تروي رواية «التراس» للروائي الجزائري كمال قرور (الدار العربية للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف  2008)، على لسان راوٍ لا نعرف عنه شيئا، قصة الفارس الذي يدعى «التراس» –والتراس في اللهجة الجزائرية يعني الرجل– صاحب البطولات الخارقة، الذي وفي لحظة انتصار على جيوش «العماليق» يختفي فجأة، كأنّ يدا من عالم آخر خطفته، أو أنّ أرضاً ما ابتلعته، ليخلّف وراءه مملكة تداعى عليها الأنذال والأعداء، وشعبا معلّقا على حافة انتظار قدوم المعجزات، وعشيقة تدعى «بنت الحسن» تحيك برنوس عاشقها المغوار في انتظار قدومه لترتمي بين أحضانه.
ار اختفاء «التراس» مركز حيرة سكان «مملكة الشمس»، بل حيرة الراوي الذي بدا أنّه هو الآخر يجهل سرّ اختفاء هذا البطل. الجميع يسأل. لماذا اختفى؟ وهل سيعود هذا الفارس ليُخرج المملكة من عصر كقطع الليل حالكة السواد؟ وكل هذه الأسئلة تشكل بؤرة السرد الأساسية. يقوم السرد في الرواية على اختفاء البطل.

بن علي لونيس/ أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة بجاية

بين الأسطورة والواقع
يقول الراوي «هي حكاية تروى للعبرة والاعتبار». (ص07) هذا يعني أنّ قصة الفارس هي رسالة مشفّرة تفكّك واقعاً نعيش فيه، بعد أن أعادت تشكيله ضمن منظومة سردية تجتمع فيه الأسطورة والخرافة والحكايات العجيبة، قصة «التراس» تقدّم لنا «عبراً» للاعتبار، وتحمل رسائلاً تنبّه الغافلين في «زمن الغفلة الجماعية» حيث الناس سكارى وفاقدي الوعي، تعطّلت أرواحهم عن الإحساس بالخطر، يختزلون مستقبلهم في (انتظار البطل المنتظر).
إنّه الزمن الذي باع روحه إلى الشيطان، في الرواية، يختفي الفارس البطل بعد انتصارات خارقة على أعداء المملكة، قبل أن نكتشف –كقراء أخذتهم حيرة الاختفاء– أنّ العدو الحقيقي هو ذاك الذي تحسبه في صفّك. هناك من أهل المملكة من ناصب العداء السري للتراس، لأنهم وجدوا فيه ما ينقصهم، ووجوده يشكّل تهديداً لمصالحهم. كانوا في الأصل أربعة: «المسؤول العسكري الجنرال بودبزة» و»المحافظ السياسي بوخبزة»، و»إمام المسجد الكبير» و»الصحفي كمال بوترفاس».
إنّها السلطات الأربع التي تشكّل خطرا داخليا في أي دولة، وهؤلاء قد كانوا أشد الشخصيات بغضا وحقدا للتراس –البطل المحبوب عند شعب المملكة– لهذا، حين اختفى «التراس» في ذلك اليوم المشؤوم، تآلبوا على حبيبته «بنت الحسن».
ولأنّ الأطراف الأربعة أحبوا الأميرة الحسناء، فكان على كلّ واحد منهم أن يظفر بقلبها ويقضي على الطرف الآخر المنافس، فاستطاع الجنرال العسكري في الأخير إزاحة كلّ منافسيه «المحافظ السياسي، الإمام، الصحفي» لتخلو الساحة أمامه، ثم يعترف في الأخير أنّه هو من طعن «التراس» من الظهر حين همّ بسيفه على السد الذي شيده جيش العماليق لحجز مياه نهر المملكة.
كأنّ القصة تجسّد رمزيا واقعنا العربي اليوم، لكنه واقع بلا بطل يعيد إليه روحه، بل وطن تداعت عليه الأمم، وتداعى عليه الأعداء، من الخارج والداخل، فساد حكم أصحاب البدلات الكاكية، ودخلت الأنظمة في تصفيات ومؤامرات لأجل الاستحواذ على السلطة المطلقة، واحتجزت الشعوب في محتشدات كبرى تدعى أوطانا، فأوهموهم بأنّ الوعي يمثل الشقاء، ولذلك عمدت هذه الأنظمة إلى تخريب عقولهم بالأوهام والخطابات المخدّرة.
