشمولي، أي ثقافة بلا حدود، تُفضي إلى محاولة مجتمع ما تعميم نموذجه الثقافي على المجتمعات الأخرى، من خلال التأثير على المفاهيم الحضارية والثقافية، والأنماط السلوكية للأفراد بوسائل سياسية واقتصادية مختلفة وتقنيات مُتعدّدة، وهي بذلك تسعى للقضاء على الخصوصية الثّقافية بشكلٍ عام، لتحقيق هدف نهائي هو السيطرة على الإدراك، أو ما يُعرف بثقافة الاِختراق التي تهدف إلى التطبيع مع الهيمنة وتكريس الاِستتباع الحضاري، وهي ثقافة إعلامية وسمعية وبصرية، تصنع الذوق الاِستهلاكي اِقتصاديًا، والرأي العام سياسيًا، وتُشيِّد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ، وهو ما يتقاطع وتعريف أحد الباحثين بأنّها: "اِغتصابٌ ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، إنّها رديف الاِختراق الّذي يجري بالعنف، فيهدّد سيادة الثقافة في سائر المجتمعات التي تبلغها العولمة".
في المُقابل يزداد البحث في أسئلة تخص التراث باِعتباره يُمثل مظهراً من مظاهر الهوية والخصوصية في زمن العولمة، خاصةً ما يرتبط بالعالم العربي والإسلامي، من حيث واقعه ضمن تداعيات العولمة التي تسعى إلى طمسه بكلّ أشكاله ومضامينه، وفي رأينا إنّ الوعي بهذا التراث قد بدأ، بل إنّه لم يتوقف، وذلك بالعودة إليه واحتضانه، باِعتباره مُرادفًا لكلّ ما اِحتضنته الذّاكرة العربيّة سواء على مستوى اللّغة أو العمارة، أو الموسيقى أو العلاقات الاِجتماعية، أو التّاريخ المروي/المكتوب أو غير ذلك من المكونات، أضحى حضوره مُلحًّا لا للاِحتماء من الآخر، ولكن من أجل تصحيح الوضع الرّاهن، بإحياء القيم الأخلاقية، وتلمس طريق هويتنا الثقافية ووحدتنا الاِجتماعية والسياسية، وإبراز البطولات والقيم المرتبطة بها.
إنّه الوعي والصحوة بالعودة إلى التُراث وقراءته وإعادة قراءته، على أساس أسئلة أخرى، مثل هل العولمة والتراث مُتضادان؟ ألا يمكن أن نقيم مصالحة بينهما؟ كجسر نعبر من خلاله إلى الحداثة والمعاصرة دون أن يكون هناك ضرر على الهوية الثقافية؟ إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي العودة إلى ظهور العولمة وارتباطها بصراع الحضارات الكُبرى (الغربية والصينية والإسلامية)، فالحضارة الإسلامية قد سعت إلى فتح الحدود، والاِندماج مع المجتمعات، وقد وَظفت في ذلك منهج البحث العلمي القائم على عملية الاِنتقاء، حين نقلت علوم وفنون الحضارات الأخرى بِمَا يتلاءم ومنهجها الفكري والحضاري، وهو ما يجب أن يتوفر عليه اليوم بلدنا أو العالم الإسلامي، حين يضع تراثه الثقافي كمنهج يُساير به هذه العولمة، وحتّى لا يصير كما نظر إليه المستشرقون على أنّه كائن مريض على فراش الموت، وجب تحنيطه ووضعه في متحف ليبقى كذاكرة، لا يصلح للاِستعمال والمعاصرة، في مقابل تقديم الآخر الأجنبي على أنّه نموذج متطور وجب الاِحتذاء به.
هنا تكمن الإجابة عن الإشكالية وهي عدم النظر إلى التراث على أنّه شيء من الماضي، قد يُثقل كاهل التطور، واللحاق بالركب الحضاري العالمي المُتسارع، بل وجب القول إنّنا بحاجة إلى أمن ثقافي يحمي هذا التراث من الاِختراق، عن طريق مختلف التشريعات القانونية، ونشر الوعي بوسائل معاصرة مثل خلق هيئات محلية وعربية وحتّى دولية لحمايته، وتحقيق اِستدامته على مدى مرور الأجيال.

