في ملف «كراس الثقافة» لهذا الأسبوع، يتحدث مجموعة من الدكاترة والباحثين المهتمين بشؤون المسرح، عن أهمّ القضايا والإشكالات التي أحاطت بموضوع المسرح والوسائط أو ما سميّ بـ «المسرح التفاعلي» و»الفُرجة الوسائطية». هذا النوع من المسرح انتشر في الغرب وصار له رواده ومريدوه. لكن لم تتسع رقعته بعد في العالم العربي. وحسب الدكاترة الذين شاركوا في ملف «المسرح التفاعلي» فإنّ المستقبل كلّ المستقبل لهذا النوع من المسرح. لكن يبدو أنّه عربيا مازال الوقت مبكرا عن الكلام عن مسرح رقمي وهذا لعدة أسباب على رأسها الأمية الرقمية سواء من طرف المبدعين أو المتلقين، وعدم تعوّد الجمهور على هذا النمط من العرض المسرحي.
الملف يحاول أيضا طرق بعض القضايا المُتعلقة بالمسرح التفاعلي وتسليط الضوء على بعض جوانبه.
إستطلاع/ نوّارة لـحـرش

صورية غجاتي: كاتبة وباحثة أكاديمية –جامعة قسنطينة
ثورة سينوغرافية أخرجته من عباءة «النصّ» وسُلطته وتقاليده
إنّ الحديث عن المسرح الوسائطي هو حديثٌ عن التحوّلات التي طالت المُمارسة المسرحية العالمية والعربية بانتقالها من شِعرية النصّ إلى شِعرية الصّورة، ومن ثمّ تقويضها لمنظومة الدراما التقليدية بكلّ مفاهيمها ومقولاتها التي يُمكن اختزالها في سيادة النصّ وثنائية «الهُنا» و»الآن»، وهو ما ولّد جدلاً في أوساط المشتغلين في المسرح الذين انقسموا بين مؤيد ومعارض، أو بين مُنتصرٍ للفرجة الوسائطية ومنتصرٍ للفرجة الحية، حيث يذهب (فيليب أوسلاندر-Philip Auslander) إلى الاعتقاد بأنّهما مترابطان لا متباعدان من حيث أنّ الفُرجة «الحيّة» قابلة للتوثيق والحفظ في وسيطٍ آخر. أمّا (بيكي فيلان) فقد اعتبرت أنّ الفُرجة الحية المباشرة زائلة وغير قابلة للحفظ والتوثيق في وسيطٍ آخر، ذلك أنّ خاصية الزوال هي الشرط الجوهري لوجودها ومن ثمّ فإنّ أيّ محاولةٍ لتوثيقها في وسيطٍ آخر، تُفرغها من محتواها وتجعل منها شيئاً مختلفاً، بالنظر إلى أنّ منظورنا لها سيكون مُقيداً بزاوية نظر الكاميرا التي سجّلتها. وتتحدث الألمانية (إريكا فيشر لشته)، في السياق نفسه، عن خاصية (الحلقة المُرتدة لتبادل الأثر) التي تجعل عملية التواصل في الفرجة الحية عملية لولبية يتبادل فيها المُرسل والمستقبل الأدوار فيما بينهما، فيتحوّل المُستقبِل إلى مُرسل والمُرسل إلى مستقبِل.
إنّ المسرح الوسائطي في مواجهة مقولة «تلوّث المسرح»: يقودنا الموقف الثاني وهو الموقف المنتصر للفرجة الحية المباشرة، إلى ما أسماه (أنطونيو بيتزو) بـ»تلوّث المسرح» مستنداً إلى فرضية «نقاء» المسرح، ومن ثمّ تلوّثه بفعلِ تأثيرات العالم الرقمي ووسائطه وهو ما يدفعنا إلى طرح التساؤلات الآتية: -هل كان المسرحُ فيما مضى فنّاً خالصاً؟ وهل يُشكّل البُعد الرقمي والوسائطي في المسرح خطراً على وجوده، وتهديداً بزواله، موتِه، ونهايته، أو نهاية الفنّ عموماً؟. وإذا كنا قد تجاوزنا في الدرس النقدي المسرحي هاجس «التأصيل» وما اقترن به من معاني: «الأصيل» و»الدخيل» و»الهجين»، أفلا يعني ذلك تجاوزَنا لفكرة «النقيّ» و»الخالص» وثنائية (الفني/التقني) لصالح فكرة «التناسج» في ظلّ عالمية الفنّ من جهة وعالمية الوسائط الإلكترونية من جهة أخرى؟. أيضا إذا كانت الخلفية التي أطّرت التحوّلات السياسية العربية الأخيرة وما نتج عنها من تحولات سوسيو-ثقافية بِفعل ما سُميّ بالربيع العربي، خلفيةً إلكترونية وسائطية وليست خلفية تقليدية، فكيف يمكن إنكار تأثيرها على عالم الفن عامة والمسرح بخاصة؟
إنّ المسرح الوسائطي مثلما له من الإشكالات الكثير له أيضا من المنجزات الكثير. فقط تمكّن المسرح الوسائطي من تحقيق دراماتورجيا بصرية مُغايرة على عدة مستويات أبرزها مستويي الأداء، والسينوغرافيا: فعلى مستوى الأداء، أزيح الممثل عن مركزيته بوصفه عنصراً محورياً في الشّعرية الكلاسيكية، وتحوّل إلى أداة كباقي الأدوات والأجهزة ذات البعد السمعي البصري، فظهر أسلوب المضاعفة عن طريق الجمع بين الأداء الحي المباشر للمثل، والأداء عبر وسيط، ومثال ذلك عروض (روبرت لوباج/Robert Lepage) التي جمّع فيها شاشات متعدّدة، تُبثّ فيها صور مسجّلة قبلاً وأخرى مباشرةً للممثل نفسه. وعلى مستوى الفضاء السينوغرافي: لم يعُد الفضاءُ منظوراً، مادياً، ملموساً، ثابتاً في الزمن، بل تحوّل إلى «فضاء افتراضي/Cyberspace» من حيث هو معمار مائع، مجرّد، متحرّك في الزمن، «معمار سائل/Liquide Architecture» نُحسّ به ولا نلمسه، كما هو الحال في الفضاء ثلاثي الأبعاد 3D، وكلّ فضاء متخيّل منفتح على المستقبل.
وعلى العموم فقد أحدث المسرح الوسائطي ثورةً سينوغرافية أخرجت المسرح من عباءة «النصّ» وسُلطته وتقاليده، وجعلته يُحلّق في سماء دراماتورجيا بصرية، أثبتت أنّ المسرح هو الفنّ الأكثر عبورية من بين باقي الفنون، الفن الأكثر مرونة واستيعابا لباقي الفنون والتقنيات. ورغم أنّ البُعد الوسائطي في المسرح قد أثار الكثير من الإشكالات في التلقي، غير أنّ السعي لتغيير الخبرة الجمالية كفيلٌ بتجاوزها.