في الحاجة إلى بطل
ليست الخرافات والأساطير إلاّ تجسيدا رمزيا للرغبات اللاواعية للجماعات البشرية، كلّ جماعة بشرية تهتدي بالأساطير والخرافات لتملأ فراغاً ما في حياتها اليومية.
في زمن الحروب والشدائد، تزداد الحاجة إلى أبطال أشبه بالآلهة، تنتصر للخير ضد الشر، وتنشر الأمل بالمستقبل. و»التراس» أحد هؤلاء، إنه بطل شعبي خرج من عمق لاوعينا الجمعي، في زمن بلا بطولات، «أبدا لم يكن التراس إنسانا عاديا.. بل كان إنسانا غريب الأطوار منذ ميلاده الغامض الموغل في التاريخ السرمدي.» (ص10).
من يكون «التراس»؟ إنه «ملاك في صورة إنسان أرسله الخالق إلى الأرض لينقذ الناس من الظلم الذي لحق بهم: (11) إنّ ما يصنع البطل هي الأساطير التي تنسج تفاصيلا خارقة عن شخصيته وعن أصله وحياته، إنه بمثابة الإنسان الأعلى، الرسول الذي أرسله الإله إلى البشر لغاية محدّدة وهي إنقاذهم من «الظلم»، هذا يعني أنّ ظهور البطل ملازم لانتشار الطغيان بين العباد، ولابد أن يكون بمواصفات فوق –بشرية، حتّى يحمل الأمل إلى البشر.
عاش «التراس» كلّ العصور، عايش أنبياء الله، وأحداث التاريخ الكبرى، عاش في كلّ مكان، زار كلّ البقاع على وجه الأرض، كان مطلعا على علوم الأمم وأخبارهم، وملما بأساطيرهم.
ولمّا جاء المُغتصب كان أوّل من ثار عليه، ودعا إلى «ثورة عظمى» لطرده. في كلّ ثورة وجه أسطوري، تتناقله الأجيال، وتتوارث من خلالها قيم البطولة. لابد من صناعة بطل ما لتنجح أيّ ثورة، فليس العدو فقط من يُصنع.
لهذا فإنّ كسر شوكة أي ثورة تكون باستهداف ذلك الرمز –البطل، وهذا دأب العماليق الذين بحثوا عن كل السبل للتخلص من التراس. حين تنهار رموز البطولة القومية تسقط معها آخر قلاع المقاومة، ويصبح الشعب أعزلاً، دون مرجعية يعود إليها.
لا يوجد بطل دون قصة حب
«بنت الحسن» هذه الأميرة الحسناء التي هام في حبها رجال المملكة، وهامت في حب «التراس». كم كانت تشبه «بينيلوب» في الأسطورة اليونانية، التي لم تستسلم لغوايات الطامعين من رجال المملكة الذين كانوا يراودونها في شرفها، لكنها حبست نفسها في قمرة أعلى القصر، تحيك النسيج، وقلبها متشوّق لعودة «أوليس». «التراس» هو «أوليس» آخر، غاب واختفى، وهام بوجهه في مكان يجهله الجميع، وغدر به الأصحاب، كما غدروا بأوليس في غيابه.
هل هناك بطولة دون قصة حب؟ الحب في هذه الحالة، لا يؤدي وظيفة رومانسية الغرض منها استلطاف أجواء الحكاية، أو جذب القراء المراهقين الذين يجدون في حكايات العشق والصبابة ملاذا روحياً لهم، بل حضور الحب في حكاية «التراس» كان ذا وظيفة مأساوية. المأساة هي النار التي تخرج معدن الحب الأصيل. لا حب دون نار تحترق مصائر العاشقين. «بنت الحسن» وعلى الرغم من إغراءات الجنرال، ثم تعذيبه لها، وتشويه سمعتها، ظلّت وفية لحبها للتراس، وكانت مؤمنة بأنّ لاختفائه حكمة ما، وأنّه سيعود يوما ما. الحب هو أن نؤمن بمن نحب.