عبد الحميد بورايو كاتب وباحث أكاديمي مختصّ في التّراث
معركة وجود ثقافي في هذا الكون الْمُعَوْلَم

يذكر الأنثروبولوجي مارك إبليس في تعريفه للعولمة بأنّها "تسريعٌ لتدفّقات رأس المال والكائنات البشرية والسلع والصور والأفكار". يُشيرُ هذا التعريف المُختصر إلى خمسة موضوعات للعولمة؛ نجدها جميعاً تتعلق بالتّراث، ماعدا "رأس المال" الّذي يقصد به المؤسسة الماليّة؛ فالكائنات البشرية كيانات تراثيّة بحكم كونها حاملة لثقافة ما تنتمي لها، بالنظر لظروف تنشئتها الاِجتماعيّة، وهي في اِنتقالاتها وهجراتها الاِختيارية أو القسريّة تحمل معها تراثها ليحتك بتراث الآخرين. وكذلك الصور والأفكار التي تُعَدُّ في جزء منها مكوّنا تراثيّا، أمّا السلع؛ فأغلبها لها صلة بالتراث، وإذا ما نظرنا إلى اِنتشار مفهوم الصناعات الثقافية الّذي أصبح شائعاً في عصر العولمة، يمكن القول أيضا بأنّ التراث يمكن أن يكون جزءا من السلع معنياً من قِبَلِ صاحب هذا التعريف لأنّه يُمثلُ جوهر الثّقافة. بناءً على ذلك يمكن القول بأنّ التراث يُمثل جزءا أساسيّا من "الوعي المعولَم"؛ أي أنّ العلاقة بالتراث أصبحت بدورها تخضع لمنظور العولمة، ولم تعدّ مسألة خاصة بكلّ أمّة وبكلّ تراث على حِدة. الدليلُ على ذلك أنّ نشاطات منظمة دوليّة مثل اليونسكو أدرجت في برامجها مسألة العناية بالتراث وخصصت له اِتفاقيّات وصكوك؛ من أهمها اِتفاقيّة صون التراث التي تمَّ تحريرها في اِجتماعها بباريس سنة 2003.