علاوة كوسة: كاتب وناقد وأكاديمي –المركز الجامعي –ميلة
رهان المسرح في مسعى الانفتاح على الوسائط
راهنت كثير من الفنون والآداب والثقافات على التكنولوجيات الحديثة واستثمرت في ممنوحاتها التي تزيد هذه الفنون والآداب انتشارا، وتطورا، ولقد منحت الوسائط التكنولوجية المعاصرة مساحات فنية قرائية شاسعة للمتلقي، وفتحت بوابات كثيرة بين المبدعين والقـراء، ليس فقط من حيث اطلاع طرف على منتج الطرف الآخر، وإنّما من حيث تشارك الطرفين في صياغة المنتج الأدبي أو الفني، بصيغ تفاعلية عديدة، منحتها الوسائطية المعاصرة، التي لها الكثير من المزايا على إنتاج المادة وانتشارها والتفاعل بين أطرافها المنتجة، ويُعد المسرح أحد هذه الفنون المعاصرة التي انفتحت على المتتبعين والمهتمين وسائطيا، واستثمرت في ما تمنحه الوسائط التكنولوجية المعاصرة، فتحقق التفاعل بهذا الانفتاح، ولم يعد النص المسرحي ثابتا في صيغته وبالصورة الأولى التي خططه به كاتب هذا النص، وإنّما صارت النصوص المسرحية تأخذ صيغا متعدّدة، ولم يعد الناص وحده من يتحكم في بنيات النص المسرحي، وإنّما صار للمتلقي الافتراضي التفاعلي عبر الوسائط دورٌ في صياغة وبناء هذه النصوص، وذلك من خلال ما يمنحه الناص الأصلي من خيارات، واحتمالات اختيار للقراء التفاعليين، وهذا ما من شأنه أن يفتح مساحات دلالية وقرائية كبيرة، ولا يقوض معاني النص الواحد ويجعله حكرا على منتجه، كما امتدت سلطة الوسائطية في المسرح لتمس جوانب العرض المسرحية أيضا وذلك من خلال انفتاح الشركاء الفنيين في إنتاج النص المسرحي على الوسائط المعاصرة مع المتلقين والمتابعين والجمهور الافتراضي أيضا، عبر قنوات مختلفة وعبر مسايرة ومتابعة -عن كثب- للجمهور المسرحي لكافة مراحل إنتاج النص المسرحي وتحويله مسرحا على الركح، ومشاركته في تغيير بعض الأحداث أو طريقة عرضها كما يمكن للجمهور أيضا وعن بعد المساهمة في مشاهد العرض وإبداء رأيه في كلّ الجوانب الفنية للعرض، كإبداء رأيه في السينوغرافيا والتراكيب الموسيقية وفي كلّ تفاصيل الركح، وهذا ما يجعل المخرج على لقاء أولي بجمهور افتراضي قبل الجمهور الواقعي بدور المسرح، وهو ما يمكننا من القول: إنّ المسرح صارت تتـنازعه أطراف افتراضية وأخرى واقعية بصيغ تفاعلية مختلفة، وإذا كان رهان المسرحيين كُتابا وممثلين ومخرجين وشركاء فنيين في مجال المسرح رهانا كبيرا لما يمنحه من انتشار وسرعة في التفاعل، فإنّ للوسائطية بعض السلبيات أيضا لأنّها تسير بأبي الفنون نحو الافتراضية والعوالم العنكبوتية بصورة مدهشة قد تحرمنا وهج المسرح الواقعي والركح الأصيل والجمهور الواقعي الّذي يحب أن يمتلئ متعة بين مدرجات المسارح بطقوسها وتقاليدها التي عمرت آلاف الأعوام، ما دامت المسارح الافتراضية قد تجعل المشاهدين رهيني البيوت والأنامل الأنترناتية بعيدا عن حميمية المسرح الّذي عرفناه، وهذا ما لمسناه في قراءات ودراسات وأبحاث بعض المتخصصين في المسرح التفاعلي ومنهم الدكتور حمزة قريرة والدكتورة صورية غجاتي.

الرجوع إلى الأعلى