يعتبر مركز تعليم الفتيات المعاقات سمعيا الخياطة بقسنطينة، التابع للهلال الأحمر الجزائري، الفضاء الوحيد الذي يعنى بهذه الشريحة ، لكنه يكاد يكون غير معروف بالنسبة لأغلب سكان المدينة، لتواجده بقلب حي «الجزارين» الشعبي و حجب طاولات الباعة لجزء من مدخله، و كذا عدم تعليق لافتة تعرف بالمكان .
الكنيسة التي كان يقصدها المسيحيون الكاثوليك لأداء طقوسهم الدينية  خلال الحقبة الاستعمارية،  تحولت منذ 1990 إلى مركز لتعليم الفتيات المعاقات سمعيا حرفة الخياطة  ، حيث بادر مكتب قسنطينة  للهلال الأحمر الجزائري ، باستئجارها    من ملاكها الأصليين الذين يحملون الجنسية الفرنسية ، لتحويلها إلى مركز تستفيد منه شريحة المعاقات سمعيا للتغلب على معاناتهن.  
ورغم مجانية التعليم و توفير  الإمكانات المادية و المؤطرات لتعليم هذه الشريحة، لكن الإقبال يتضاءل من سنة لأخرى   ،  فيما لا يزال عديد المسيحيين  الكاثوليك من عنابة ، سكيكدة و حتى من خارج الوطن، يزورون المكان على مدار السنة
إقبال محتشم
الورشة  تعرف خلال السنوات الأخيرة إقبالا محتشما من طرف الفتيات اللائي يعانين من الصمم و البكم ، رغم مجانية التكوين و تقديم  الهلال الأحمر للمتربصات منحة شهرية للنقل ، و أرجعت مديرة المدرسة نجية بن الشيخ الحسين السبب إلى خوف الأولياء على بناتهم  من الخروج إلى الشارع و ما  قد ينجر عنه من عواقب ، خاصة أنهن لا يستطعن التواصل و إيصال رسائلهم للآخر بسبب عدم قدرتهن على الكلام و السمع من جهة، و عدم قدرتهن على الخروج منفردات كل يوم لممارسة حياتهن بشكل عادي، لأنهن لم يتعودن على ذلك .  و أضافت المتحدثة أن من يحضرن إلى المركز ترافقهن عادة أمهاتهن أو أخواتهن ، و يتميزن بالهشاشة النفسية و ضعف الشخصية و الخوف من المواجهة بعد سنوات قضينها داخل محيط العائلة فقط.
فتيات قهرن الإعاقة
و كسرن حاجز الصمت
عندما تدخل المركز يختلجك إحساس غريب لأول وهلة، فالصمت الرهيب يطبق على المكان و الفتيات يعملن كالنحل بكل انضباط ، في حين تزين ملابس و رسومات الجدران لتعكس ما بداخلهن و ما عجزت ألسنتهن البوح به من أحاسيس، هن فتيات تحدين الإعاقة و المجتمع و يحاولن رغم كل العراقيل التعلم و إثبات الذات.
سهام ، 33 سنة، من بين المتربصات بالمدرسة، استطاعت كسر حاجز الخوف عندما التحقت بالمدرسة لتعلم حرفة أخرجتها من العزلة التي عاشتها طيلة حياتها، فأصبحت اليوم تجيد الخياطة، و اقتنت آلة خياطة تستعملها لخياطة و ترقيع ملابس أفراد عائلتها،  و تطمح اليوم أن تصبح خياطة محترفة تعتمد على نفسها لضمان قوتها و تستقل ماديا عن أهلها.
قالت مديرة المركز السيدة  نجية إن سهام كان فتاة منطوية جدا خلال الأشهر الأولى من التحاقها بالورشة ، و كانت ترفض الآخر رفضا مطلقا مهما كان جنسه أو طبيعته، بعد أن قضت حياتها داخل بيتها لا تفارق عائلتها ، كما أنها كانت عاجزة عن التواصل حتى عن طريق لغة الصم البكم التي لم تكن تجيدها .