وأصبحت مسألة العناية بالتراث وحفظه وتنميته وإدراجه في خُطط التنمية خاضعاً لتوجيه صادر عن منظمة دوليّة، وليس أمراً خاصاً بكلّ مجتمع أو بكلّ دولة. لقد أصبحت مظاهر التراث الخاصة بكلّ مجتمع خاضعة للتقييم والتصنيف من طرف خُبراء دوليين، يُسَمُّونَ خبراء اليونسكو.
أمّا بخصوص اِنفتاح التراث على العولمة؛ تجدر الإشارة هنا إلى مدى قابليّة كلّ تراث وجاهزيّته للتعامل مع تيّار العولمة، وفرض نفسه على الساحة الدوليّة عبر قنوات التواصل المعولمة. إنّ "الوعي المعولم" الّذي أشرنا إليه قبل قليل أنتج علاقات بينيّة (ما بين الشعوب) قسريّة إذ أصبح هناك وعي بالكون مفروض من قِبَلِ القِوى الإمبرياليّة العالميّة المُتمثلة خاصةً في أمريكا وأوروبا الغربيّة التي تمتلك الوسائل والإمكانيات لنشر ثقافتها ورؤيتها للإنسان وقضاياه الراهنة عبر العالم بالرغم من إرادة الشعوب، مِمّا فسح المجال أمام نوع من الهيمنة التي بسطت نفوذها في أرجاء العالم رغم ما تلقاه أحياناً من بعض ردود الفِعل الْمُقَاوِمَة. نتجَ عن ذلك أيضا نوع من التنميط ومسعى لتوحيد أشكال التعبير، أصبح يُهدّد ما يعرفه التراث الثقافي عند مختلف الشعوب من ثراء وتنوّع.
رغم ما بيناه في إجابتنا السابقة من سلبيات وعوائق شابت عملية "الوعي المعولم" بالتراث، يجدر القول أيضا أنّ هناك نقاطا إيجابية يمكن تسجيلها بخصوص علاقة التراث بالعولمة وما كسبه منها. فإلى جانب ذلك تُمثّل العولمة تنوّعا خارقا للعادة للأشكال الثقافية، التي نتجت عن حركية الهجرات وتكثيف الاِنتقالات المهنيّة والسياحيّة. ما سمح باِرتسام جديد لمجتمعات جديدة تمتزج فيها الحدود بين الأصيل والتقليديّ في كلّ تراث، بحيث يستقبل هذا الأخير عناصر ثقافيّة آتية من حضارات بعيدة، لكنّها تنتقل بسرعة بين أطراف الكرة الأرضيّة.
وفّرت النهضة التكنولوجية التي تُعدّ من أهمّ سمات عصر العولمة، والمُتعلقة بالوسائط الناقلة للتراث وسائل تسجيل التراث وتداوله بين النّاس وحفظه وصيانته عن طريق الأرشفة والتصنيف (الفيديو، الشريط المضغوط، الخ..). فالوسائل المرقمنة من أجهزة تصوير وتسجيل صوتي أصبحت ذات فعالية كبيرة في التعامل مع موادّ التراث.في الأخير يمكن القول أنّ ما يُواجه التراث الجزائري خاصةً والتراث العربي عموماً هو خوض معركة الوجود الثقافي في هذا الكون الْمُعَوْلَم، عن طريق العناية بمواد التراث وأرشفتها وحفظها وصيانتها وإيصالها للآخرين في مختلف بقاع العالم عن طريق الوسائل التكنولوجية الحديثة، وكذلك المساهمة بفعاليّة في النشاطات الدولية لليونسكو، والحرص على تنفيذ التوصيات الدولية المتعلقة بصيانة التراث وتشجيع حملته ورعايته ونقله إلى الأجيال الجديدة وإدراجه في خُطط التنمية.

عبد القادر فيدوح ناقد وباحث أكاديمي
العولمة أخضعت التراث إلى المسلمات الواردة من تعدّد الروافد

تُعد العلاقة بين التراث والعولمة قلقة، ومتموِّجة، بخاصة مع  فقدان الهوية اليقينية، أو التقليدية مكانتها المألوفة، وفى ظل أنساق البراديغم، والبُعد الثقافي للعولمة، وهو ما جعل الوعي التواصلي -الّذي من شأنه أن يُحقق الإجماع، والتفاهم، والحوار- ينحسرُ في كلّ ما هو سريالي صوري، ينقصه النظام، ومكبَّل بمصادرة الموقف، وضُعف الصريمة، كما أخضع نسق ثقافة العولمة الوعيَ التراثي إلى المُسلمات الواردة من تعدّد الروافد، في شكل ثقافة العولمة المُعلبة مع المسميات الفكرية، والسلوكيات المُحتذَى بها؛ الأمر الّذي أفقد المعنى الذاتي هويته، وتكاسل القصد، وتخاذل المراد، وخنع العزم، وتلاشت فيه صور الدفاع عن التفكير العقلاني، وتضعضعت الرؤية في منحاها الأصيل، ومرجعيتها التراثية. وإذا كان هناك من إرباك -بهذا المستوى- في توظيف الإرث الثقافي الرصين، بوصفه ظاهرة تواصلية مع تاريخنا -بالمواضعة- وبقوالب تقعيدية تتفردُ بها وتُميزها، فإنّ ذلك يرجع إلى عدم اِستقرار الذات في كيفية التعامل مع ثقافة العولمة، التي تركز على أن يكون المجتمع مُتفاعلاً مع ما يولِّد من سياقات تابعة للمتبوع؛ أي من خلال إلحاق الثقافة الوطنية بالثقافة الوافدة، وجعلها تابعة بمفهوم سبيفاك  (Spivak, Gayatri)؛ من منظور أنّها تُحاكي الجيل الجديد، الّذي يتعامل مع لغته؛ بناءً على التصورات التي يكونها المحيط، وثقافة السائد.