سلطة النبوءة
تقوم أحداث الرواية على الدور الحاسم الذي لعبته «النبوءة» في مصير شخصية «التراس» و»المملكة» في الآن ذاته، فجدته «نانا خدوج» تنبأت بالخطر الذي يأتي من جهة البحر، وبالعماليق الذين سيغزون المملكة لأجل تحويل مجرى النهر الذي هو عصب الحياة فيها، ومنها سيتحدد مصير «التراس» وكل سكان المملكة. إنها النبوءة التي تقف فوق التاريخ، لأنّ صداها يخترق أسواره العالية، هي النبوءة التي مازالت تتحقق كل يوم، طالما أنّ الأخطار المحدقة تأتي من خلف البحر، وتخفي مصيرا مشؤوما. «نانا خدوج» ليست عرّافة بل هي «عارفة» بأحوال التاريخ جيدا، فقد عاصرت القرون كلها، وعايشت الأمم والأحقاب، وفهمت بغريزتها أنّ ما يصنع تاريخ الأمم هو العنف.
أخبرت حفيدها «التراس»، بأنّ الخطر قادم من الداخل أيضا: «واحذر يا ولدي... فبسببها يكرهك الأصدقاء ويكيدون لك كيدا مع الأعداء..» (22).
دروس في المواطنة
يمكن أن ننظر إلى «التراس» من زوايا متعددة، فهو شخصية غنية بالدلالات الرمزية، فالتراس ليس بطلا خرافيا، لكنه أيضا قد يكون نبيا «كانت مهنته رعي الغنم قبل أن يتحوّل إلى رعاية الرعية»، وهو بطل قومي «محب للوطن، ومنافح على الحمى»، ورمز للمواطنة الأخلاقية، فهو كثير القراءة والاطلاع بأحوال الأمم السابقة وبما خلفوه من كتب في الأخلاق والفلسفة...إلخ كان مربيا لرعيته كلما وجد فيهم لسوكا منحرفا، وكانت دروسه تنضح بقيم المواطنة الحقيقية.
«التراس» هو أيضا نموذج للمواطن العصري، مؤمن بأنّ ما يفرّق البشر عن الحيوان، أنهم قادرون على التغيّر والتطوّر عكس الحيوانات التي تبقى سجينة نظامها الغريزي الطبيعي الثابت. على سكان المملكة إن أرادوا أن ينهضوا من سكرتهم أن يخرجوا من طور الحيوانية (يقصد هنا أنّ ثقافة الاستهلاك هي إحياء للسلوك الطبيعي في الإنسان، وهي ثقافة قائمة على إثارة غرائز الإنسان وجعله سجينا لها)، ويبنوا وجودهم على العقل والعمل والتطور. يضع أمامنا «التراس» معادلة المواطنة الحقيقية.
لا مواطنة دون كرامة، ولا كرامة دون مساواة بين الرعية. إننا نقرأ عبر أفكار «التراس» خطابا حداثيا عن الشكل الصحيح للمواطنة، حين يكون للإنسان كرامة تجعله يُحسّ بقيمته الإنسانية. إذا غابت كل هذه القيم، تكون الظروف ميسّرة لأعداء الداخل والخارج ليعيثوا فسادا في المملكة، وهذا ما حدث لما اختفى «التراس»، وضاعت كل مكاسبه؟.
التراس.. أو الحاجة إلى أب
حين غاب «التراس» انهزمت المملكة، وساد فيها الفساد، ويئست الرعية، ودخلت في غيبوبة، تنتظر علامات ظهور الفارس الذي اختفى. «التراس» هو الأب الرمزي الذي يخلق الأمان والانسجام في المملكة. الرعية هم أولاده، وقد اختلفت مشاعر الأبناء إزاء هذا الأب، البعض أراد قتله والظفر ببت الحسن (التي قد تكون بمثابة والدتهم المشتهاة)، كسبيل للظفر بسلطة أقوى. لكن الأب لم يُقتل، بل اختفى، الأمر الذي يعني أن أشباحه مازالت تخيّم حول المملكة. تبيّن الرواية أنّ البنية العميقة للمجتمعات العربية هي أبوية، ذلك أنّ حضور الأب هو الضامن الوحيد للانسجام وللقوة، لهذا فإنها مجتمعات تخاف أن تعيش دون أب يرعاها، ويحنُ إليها ويقسو عليها. والحاكم يجسد عربيا رمز الأب المطلق الذي يتعامل مع شعبه باعتبارهم أبنائه. وعندما غاب هذا الأب عمت الفوضى وثار الأبناء على بعضهم البعض، وأشعلوا البيت الذي كان يجمعهم جميعا لما كان الأب على قيد الحياة.