و كانت ترافقها والدتها أو شقيقتها كل يوم من أجل الالتحاق بالمدرسة و ينتظراها هناك إلى غاية نهاية الدوام و العودة للمنزل المتواجد بإحدى بلديات الولاية ، و أضافت المديرة أن  سهام أبدت بمرور الوقت رغبة كبيرة في التعلم و تحدي الإعاقة ، و كانت البداية بالخروج و الالتحاق بالمدرسة بمفردها و هي التي لم تخرج يوما لوحدها منذ ولادتها ، و ما هي إلا أيام حتى أصبحت شخصا آخر ، بعدما تصالحت مع ذاتها و تعايشت مع إعاقتها، و طموحها مستقبلا هو فتح ورشة خاصة بها.
مسيحيون يحجون للمكان كل سنة

حسب مديرة المركز  نجية ، فإن عديد المسيحيين يزورون المركز على مدار السنة قادمين من عنابة و سكيكدة و حتى من خارج الوطن، لأنه كان كنيسة في الماضي،  و يرمز لمعتقداتهم و لتاريخ أجدادهم.
و أضافت أن الكنيسة افتتحت للطائفة المسيحية الكاثوليكية بقسنطينة و الولايات المجاورة في سنة 1857، و بقيت تمارس بها النشاطات الدينية إلى غاية 1962 أي عند استقلال الجزائر ، ليستغل بعدها المكان من قبل جمعية حي الجزارين  بقلب المدينة، كفضاء لعقد الاجتماعات و إقامة النشاطات الثقافية ، و محو الأمية و كذا كمكتبة للمطالعة ، و بقي المكان ملكا للأبوين «جيسويت « تحت غطاء مؤسسة «الضوء « و التي تحمل حاليا تسمية» جمعية الجالية الدينية الكاثوليكية بالجزائر» .
و في سنة 1972 تم تأجيرها  إلى جمعية الصم البكم من أجل تكوين الفتيات في الخياطة ، مع العلم أن ورشة مماثلة كانت موجودة نهاية الستينات و كانت تابعة للكنيسة ، و بعد ذلك تم تأجير المكان للهلال الأحمر الجزائري من أجل افتتاح ورشة لتعليم الخياطة للمعاقات سمعيا بين 1990 و 1998 .
علما بأن المكان خضع سنة 1995 لإعادة ترميم بتمويل من قبل الكنيسة الميثودية  السويسرية ، ليبقى على ما هو عليه منذ 1998 إلى غاية اليوم، كورشة   لتعليم الخياطة.
و لاحظنا عند دخولنا محافظة المكان على نمطه العمراني الأصلي إلى حد بعيد،  خاصة السقف الذي نقشت على جوانبه الأربعة رسومات بالجبس على شكل رضع لهم أجنحة ملائكة،  و هي النقوش التي غالبا ما نجدها في الكنائس   ، ناهيك عن السلالم الخشبية الحلزونية المحاذية للمدخل و المؤدية إلى الطابق العلوي  ، الذي يضم أربع غرف مغلقة ، وضعت بها مختلف معدات الخياطة و التطريز ، و من الممكن أن يطل الزائر من هناك مباشرة على أسفل الكنيسة أين توجد طاولات و آلات الخياطة تلف حولها المتربصات ، أما جهة المحراب فقد تم تبليطها و تحويلها إلى مساحة صغيرة بها خزانة ضمت مختلف المجلدات و الوثائق الخاصة بالطالبات ، و طاولة صغيرة تستعملها مديرة المركز كمكتب خاص بها، أما واجهة البناية فلم يطرأ عليها أي تغيير ، حيث لا تزال النقوش و رمز الصليب موجودة، رغم آثار السنين و المناخ الذي طمس الكثير منها.
و تعد مدرسة تعليم الخياطة للفتيات المعاقات سمعيا بقسنطينة، المتنفس الوحيد لهذه الشريحة المهمشة بالمجتمع،  إذ تمنحهن تكوينا  لمدة سنتين يضمنن بعده اكتساب حرفة  قد يسترزقن منها مستقبلا.
علما أن المركز و إلى جانب الدعم الذي يوفره له الهلال الأحمر الجزائري يتلقى إعانات من المحسنين تتمثل أساسا في  معدات و مستلزمات الخياطة و كذا أدوات التفصيل ، و يضم حاليا أزيد من 8آلات خياطة حديثة، ، فيما تطمح مديرة المركز نجية بن الشيخ الحسين إلى إضفاء جانب اقتصادي له ليعتمد في تمويله على مداخيله، من خلال بيع مختلف الملابس و المستلزمات التي تنجزها المتربصات.
هيبة عزيون

الرجوع إلى الأعلى