لم تكن مجازفة أن أقبل بدون تردّد دعوة العراق إلى مربد البصرة، ومعانقة أرض الحضارات الإنسانية، وآخر قِلاع الشّعر الصامدة في وجه الحروب والدم والدمار الّذي يمتد من الماء  إلى الماء. ولم تكن بطولة أن أذهب بدون حسابات الخوف، وأسئلة الواقع المثبطة لأكون هناك في روح الشّعر مع السياب ومع جدنا الجاحظ والفراهيدي، والكندي، وأبي نواس وبشار بن برد. الرحلة إلى بلاد الرافدين هي إطفاء بعض حرقة أبي على بلد عظيم احتل، وعلى ظلم تاريخي لن تمحوه الأيّام. تلك الغصّة التي غادر بها والأرض العربيّة تسقط شبرا شبرا وجبلا جبلا.
نصيرة محمدي
من الطائرة ودعت «آلجي» في يوم بارد ومُمطر إلى هناك حيث يتجلّى كلّ شيء كما قرأته وشاهدته مبتورا ومعذبا ومجروحا بكلّ ما تخلفه الحروب من رماد وندوب ومآسٍ وحكايا مفجعة. بعد رحلة طويلة أصل مطار البصرة الدولي صباحا. مطار بسيط وعمال يشتغلون في ظروف قاسية أتأمّل الوجوه القادمة من جهات العالم إلى أرض تنام على كنوز من الذهب، يعتاش منها العراق كلّه، وتاريخ نائم على أمجاد تليدة وحضارة عريقة.
في الاستقبال كان الشاعر هيثم يرحب بالضيوف، ويُسهل نقلهم إلى الفندق الّذي أُشع بابتسامة الشاعر حبيب سامر والأصدقاء الشعراء. كانت الشّمس حارة تلقي بنورها على الصحراء التي يحضنها شط العرب، ويلفها بشريط من النخيل المُصر على الحياة برغم كلّ ما مرّ على هذا المكان الأسطوري. كانت الحياة تدب دبيبا والعراقيون يسارعون إلى أعمالهم، وينبعثون من رمادهم في كلّ مرّة. لكم تشع عبقرية العراقي وهو يعيد صياغة الحياة، ويحوّل أنهار الدم إلى حياة وإبداع وفن. لكم تستعيد في وجوه العراقيين ذاكرة الشّعر والموسيقى والتشكيل والمسرح، والعِلم حين كان العراق قِبلة العلماء ووجهة الكُتاب والقراءة. ذلك الشغف الّذي يكبر في جيناتهم، ويفسح للنّور والإبداع أن يكون عنوانا لهذا البلد الّذي ينظم أكبر مهرجان شِعري في العالم يجتمع العراقيون ليقرؤوا شِعرا ولينصتوا لأصوات متعدّدة من كلّ الجهات. هندام أنيق يليق بحضرة الشّعر، وصخب عراقي لذيذ يُحاكي حركة الحياة وعنفوانها. قراء منتبهون للقصائد، ولأخطاء الشعراء وزلاتهم. واحتضان للأرواح القادمة في امتحانها مع الشّعر حين تلتقطه قلوبهم الحارة، وعيونهم الجميلة الممزوجة بحزن عراقي عتيق.
حدّثتني شاعرة عراقية على الهامش حين مدحت رجال العراق قائلة أنّ العراقي قادر على فعل كلّ شيء، ويُجيد كلّ شيء إلاّ أن يُجيد حب امرأة. لم أعتد برأيها أنا التي تشبعت بشعر عراقي يفيض حبا، ويكتنز جمالا نادرا. في إطلالتي على مدينة البصرة تجوّلت برفقة أصدقاء في الأحياء القديمة وتلمست الشناشيل، وبهاء الخشب ولغته القادمة من غابر الأمجاد. كان النهر كئيبا ومُهملا مثلما تُهمل عاشقة، وكانت عيني التي تسمعها هنا وهناك تنساب بملوحة ضارية على حال مدينة أهدتني خرابها وجمالها المجروح.
في وسطها ينتصب الجسر العظيم الّذي بنيّ حديثا وتمثال المرأة الشهيدة التي احترقت في سيارتها إثر انفجار رهيب. واحترقت ملابسها عليها ورفضت الخروج عارية بنهديها المحروقين. تلبستني الحكاية وتذكرت تمثال امرأة سطيف والنهد المشوّه. لكأنّ المرأة تظلّ تدفع ثمن أنوثتها ويظلّ جسدها تهمة أبدية. ولكأنّ نساء العراق المجاهدات كُتب لهنّ أن يؤبنّ كلّ هؤلاء الشهداء. كانت حبة التمر الأولى التي تذوقتها حلاوة طريق مفتوح على الكرم والجمال والموسيقى العراقية التي تسربت من الخشابة وامتدت بمواويل لا يحسنها إلاّ العراقيون وهم ينصتون إلى ما قرأته من كتابي «روح النهرين» كِتاب لم يكن مُلهمه إلاّ «عراقي» تقاطعت بجرحه بين خطي الحياة والموت. سلاما يا بصرة السياب.. سلاما نهر الحياة الخالد.. سلاما يا عراق من جزائر الحريّة.

الرجوع إلى الأعلى