التراس.. أو الفارس الفحل.. كيف تتحول البطولة إلى دلالة جنسية
«التراس» رمز للفحولة المشتهاة، فكل نسوة المملكة يرغبن فيه، ويشتهين الوصال به، بمن فيهن الثيبات. «وكانت كل فتيات وطنه معجبات به يخفين ملامح كبريائه تحت وسائدهن ليتأملن قبيل النوم علهن يظفرن بمغامرة معه في منامهن.» (33) أما المتزوجات، وبسبب التقاليد المحافظة، فكن يكتمن إعجابهن بالفارس، وفي المقابل يحملن غصة في دواخلهن بسبب أنّ أزواجهن لا يحملون أدنى صفة من صفاته. كان، كلما يمر بالقرب من عوانس المملكة، كن يقمن بحركات إباحية تعبيرا عن رغبتهن فيه، وكان منتهى أحلامهن أن يخطفهن بجواده ويطر بهن إلى عالم بعيد. إنها أحلام الرغبة، فالتراس هو نموذج للفحولة المشتهاة، والتي هي وجه من الوجوه المكملة لصورته كبطل ملحمي.تقدم لنا الرواية البطولة كبناء جنسي كذلك، لكن دونما الوقوع في المحظور، فلا يمكن للتراس أن يسقط بسهولة في أحابيل عاشقاته، هنا تبرز العلاقة المتقابلة بين الذكر –الفحل المتعالي على متعه الجنسية، وبين الأنثى –الشبقية التي تنساق خلف متعها الجنسية، وهي العلاقة التي تكشف عن البناء الاجتماعي القائم على أساس الترفع الأخلاقي للذكر –الفحل، والضحالة الأخلاقية للأنثى – الشبقة.وتجسّد «شهلة بنت الإمام» نموذج الأنثى –الشبقة، والتي تجد في منحها لجسدها للتراس اكتمالا لوجودها، وانتقاما لغيرها من نسوة المملكة. هذا النموذج من المرأة يتميّز بقبول هامشيتها اتجاه الرجل «كن سيدي.. سأكون خاتما في إصبعك..» (35) وهي على عكس صورة «بنت الحسن» التي ظلت تحب بقلبها وعقلها.
إنّ الرواية التي كتبها كمال قرور صغيرة الحجم، وقد نعتبرها أصغر رواية من حيث الحجم في الجزائر، فعدد صفحاتها 72 صفحة، لكن من سيكترث بحجمها، في الوقت الذي صنعت عالما بأكمله، وخلقت بطلاً ملحميا، واستطاعت فوق ذلك أن تحفر في لاوعي الحكاية الشعبية، لتمسك بما يمكن أن نسميه «الأساس»، الرواية تنبهنا إلى غفلتنا، من هذه الجهة، لا يمكن تبرئتها من كونها رواية سياسية أيضا، لأنّها ومن وراء واقعيتها السحرية نرى الواقع الذي نعيش فيه، ونرى ضياعنا التاريخي من خلال سيرة خيالية لبطل مختفٍ.تنبهنا الرواية، أنّ الزمن ليس زمن البطولة، فهذا الزمن قد ولّى وانتهى، ولم يبق من البطولة إلا الحكايا والأساطير، وليس اختفاء «التراس» إلا علامة على هذا الاختفاء للبطولة. سنفهم، أنّ تخلفنا في جزء منه، هو نتاج لثقافة الانتظار والرجاء في الآتي، وهي الثقافة التي من طبيعتها أنها تعطّل أجهزتنا التاريخية، وتجعلنا نحوم في عالم هلامي بلا شكل وبلا ملامح محدّدة، وفي هذا ما يثير الخوف من مصيرنا الجماعي، والعالم العربي –وأظن أن الرواية قد تنبأت بما يقع اليوم– ممزق بسبب أوهام البطولة.

الرجوع إلى الأعلى