أمّا كون التراث أفاد من مكونات العولمة وطرائقها، بحسب ما ورد في سؤالك؛ لا أعتقد أنّ أحداً ينكر ذلك، ولكن بالمقابل، يبدو أنّ الواجس خيفةً من تقلبات ثقافة العولمة، التي أحدثت شرخًا في مكونات الذات، وبنية الواقع، إلى الحد الّذي غير من المدركات المُلازمة للمُستجدات التي تقتحم كياننا، وسط محيط يتحوّل بسرعة فائقة، ويعطي ظهره للمبادئ اليقينية؛ الأمر الّذي أسهم في فقدان توازن تراثنا، وذلك بعد تدفق المعلومة الوافرة والأفكار المتراكمة، بخاصة المجلوبة؛ مِمَا يُطلق عليه بالمجال السايبريCyberspace  الّذي بات يسهم في توليد جيل جديد، تحكمه شبكات اِفتراضية عبر وسائل تكنولوجيا المعلوماتية على وَفق مطالب العولمة، ويُشكل جسرًا لعبور أفكار تتجاوز مركز المكان المحدود، ويُحوِّل التصورات الثابتة إلى تصورات متداولة. وقد باتت تأثيراته أعمق على البنية الأنطولوجية بتوسع المفاهيم والكيانات، فضلاً عن اِستثماره في تنظيم شبكة بيانات المعنى Le Web sémantique، والربط بين العلاقات ذات المعنى بإشراك المتصفح، رغبةً في إنتاج المعنى الدلالي المُراد له.
أمّا مسألة التحديات التي يُواجهها التراث الجزائري، فإنّ ذلك بحاجة إلى قرارات حازمة من الجهات المعنية، تربوية، وتعليمية، واجتماعية، وسياسية، بالنظر إلى ما أحدثته ثقافة العولمة من رجَّة عنيفة، صار فيها واقعنا يسير سيرًا أعمى مع ما تقدمه ثقافة العولمة من مزايا، ومثالب، في الآن ذاته؛ لأنّ ما يُحرك الكوكبة الفضائية [الأرض] أربعة محركات مرتبطة بعضها ببعض، وهي العِلم، والتقنية، والصناعة، والاِقتصاد التنموي، وإنّ هذا المُحرك الرباعي هو الّذي يُشكل كوكبنا، الّذي فقد توازنه في واقعنا، وفي حال لم نتدارك هذه الرباعية، فإنّ هويتنا الثقافية، ومستقبلنا المعرفي، سيظل حبيس التمسك بالقشور، وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن فصل ثقافة العولمة المجدية بواقعنا، وإلاّ قد تتحوّل معايير المعرفة والإبداع في ساحتنا الثقافية إلى جذمور Rizoma من دون كابح، ومن دون توجيهٍ سليم.
من هذا المنظور، تُعد ثقافة العولمة، -المقصودة في هذا المقام-  تحدياً أكبر لثقافتنا الوطنية -في كلّ شيء- بعد أن تمردت ثقافة العولمة على كلّ ما هو مُنظَّم، وموحَّد، ومنطقي، في مقابل مستلزمات التواصل الشبكي من تدفق المعلومات، وخلق فضاء اِفتراضي، والمُلتمس الوصول بأقل مسافة (زمانية/ مكانية، ومادية/معنوية).

الرجوع إلى الأعلى